بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب
بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

الثلاثاء، 31 مايو 2016

مروة الطيب: تشكيلية ومصممة داخلية سودانية اتخذت من التراث نبعا لاستقاء الإلهام والوحي في أعمالها - رؤية نقدية من إعداد: د. مجدي الحاج

إن الفنون بشكل عام جزء أصيل من التراث الإنساني على اختلاف مشاربه وضروبه، وعلى تعدد أنواعه وأقسامه، وعليه فإن الفن التشكيلي يمثل جزئية تراثية خاصة في كافة المجتمعات الإنسانية، وقد خص الله عز وجل مجتمعنا السوداني بوفرة منقطعة النظير من الناحيتين التراثية والتاريخية، مع تميز بالفرادة والرونق الجذاب كما هو متوقع في بلد متعدد الثقافات وقوي الجذور في عمق التاريخ الإنساني مثل السودان.

وقد اتخذ الكثير من أهل الفن النبع التراثي نبعا مهما لاستقاء الإلهام والوحي في أعمالهم الفنية، وجعلوا منه حاميا ومعززا لنجاحاتهم في المجال الفني بصورة عامة، حتى صرنا نرى الكثير من معارض الفن التشكيلي قد اتخذت من التراثيات ومن المأثورات الشعبية والتاريخية المتداولة شعارا لها، والتي جرت على ألسن العامة، ورسخت في عقول المتلقين من الجماهير، وشكلت وجدانهم وذائقتهم الجمالية في هذه الحياة عبر أجيال متعاقبة، وعبر عصور مختلفة.

وقد اختبرنا في هذه القراءة النقدية الإستقرائية السريعة مدى التأثير التراثي والتاريخي على المخيلة الإبداعية للمصممة الداخلية والفنانة التشكيلية السودانية الشابة مروة الطيب، وذلك من خلال تشريح إحدى لوحاتها التشكيلية التي شاركت بها ضمن معرضها الفني الأول والذي عنونته بانعكاس دواخل تشريحا فنيا وإبداعيا وجماليا، ففي البدء نجد أن اللوحة تجسد رسما متقنا لثيمة فنية غنية جدا بالرمزية وبالإيحاء الفلسفي، وهي ما يعرف بمفتاح الحياة.

وعبر الغوص في التشريح الفني والإبداعي والجمالي لهذه الثيمة، فإن مفتاح الحياة أو العنخ يعتبر أحد الرموز التعبدية والفلسفية الخاصة في حضارة وادي النيل العريقة في كل من مصر والسودان، ولكي نغوص أكثر في الأبعاد الفنية والتشريحية للوحة الفنانة علينا أولا أن نكون صورة جيدة عن موضوعها الأساس وهو مفتاح الحياة، فهو رمز الحياة الأبدية عند قدماء حضارة وادي النيل في كل من مصر والسودان، حيث كان يستعمل كرمز للحياة بعد الموت، وكان يحمل من قبل الآلهة والملوك وفقا للمعتقد السائد في تلك الحضارة.

ويخطئ البعض حينما يخلط بين مفتاح الحياة، وبين الصليب المسيحي بسبب التشابه النسبي بينهما في الشكل؛ فمفتاح الحياة ظهر قبل استعمال المسيحيين للصليب بمئات السنين.

ولا يزال أصل الرمز لغزا لعلماء التاريخ والآثار، ومن أقدم النظريات عن مفتاح الحياة نظرية توماس إنمان التي نشرت لأول مرة في عام 1869م والتي تنص على: "إن ما أطلق عليه علماء المصريات مفتاح الحياة يمثل عنصري الحياة الذكر والأنثى في إطار شكلي لائق، ورمزًا لحقيقة أن الإتحاد المثمر هو هبة من الله".

وكثيرًا ما يظهر مفتاح الحياة في لوحات المقابر التاريخية في حضارة وادي النيل في كل من مصر والسودان، وغالبًا ما يظهر في الصور التي تمثل البعث من الموت للمتوفي صاحب المقبرة.

وقد جرى في كثير من الأحيان حمل مفتاح الحياة كتميمة -إما وحده- أو مع اثنين من الطلاسم الأخرى التي ترمز للقوة والصحة، وقد تم صنع مرايا من معادن على شكل مفتاح الحياة لأسباب زخرفية ترمز إلى وجهة نظر دينية، وكذلك فقد تم وضع نماذج معدنية لمفتاح الحياة على القبور بعد صقلها بالذهب أو النحاس كي ترمز للشمس.

وهناك الكثير يعتبرونه رمز الحياة والولادة لتمثيله الرحم، والبعض قال إن الممسك الملتوي على شكل بيضاوي بنقطتين متعاكستين يمثل بشكل رئيسي المؤنث والمذكر أساس وجود الحياة على الأرض، أو أنه يمثل الإجتماع الروحاني لـ: إيزيس وأوزيريس الذي كان له تأثير على وفرة مياه النيل الذي يعتبر أساس الحياة في حضارة وادي النيل القديمة، أو أنه يدل على البعث وإعادة الحياة مرة أخرى بعد الموت، أما الخط العامودي في النصف فيمثل التقارب من القطبين أو التكاثف بين الأضداد.

أما بعض الأكاديميين، فقد جزموا بأن مفتاح الحياة يمثل الدور المحوري لنهر النيل عبر مسار واديه في كل من مصر والسودان، فالرأس البيضاوي يمثل منطقة دلتا النيل، والجزء الرأسي يمثل مسار النهر، والجزء الأفقي يمثل شرق البلاد وغربها اللذان يحتاجان للحماية.

وقد تأثرت العديد من الثقافات الأجنبية بمفتاح الحياة، حيث ظهر في كثير من الأحيان على العملات المعدنية القديمة في قبرص وآسيا الصغرى (وخاصة مدينة مالوس في تركيا حاليًا) وفي الثقافة المعاصرة، وحتى وقتنا هذا، يستخدم مفتاح الحياة لتمثيل كوكب الزهرة الذي يمثل بدوره الإلهة فينوس أو أفروديت عند الغربيين.

وعليه فإن الموضوع الذي اختارته الفنانة مروة الطيب موضوع مميز وغني بالمعاني الروحية والفلسفية العميقة، حتى وإن كان لها أبعاد قد تتضارب ظاهريا مع روح التعاليم الإسلامية التي ترفض الشرك بالله عز وجل، والتحاكم إلى الخرافة أو للفلسفات المادية الغير مهتدية بنور الوحي الإلهي، وقد رأيت بأم عيني تعليقا من أحدهم على لوحة الفنانة يرفض رفضا تاما ويستنكر استخدامها لهذه الثيمة الفنية التاريخية، لا لشيء إلا لأنه رأى فيها تعارضا صريحا مع التعاليم الإسلامية، وهذا موضوع قد يتشعب وهو ذو شجون شتى قد لا يسع المجال هنا لمناقشتها بشكل كامل، إلا أنه وفي تقديري الشخصي يجب أن نبحث في أصل الأشياء بتجرد وموضوعية تستقي رؤيتها من الروح الإسلامية الضابطة لجميع الأشياء في حياة الإنسان.

ومن جانب آخر فأنا أحمد للفنانة استخدام هذه الثيمة الغنية في إحدى مواضيعها الفنية، لأن ذلك يثبت أحقية الحضارة السودانية القديمة السابقة لشقيقتها المصرية بقرون كثيرة في سيادة الحضارات الإنسانية قاطبة، وهو أمر يجهله الكثيرون في العالم خصوصا مع ضعف آلتنا الإعلامية في السودان، وحاجتها الماسة إلى التوجيه الصحيح والممنهج بشكل علمي يخدم السودان كبلد، والسودانيين كأصحاب حضارة عريقة وأصيلة تستحق كل الإحترام والتقدير من قبل الجميع.

إلا أن ما يمنحنا جرعة مطلوبة من التفاؤل لعلاج القتامة والسوداوية في واقعنا الآني في السودان، هي تلك القدرات المتميزة لبعض الشباب السوداني الصاعد والموهوب كفنانتنا مروة، فما أبهاها من فنانة أنيقة وهي تدافع بفنها عن حضارة بلدها السودان، وتبهج أرواح أهلها السودانيين بضربات فرشاتها المتقنة، وتغمرهم بألوانها الجميلة والعذبة حتى تزين حياتهم في لحظة قتامتها البغيضة، وتشاركهم بجمال روحها في لحظات سعادتهم الضنينة. 

وقد عمدت الفنانة مروة إلى تزيين الجزء العلوي من لوحتها البهية بفراشات متناثرة جميلة الألوان أخاذة الإيحاء، والفراشات في حد ذاتها لوحات فنية تشكيلية راقية الإبداع والتصميم، بل وصلت الحد في روعة الإبداع وفي إتقان الخلقة، كيف لا وهي من إبداع الخالق عز وجل الذي أحسن كل شيء صنعا!.

وقد تعلم الكثير من أهل الفن روعة الإبداع وجودته من جمال الصنع الإلهي وكماله المتناثر يمنة ويسرة في أنحاء الكون وفي جنبات الوجود، وهو ما فعلته فنانتنا مروة برؤية جمالية مبتكرة مزجت فيها بين الفراشات كحشرات جميلة وبديعة، تمتلك أرواحا وحيوات ملهمة، وبين الإبداع والإلهام في فلسفة مفتاح الحياة الخاص بحضارة وادي النيل القديمة في كل من مصر والسودان، فالفراشات حشرات صغيرة مدهشة الألوان، وساحرة في تحولاتها الحياتية ضمن أطوار مختلفة، و خلال مراحل متعددة، وهي أخاذة السحر كذلك ومؤنسة الرونق في تحركاتها وفي طيرانها الوديع، وهي تحمل كل هذه المعاني بإتقان مبدع على قصر عمرها وعلى ضعف بنيتها، إلا أن ما تنثره من جمال وروعة حولها، يحمل في طياته الكثير من معاني الخصوبة والإنتاج والتفاعل البيئي المتقن، ومن ذلك حملها لذرات الطلع ولحبوب اللقاح، ونقلها لها من زهرة إلى أخرى، في دلالة واضحة على الخصوبة والتجدد والنماء وعشق الحياة، كما تمزج الرحيق أثناء تغذيتها عليه مزجا محببا يدلل على التنوع وعلى اختلاف الأمزجة والمذاقات والمناخات الطبيعية، إلى غير ذلك من المضامين الجمالية والفلسفية الراقية، وهو ما استشعرته فنانتنا مروة بقوة، وقرأته بذكاء حين مزجت في لوحتها بين الفلسفة المفترضة لمفتاح الحياة وبين الفلسفة الرائعة في خلق الفراشات وفي كينونة أنشطتها الطبيعية.

وكما ذكرت الفنانة التشكيلية البولندية جوانا وهي تتحدث إلى زملاء مهنتها: "خلق الله الجمال في كل شيء حولنا، حاول أن ترى هذا الجمال، واستلهمه في إبداعك". 

وقد تشربت فنانتنا مروة بهذا المعنى الفني الرائع حين اختارت أن تجعل من أوراق الأشجار مادة إضافية في لوحتها الخاصة بمفتاح الحياة، وهي بذلك تريد أيضا الإفادة من الفلسفة الجمالية التي تحملها الأوراق الشجرية المتناثرة خصوصا في فصل الخريف، فهي ترمز إلى التجدد أحيانا وإلى الموت والنهايات في أحايين أخرى، يقول الكاتب السويسري من أصل ألماني هرمان هيسه في كتابه: (الأشجار: تأملات وقصائد):

"...في الليل وحين أسمع الصوت الهارب من أوراق الشجر الناتجة عن حركة الرياح أصاب بشعور في قلبي كبكاء المشتاق، إذا استمع أحد ما لذلك الصمت فترة طويلة فإنه سيكشف عن معناه، هو ليس سبيلا للهرب من المعاناة على الرغم من أنه يبدو كذلك، هو حنين إلى الوطن الأم، للحياة القديمة حيث أنه ليس دليلا على استعارات جديدة للحياة، هو الطريق المؤدي للوطن، هو الخطوة لولادة جديدة، وربما خطوة للموت، وكل أرض وإن كانت أشبه بقبر فإنها في النهاية ستكون الأم التي تلدنا من جديد...".

لوحة الفنانة مروة الطيب لوحة من القطع المتوسط، استعملت فيها خامة ممتازة للرسم والتلوين، وهي خامة قماش الكانفاس Canvas، وهو قماش (جنفيص) يصنع من القطن أو الكتان ثم يحضر ويؤسس للرسم والتلوين فيدهن بمادة بيضاء تسمى (الجيسو)، ويتوفر في الأسواق بأنواع مختلفة ويكون مؤسسا وجاهزا للرسم، ويمكن شراؤه بالمتر مثل القماش العادي أو شراء رول كامل (لمن يرسم كثيرا ويقصد بذلك التوفير)، وقد يكون القماش مطليا بمادة (الجيسو) وقد يكون بدون طلي، فيشد على الخشب في المنزل ثم يؤسس للرسم، ومن مميزاته أنه قوي ومتين ويدوم سنين عديدة ويتحمل رسم عدة طبقات، ويمكن مسح الألوان وإعادة الرسم عليه من جديد، وعند عرض الأعمال لا حاجة لتغطية العمل بزجاج، وعادة يكون من نوعين: نوع قطني (مصنوع من القطن) يعرف من لونه من الجهة الخلفية إذا كان مطليا فيكون لونه أبيضا مصفرا، ونوع كتاني (مصنوع من الكتان) يكون لونه أسمرا وهو أنعم من القطن ويدوم أكثر لأنه أقوى وأمتن، وقد استعملت لتلوينها ألوان الزيت Oil paints، وألوان الإكريلك Acrylic paints،  وهي خامات فنية جيدة، وإن كانت سائدة في الإستعمال الفني إلا أن التعامل معها يحتاج لقدرة وموهبة خاصة تتوفر بجودة عالية عند فنانتنا مروة.

وأخيرا وليس آخرا فإنني أؤكد على أن التراث السوداني تراث راقٍ جدا، ويستمد قوته من قوة التاريخ العريق للسودان، ويستوحي روعته من روعة أهل السودان النادرة والمتميزة، كما أنني أهنئ الفنانة مروة الطيب وأسرتها الكريمة ومجتمعها ووطنها بهذا الإبداع والفرادة اللامتناهيين، وأتوقع منها الكثير في مستقبل الأيام بإذن الله عز وجل، فهي جديرة بحمل ثقل وأعباء الفن التشكيلي الراقي في بلد شاسع وشامخ كالسودان، مع الكثيرين غيرها من أهل الإبداع.