إن شخصية فذة ومتفردة كشخصية الشيخ زايد بن
سلطان آل نهيان- رحمه الله عز وجل-، لا تحتاج بداهة إلى قليل تقديم أو اختصار
توطئة، فمن ذا الذي لا يعرف هذه القامة الباسقة والمشرئبة دوما إلى العلا، كقامة
شجر النخيل في واحات العين أو بساتين أبوظبي، كما لا تعد هذه السطور بأية صورة من
الصور تعديدا لمآثر الفقيد أو تقييماً لإنجازاته التي يعشي نورها كل ناظر، لكنها
نثات قليلة من شجو الخاطر جاشت واعتملت في دواخل أهل الشعر في السودان، كغيرهم في
الوطن العربي الكبير، فقد آلوا على أنفسهم وبحسب ما يستطيعون، أن يردوا شيئا من
الجميل لهذا العلم المفرد، وهذه القمة الشامخة، وإن كان في توقيع بعض من الكلمات،
أو تنغيم ثلة من الموازين، التي تجيء منسابة وصادقة لكي تعبر عن واقع الوفاء لأهل
الوفاء في نفوسهم الصافية، وهو ذلك الشعور النبيل، والإحساس السامي الذي تمحور
فيما بعد، ليصبح قاسما مشتركا لكل من ينتمي للقبيلة الشعرية، أو العشيرة الأدبية
سواء في السودان أو غيره من الأقطار العربية، وهو أقل ما يستحقه حكيم العرب
ورشيدهم، وصنهاجة الأمراء وزعيمهم، ومؤدي حق الملة بإذن الله عز وجل المغفور له
الشيخ زايد.
فمن أرض
المليون ميل مربع، ومن قلب حضارة عمرها أكثر من سبعة آلاف عام، شربت من ماء النيل
وشرب النيل منها بكل ما فيه من عنفوان، جاء صوت الأستاذ الدكتور صديق عمر الصديق
الأستاذ في كلية الآداب بجامعة الخرطوم، ونائب مدير مركز البروفسير عبدالله الطيب
- رحمه الله عز وجل- صاحب المرشد إلى فهم أشعار العرب، متهدّلا ومتحشرجا جراء
الفجيعة الغامرة، والحزن المشحون، ليخبر بعظم المصاب وشدة الألم، فهو يقول:
الأرض ثكلى قد
علا تنحابها واسود
من حرق البكاء
ترابها
قد أغولت
ملء الجفون وصار
هتان الدموع طعامها
وشرابها
رجفت ومادت يوم
ولى زائد وأحاطها بعد
النعيم عذابها
ولى حكيم العرب وارتحل
الحجا فالحكمة استعصى
علينا بابها
شمس من القيم العزيزة
قد هوت هيهات من
هذا المغيب إيابها
كل
الأباطح يوم ولى
زائد ضاقت بأوجاع
الزمان رحابها
قد كان زائد
غوث كل قبيلة
إن أجدبت وديانها
وشعابها
كم حوبة لاقت
فضائل زائد فتذللت بعد
الإياس صعابها
إن
المكارم يوم ولى
زائد شطر القبور
تقطعت أسبابها
هو
للعروبة مجدها وفخارها هو
للمحامد سفرها وكتابها
عمَّت
أياديه البلاد وأهلها كرما فأمسى
موقنا مرتابها
تبكيه في السودان أرض
أفظعت فجبالها تذري
الدموع وغابها
هو زائد الخير الذي منه
استحت أنهارها وبحارها وسحابها
وهذه الأبيات
بلا منازع تعد من أروع ما قيل في رثاء حكيم العرب وفقا لما تقتضيه معايير النقد
الأدبي الحاذق، ومتطلبات التذوق الشعري السليم، فلله در شاعرها .
ومن كدباس،
أرض الخلاوى ونار القرآن الكريم، في ولاية نهر النيل شمالي السودان، يطالعنا أحد
شعرائها وهو الطيب مختار بتائية رقيقة، تستوقفك تاءاتها المجرورة في محطة الشجو
الدفاق، الذي ينضح بالإيمان الصادق واليقين الراسخ بقضاء الله عز وجل وقدره
المحتوم، لما للشيخ زايد من أياد بيضاء عند أهالي هذه المنطقة المحبة للقرآن
الكريم، والتي التقت معه في حب القرآن وتعظيمه، فإذا بشاعرها الطيب يصدح ويقول:
قضاء كلّ حيٍ
للمماتِ ويبقى الله
ربُّ الكائناتِ
ولكنْ موت أفذاذ
البرايا يشل مصابه
نبض الحياةِ
أمات
الشيخ حقا أم
ترقى إلى الجبروت مرقى
الصالحاتِ
فقدنا
الوالد الحاني علينا فقدنا القائد
الباني المواتي
فقدنا
بديهة فاقت وجلّت وفطرة فاطرٍ
بين الهداةِ
فلو فدت النفوس
كريم قومٍ فداك الشعب
شوقا للماتِ
وها هو الشاعر
كمال عمر الأمين العمرابي، يحركه شوق لليث المدى، ويستهيجه حنين لظل الورى، ودرع
الشدائد الشيخ زائد -رحمه الله- فيقول في بائية رصينة وقورة، تستغرقك عذوبتها
ورقتها:
دعني أبثُ من
الأحزان ما يجبُ
مات الزعيمُ ومات الفارسُ
الذربُ
الحاكم
العدل من أعطى
لأمته ما يورثُ الحمدَ إذْ
تملى به الكتبُ
القائدُ
الفذُّ بين العربِ
أجمعهمْ والصادقُ الوعدِ إنْ ذلّوا
وإن كذبوا
أبا خليفة مالي
لا يطاوعني فيك
الرثاءُ وحار الشعرُ والأدبُ
يا زايد
الخير قد قدمت
ملحمةً من العطاء توارت
دونها الشهبُ
ذهبت يا
أحكم الحكّامِ في
زمنٍ صرنا ضعافا وحقُ
العربِ يستلبُ
وقد كان لرحيل
الشيخ زايد المفاجيء في الليالي العشر الأواخر من رمضان، وقعه الرنّان على الأنفس،
فلطالما منى الكثيرون أنفسهم كما اعتادوا على ذلك قبل علته التي تعاهدته طويلاً،
بمباركة العيد السعيد له، فهو القائد والرمز المحبوب الذي سارت بحبه الركبان حتى
أصبح شامة على جبين الكون، وعلامة لعز الإنسان الذي شيّد زايد بصدقه أركانه، وأسس
بكريم عطفه وحنوه بنيانه، فها هو الدكتور الزين عبّاس عمارة، اختصاصي الطب النفسي
والشاعر المعروف يرثيه فيقول:
وكيف تشرق شمس
العيد في بلدٍ
باك تظلله غيمات
أحزانِ
أبناء
شعبٍ يعاني حزن
أمته هزات زلزلةٍ
وهدير بركانِ
ويقاسم
العالم المنكوب محنته
وقع المصيبة في أهلي
وسوداني
يا زايد الخير
يا رجلا تدين
له كلُّ الشعوب
بلا عار وخذلانِ
يا صاحب المبدأ الأعلى وهل حملت تلك المباديء إلا
روح فرسانِ
يا زايد الخير عفواً
زاد من وجعي
وقع الفجيعة في
قلبي ووجداني
وقد أفاد
الدكتور عمارة أيما إفادة من خاصية قافية النون المجرورة ذات الشجو المحتدم، ليبرز
بها ما يستحق هذا الإنسان العظيم من عاطفة مضطرمة في نفسه، فجاءت أبياته في رثائه
صادقة ومعبرة، وبالمثل فقد أفاد الشاعر حسن إبراهيم من هذه الخاصية، فنجده يقول:
يا زايد الخير ما
للحزن يرميني فهل أعزي وشعري لا
يعزيني
وزايد
الخير للإحسان منبره وشاهق
المجد في عزم وتمكين
إن كان يجدي بكاء
ظل دامعنا يجري
عليك بحاراً كالبراكين
إن غاب
زايد كل الناس
باكية والعيد وافى
فما للعيد يبكيني
تبكي عليك بلاد
أنت نجدتها عند الشدائد كم سارعت في الحين
تلك
المآذن في حزن
تؤبنه قد عاش زايد فخر العرب والدين
وللشاعر
الأستاذ علي صالح داوود، لامية مطولة تتحدث عن مناقب الشيخ زايد زعيم الأمة
الإسلامية قاطبة وليس العربية فحسب، الذي غرس بحنكته خير الغراس، وأصبح بحكمته فلك
الحق الذي يدور في مدارات الحقيقة التي آمن بها، وسار على نهجها راسخاً وواثقاً،
فتكفل بما آمن به، وقام على ما ائتمن عليه، وبهذه الروح النقية التقية الندية،
التي تشبه نداوتها نداوة الماء الشفيف، استقام عود الإمارات فتياً وشب غرسها
سامقاً شامخاً، حتى ناطح القمم الشماء، لتبقى مباهية أبد الآبدين بابنها البار
وقائدها الملهم، فشاعرنا داوود يقول في أجزاء من هذه اللامية السلسة:
زايد
الخير قد رحلْ
كوكب السعد قد
أفلْ
داهم
الناس ظلمة ٌ منذ
أنْ جاءه الأجلْ
كيف
لا يندبونه إنه
العاهل الأجلْ
كيف
لا يذكرونه حبذا
المنقذ البطلْ
وحد
الشعب كافة ما
تعادى ولا اقتتلْ
قد رعى العرب
عامة ما توانى
ولا خذلْ
كان
للدين ناصراً إن
تصدت له المللْ
كان
للمال منفقاً لا
يرائي إذا بذلْ
يرسل
الجود يمنة أو يساراً
لمن سألْ
فجر
الماء عنوةً في
الينابيع فانهملْ
عمر
الأرض خضرةً من
زروع ومن نخلْ
وبنى
المساجد ثرةً في
كل ركن فيه
حلْ
فيها
الصلاة وكل ما
يرضي الإله من
العملْ
هذه
نصائح زائد فضعوا النصيحة في المقلْ
ذو الحكمة
المثلى وكم ضربوا
بحكمته المثلْ
وهذه أبيات
نظمت من وحي الفجيعة وفجيعة الوحي، لشاعر اسمه كنّه سيد أحمد كنّه، وبالرغم من
اقتضابها ودخولها في حيز المقطوعة لا القصيدة، إلا أنه يمكن أن يستشعر فيها بوضوح
عنفوان الصدق المحموم، وحشرجة الإيقاع المتهدج، فقامة كقامة الشيخ زايد تملي على
الأديب الحر ما تملي، فينظمها شعراً، أو يطرزها نثراً، ومما جاء فيها:
فجرت ينبوع الحضارة
شامخا صوب العروبة شاهداً
مشهودا
وصنعت من مجد العروبة منبرا حتى
سما بين الأنام
صعودا
ما كنت إلا
منبراً ومعلما صاغ
السلوك وناول التجديدا
وقد أبت
شاعرات السودان إلا أن يشاركن في الحزن أندادهن من الرجال، فهن أيضا ذوات صوت
مسموع ٍ يأبى إلا أن يعبر عن واقع الفجيعة ومداهمة الخطب المرقوم منذ الأزل، لما
أصاب الأمة جراء فقدها لمفخرة التاريخ ومعول الأيّام الشيخ زايد، فها هي الشاعرة
الأستاذة صفية خلف الله تتغنى بحزنها، وتترنم بأساها فتقول:
كأن النعي يوم
أذيع نصل فوا
ألماه من وقع
النبال ِ
وزلزلت
النفوس مكذبات وفر
الدمع منفلت العقال ِ
وكل
مكارم الأخلاق تبكي
على العربي معدوم
المثال ِ
فإن مضت الجسوم فليس تمضي مآثر
لن تزول مع
الليالي
فلو كان الفداء
لنا متاحا لقدمنا النفوس
بلا جدال ِ
أياد منه طالت
كل شبر ٍ وفعل
فاق هامات الكمال ِ
رصين الفكر
كم دلت رؤاه
على حق وجاءت
بالمحال ِ
سديد
الرأي ما أدلى
برأي ٍ تحقق راهناً
في كل حال ِ
فهذي شواهد التاريخ
تحكي كأن الأمر
من نسج الخيال ِ
فزايد في قلوب
الناس رمز وزايد
قائد شاد المعالي
ومهما فاضت الأقلام
تحكي أراها اليوم
قاصرة المقال
وهاهي الشاعرة
السودانية المعروفة روضة الحاج، والتي تكن
للإمارات وأهلها وزعيمها، مودة من نوع خاص، ونكهة متفردة، يعتصرها الألم هي
الأخرى، فقد كان قلبها مطمئنا بزايد، الرجل المتراس والعلم النبراس، والقائد الشهم
والبطل السهم، والقامة السامقة والهمة الباسقة، بل هو أسمى من ذلك وأكبر ومن كل ما
قيل وما سيقال، فنجدها تقول في مرارة بيّنة، وشجو ظاهر، وألم مسفر:
مضى زايد الخيرات شهماً وقائدا أصيلا
أخا رأي وشعر ومربد ِ
بصيراً
يرى ما يرى من زمانه
فيسبقه بالفعل لا
بالتردد ِ
أعاض جميع
العرب ملكا ودولة من
العلم والإنجاز في خير سؤدد ِ
وأسس
نهجاً للإمارات قويماً رشيداً
خالداً لمخلد ِ
أيرحل من في
كل بيت له
يدٌ وفي
كل فكر ٍ للعلا
والتوحد
أيرحل من أرسى
حصوناً لمجدنا على
الدهر عنواناً لمعنى التفرد ِ
ستذكرك
الدنيا وخيمات يعرب
وكل القلوب
التائقات إلى الغد ِ
حميداً
ومحمودا وبراً وشاكرا مضيت
إلى قصر منيف
مشيّد
من البر والإحسان
والفضل والتقى لدى صاحب الإحسان والفضل سيدي
سلاما على من كان في الفضل واحدا وبشرى لمن
أوفى عهود محمدِ
فلله در هؤلاء
الشعراء جميعهم، ولله در غيرهم ممن لم نذكر من شعراء السودان الذين حدثوا بنعمة الله
عز وجل عليهم، وعبروا بمضمون الصدق عن حقيقة الوفاء المتأصلة في نفوس السودانيين
وفي قلوبهم النابضة بالحب لأهل الوفاء وسلاطين العطاء من أمثال الشيخ زايد بن
سلطان آل نهيان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق