بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب
بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

الخميس، 12 يوليو 2012

لم ترضعه الخالات! - للكاتب الصومالي الصديق الدكتور محمد علي ديريه

ونحن أيضا لاندري من أين جاء هؤلاء؟

من أين أقبلوا.. وكيف وصلوا لرأس الرأس في أوطاننا؟

لم يعد وطنك الأكبر مساحةً بعد اليوم.. لم يعد وارف الظلال كما تركته منتصف الثمانينات.. لم تعد به شلاليخ الخالات ولا ابتسامات الحجاج المرتاحين أمام بيوتهم عصريات الخرطوم وأم درمان.

الضرائب تصلك حتى في قبرك.. والكهرباء ما زلنا ننتظرها من سد مروي الذي وعدونا به في التسعينات.. وأخذوك إليه منتصف الألفين الميلادية ثم ضحكت وقلت: الآن أنا معكم 99% لأنك كنت تعلم أن هذا الواحد لن يصل ولن يكتمل.. تماما كالكهرباء المجانية التي سوف يصدرونها إلى كل الدنيا عدا بيوت الطيبين في بحري ودنقلا!

سلة غذاء العالم لم تعد – مقدودةً – كما يقول عنها عرب الشمالية سيدي.. بل أصبحت تستقبل معونات النرويج وزكاة السويد.. وأصبح الإنسان في دارفور عطشا للماء أكثر من شجرة موز ذابلة في كسمايو.
 
لم يعد السوداني عريض المنكبين كما تركته.. أبيض العمامة مثلما عهدته.. فارع الطول من بين العرب..

لقد أصبح – بفعلهم – موبوئا بالسل في كل الحدود.. راعيا للغنم جنوب مكة.. حاسر الرأس إلا من رائحة السفر في جسده.

الغرب.. غرب الوطن.. جنة الدنيا دارفور.. تلك البقعة الأكبر من فرنسا والموازية لنصف مساحة مصر.. تبدو الآن كبقرة حلوب فقدت ضرعها ذات جفاف.

وجوه الناس مالحة.. حلوقهم ناشفة.. والصور الخضراء استحالت آنيةً فارغةً إلا من عجوز ناحلة أمامها  تبدو أفرغ عودا من فؤاد أم موسى.

لم يعد هاشم صديق سعيدا منذ سنين.. لم يعد يكتب غزلا شفيفا.. لم يعد سوى الحزن النبيل والوجع الخرافي..

لو كان التيجاني يوسف بشير بينهم لما عرفوه.. لما وجد ثمن العلاج.. وربما كان الآن عاملا يصب البنزين في المنفى.. يضربه الصقيع.. فيتفل كور الدم من صدره المسلول.. ويبكي كمن يذبحه شكه ليلة الإلحاد.

أوفى التونسيون بدين أبي القاسم الشابي مطلع العام.. هتف باسمه النساء قبل الرجال.. ترك في الدنيا دويا كما تدارك سمع المرء أنمله العشر.. ولم يف أبناء قومك لإسماعيل حسن.. لو كان بيننا يوم الإنفصال لبكى في بيته طرف الشمالية.. لتلثم بعمامته البيضاء.. لما ترجل ساعة رفع علم السودان ليقول شعرا كذاك الذي أبكى أمي ساعة سماعه.. ولابيضت عيناه من الحزن وهو كظيم.

في العاشرة صباحا خرج علينا رجل لم ترضعه الخالات ولا العمات.. خرج علينا حليقا.. ناعم الشعر.. أصفر الوجه لا أسمره.. بلا تقاطيع كتلك المتواضعة في صوتك.. خرج علينا لاشاحبا أو باكيا.. خرج علينا يحمل كذبا.. يحمل ثوبا قد من قبل.. مبتسما ابتسامة الشبعان.. بوجه كشوال التمر المسوس.. يقول إن السودان لم يزل كبيرا بخيراته.. ممتدا من شرقه إلى غربه.. أخفى الجنوب تحت لسانه.. ومحى نصف الخريطة.. نصف النفط وربع الكركديه وثلث الحدود.. مشى على جثث ساحات الفداء بجزمة أمريكية الصنع..

وتيمم بالجفاف قائلا: لقد أصبحنا ثاني الأفارقة مساحةً.. وثالثها بعد السعودية والجزائر!

لم يخجل وهو يرمي ورقة التوتة الأخيرة عن بنطاله القديم.. لم يجد رائحة البارود في أنفه.. ولم ينفض عن قميصه الكالح زكاة المغتربين.. ولا دموع الراحلين بنصف ذخيرة سنين الحرب الطويلة.. حربا قالوا عنها جهادا وقتها.. واليوم يوقعون بآخر قطرة من دماء الشهداء اتفاقية الإنفصال.. أنابه الشيوخ والمآذن الهزيلة والقباب الراكعة خجلا من دموع الأمهات الثكالى عشرين عاما.

أنابه المشير الذي اشتاق للسفر فقال: سلام مع انفصال خير من حرب الوحده.. وأين كان فقهك يا هذا سنين المسغبة؟

مساءها.. ارتفع سعر الورق الأخضر.. أصبح لنكولن منتشيا أكثر على ورقة الدولار.. وهبطت أقدار الناس أكثر.. اختفى من البيوت حتى الملح.. أصبحت رائحة الخبز أشهى من رائحة الأم بعد السفر.. ولم يعد الرجل يستطيع أن يعزم صديقه على كأس الشاي ولاحتى كوب الجبنة.

في التلفاز.. ذهب رجل آخر ليأخذ العلم الذي رفع عاليا ساعة الإستقلال.. لم يعد السودان عربا ممزوجة بدم الزنوج الحارة بعد اليوم..

لم يعد النيل يتكلم العربية بلسان فصيح.. أصبح أعجميا بعد اليوم.. لم يعد هادرا يرسل نغمات الكابلي في كل الإتجاهات.. لم يعد يكفي لوضوء عجوز فصيحة من أرقو.. لم يعد كريما على برتقال الزيداب.. ولن تشربه تماسيح بدين لتأكله عذارى  المحس الضامرات حسنا ونحولا.

لن يعود النيل حليما صبورا كما كان.. لن يتحمل سدود أثيوبيا.. لن يكتمل سد مروي.. سيعطش أبوالهول ولن تمطر السماء كهرباء ولا نفطا.. سيجف كما جف الفرات.. سيتمرد تمرد العاصي.. وتعود السماء ملبدة بالأكاذيب التي أرسلوها عشرين خريفا.

بعد اليوم.. لا فرح في القلوب.. لا ضحك في الحناجر.. لا ماء.. لا خبز.. لا سكر.. فقط.. الأمن مستتب كما يهدأ الموتى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق