بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب
بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

الأحد، 14 أبريل 2019

الشاعر الإماراتي البريكي يهنئ السودانيين بنجاح ثورتهم

يا أيُّها النيلُ الذي انتفضت لهُ
" كنداكةٌ " سُلّت منَ الأزمانِ

عادت لتشتعلَ النفوسُ بوقفةٍ
تهتزُّ منها ساحةُ الميدانِ

قالت لهم: كونوا، فكان نداؤُهُم 
إلا الكرامة في ثرى السودانِ

وصلتنا إهداء لثوار وكنداكات السودان من الشاعر الأماراتي المبدع: محمد عبدالله البريكي

المحموم بقلم مناهل فتحي

وطني يا آنستي لا يجذب السياح رغم ما منحه الله من هدايا الطبيعة الساحرة، ولا يغري المستثمرين رغم احتوائه على النفط والمعادن والثروات والأراضي الشاسعة، ليس نشيطا ثقافيا رغم أن أهله يتحدثون شعرا ونثرا.
مضت ثلاثة شهور منذ قدومي إلى روسيا، أمشي على شاطئ بحيرة بيكال (لؤلؤة سيبيريا) وأنا أحاول تدفئة نفسي بحشرها بين صفوف الطلاب، كنا في رحلة جامعية غرضها الاستمتاع باحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، البرد جاد جدا في هذه البقعة المجنونة من الأرض، أتشبث بجوربيَّ السميكين وأحاول إيقاف أسناني عن الرقص في حين كانت (نتاليا) المرشدة السياحية للفرقة تسرد القصص عن بايكال، أعمق وأصفى وأقدم وأجمل بحيرة في العالم.

نتاليا فتاة عشرينية بوجه طفولي، كانت تتكلم بإنكليزية سريعة متقنة تتخللها بعض الكلمات الروسية، توزع ابتساماتها وصوتها الذي يستحق الإنصات وهي تقف على صخرة عالية وقد لفّت كتفيها بالصوف تاركة نصفها السفلي ليلسعه البرد أو ليلسعنا.

كانت شمس ذلك اليوم خائفة، تتوارى خلف غيم كثيف وتبعث بأشعة خافتة تتواطأ مع الثلج لتملأ الفراغ بضباب كثيف، فجأة انزلقت قدم نتاليا فأطلقت صرخة عالية، وقبل أن تتمّ صرختها كنت أتلقف رأسها الذي كاد أن يصطدم بالأرض الحجرية، لا أدري كيف حدث هذا في جزء من الثانية على الرغم من أنني لم أكن الأقرب إليها إلا أنني قفزت لإنقاذها في الوقت المناسب.

هل أنت بخير يا آنستي؟

سألتها فأجابت بإيماءة وابتسامة ساحرتين ولكن الألم كان بادياً على وجهها، تدخلت الممرضة التي تصاحبنا وقامت بتدليك ساقي نتاليا العاريتين، أرادت الممرضة الاتصال بمسؤول السلامة للمكتب السياحي لكن نتاليا أكدت أنها بخير، أمسكت بكفِّها الجدار المدبب فأعطيتها يدي للكف الأخرى فانتصبت بقامتها الفارهة وهي ترش عليَّ عطرها.

شكرتني نتاليا ثم استأنفت نشاطها وكأن شيئا لم يكن، وأنا ألملم ذبذبات صوتها من الأثير وأنسج منها موسيقاي الخاصة، كأني سمعتها تقول إن البحيرة تكونت من صخرة ضخمة سقطت من السماء، وكأنها روت أن عيسى عليه السلام زار البحيرة وحدد أن شمال البحيرة أرض مباركة وجنوبها أرض ملعونة وأن الذرة مازالت لا تنبت في الأرض الملعونة، ثم كأنها أضافت أنْ ليست هناك امرأة كالحاجة آمنة تطبخ عصيدة الذرة بالتقلية بطعم لا يقاوم! ولكن.. يبدو أن البرد قد عصف بتركيزي، لا أدرى كيف أتيت بإرادتي إلى هذا الموت البارد الذي حجب عني جمال كل شيء.

كانت البحيرة لوح من ثلج ممتد كمرآة أرضية، الأشجار بيضاء وسحب الأنفاس تحجب الرؤيا.

أفقت وأنا في غرفتي والممرضة تحاول أن تقيس حرارتي بوضع المحرار تحت إبطي، كيف وصلت إلى هنا؟ كنت ممدّدا والخدر ينسحب من رأسي ويتمشَّى إلى أقدامي.

اقتربت نتاليا مني ووضعت كفها على رأسي.

همد الله آسلاما

قالت وهي تبعث الدفء في عظامي فرُحت في غيبوبة أخرى.

لزمت غرفتي لأيام، وضعت قدمي داخل جوارب سميكة ورأسي داخل طاقية من الصوف وجسدي داخل كل ما جاد به موظفو الفندق من بطاطين.

تذكّرت والحمى تعصف برأسي، ما كنت قرأته للإيطالي كورتيسو ملبارته: (إن هناك أفكارا لا يمكن أن تذوب إلا في درجة حرارة عالية).

فتّشت عن أفكار يمكن أن تذيبها مثل هذه الحمى فلم أجد، ربما كانت أفكاري ذائبة أصلا وربما لم تكن لدي أفكار من الأساس. لديّ فقط تل من المناديل تعجز يداي أن تصلا بها إلى سلتها فأكوّمها بالقرب من رأسي.

لم أرد أن تراني هذه الروسية الآسرة وأنا في هذا القرف، يبدو أنها سهرت قربي لليلة كاملة وأنا أهذي، الحمد لله أنني وبلا شك كنت أهذي باللهجة السودانية التي لا تفهمها.

لن أنسى اليوم الذي حاولت فيه الوقوف للذهاب للحمام فشعرت بدوار، كانت نتاليا قد أذنت للممرضة بالذهاب ونامت مكانها جالسة، أحسّت بمحاولاتي الفاشلة للوقوف فمدت لي كفاً رقيقة بيضاء كالحليب، تأبّطت ذراعي وأنا أشفق على كتفها من خشونتي وثقلي أخاف أن أكسر ساعدها الرقيق الذي لفته حول صدري، لاحظت أن أطوالنا متقاربة، كم سيكون التوازي بيننا مثيراً لو احتضنتها، تمعنت في جسدها، لديها جغرافيا مدهشة التضاريس ومتعددة المناخات، كان ارتباكي عظيما بحيث لم يسعفني النطق وأظنها لاحظت ذلك وراق لها أن تضاعف ارتباكي وهي تلصق صدرها بصدري، تمنّيت ألا أصل إلى الحمام وألا أشفى، أحببت زكامي وحُمَّاي، ضعفي وحاجتي لاهتمامها، ولكنني حال خروجي من الحمام شكرتها وطمأنتها أنني بخير وطلبت منها أن تذهب لترتاح، أكدتْ عليّ ألا أتردد في الاتصال بها إن احتجت لشيء وتركتني حائراً، هائماً، أحتاج إليها احتياجا قاتلا ولا أجرؤ على الاتصال.

عندما تعافيت كنت قد انتزعت من نتاليا وعداً باصطحابي في رحلة صيفية إلى المكان نفسه، وما هي إلا شهور حتى كان الذي وعدتني به، فقد أدرجتْ اسمي ضمن قائمة الطلاب الذين لم تتح لهم فرصة زيارة سيبيريا بالشتاء.

من يرى سيبيريا في الشتاء وهي تمتد صحراء من ثلج قاسٍ لا يصدق أنها تستطيع أن تمنح الشمس والدفء والحياة، سيبيريا في الصيف ساحرة، تنسيك عمراً من الضجيج والعوادم والصحارى والجبال، وبيكال نقية حد الشفافية، ترى في قاعها انعكاس ما خبأته في قاعك.

• لو أستطيع حمل النيل إلى هنا لأغسله في هذا الصفاء، أغسله من التماسيح التي عكرت صفوه وألحقت الجهل والفقر والجريمة والمخدرات بأسماكه المسكينة، ولكن يبدو أن للنيل حنينه وللنخيل حنينه، بل وللأرض الخواء حنينها. همست لنفسي.

• وين سرخان كالد؟

سألت بعربية جيدة كانت مع ثلاث لغات أخرى رصيدها الذي جعل منها المرشدة السياحية الأفضل في تاريخ الجامعة.

• مندهش من جمال بيكال.

قلت بروسية ركيكة وأنا أبحلق كالمعتوه في زرقة عينيها حيناً وفي زرقة بيكال أحياناً، محاصر كطارق بن زياد.

• هل تعلم أن بيكال هي جوهرة روسيا؟ يسمونها قلب سيبيريا الأزرق، يبلغ عمرها خمسة وعشرون مليون سنة ويقال بوجود كهف يوجد فيه هيكل بوذا، أنا شخصيا لم أره ولكني لا أستبعد وجوده.

كانت تتكلم وهي تتحرك بخفة فراشة فلم أقاطع استرسالها الطفولي.

• يصب فيها ثلاثمئة وستة وثلاثون نهراً، وتتوسع كل عام بمقدار سنتيمترين.

• أما نحن فلدينا نهر يضيق كل عام بمقدار وطن.

• ريفر نايل؟ وكيف يضيق؟

تساءلت وهي تعطيني يدها لأسندها ونحن نمشي على منطقة منحدرة.

• أبداً، تردمه السلطات بالنفايات النووية تارة وبالسُكّر تارة أخرى.

قلت وأنا أحاول أن ألملم أنفاسي

• السُكّر؟

• أما النفايات النووية فنشرت مرض السرطان في شمال البلاد، وأما السكر فربما لخلق أزمة أو ربما ليعادل طعم المرارة في حلوق شاربي الوجع.

• كالد ما فخمت.

من الطبيعي ألا تفهمني، كيف لها أن تصدق أنه يمكن لحزب معارض أن يرمي بمخزون البلاد من السكر في الماء لخلق أزمة للحزب الحاكم غير آبه بالأزمة التي يخلقها للملايين.

• لا عليك.

همست لنفسي أن لا داعي للنكد ولكن كان لنتاليا شغف غريب في أن تسمع، طلبت مني أن أحكي لها عن السودان، ذلك البلد البعيد على حد قولها والذي تسمع عنه فقط من خلال نشرات الأخبار والصحف، فهو من قلائل الدول التي لا تعلم عنها الكثير رغم العدد الكبير للطلاب السودانيين بالجامعة.

ماذا أقول لها؟

هل أحكي لها عن الاضطهاد اللوني والنوعي والثقافي؟ هل أعترف لها بأن بلادي تنتقص من حقوق المرأة وتتبنى الإكراه وأنها لا تسمح للمرأة الحرة المتطورة الواثقة من ذاتها أن تسير سيرها الطبيعي في الحياة وأنها لا يمكن أن تتجول بملابسها هذه في شوارع الخرطوم؟

• وهل العري حق من حقوق المرأة يا بن ال…

صرخ بي صوت لطالما صرخ.

هل أقول إن وطني لم يستطع أن يتشبث بالوحدة فاستأصل قدميه وعاد يحبو؟ هل أحكي لها عن المليون ميل مربع المتقلبة المزاج بصحاريها وغاباتها وجبالها ووديانها؟ ولكن لماذا لا أحكي لها عن التسامح والتراحم وسماحة الأخلاق وشاي الصباح وعصيدة الحاجة آمنة؟

أتحدى روسيا واتحادها السوفييتي إن كان بها نفير من خمسين رجلا يهبّون لدفن جثمان أو ردم بيت ليتامى أثناء السيول أو مد يد العون في نقل أسرة لمنزل جديد أو فرح أو ترح.

أعادني حماس نتاليا الذي لا يعرف النضوب:

• يللا كالد اهكي

• بلادي يا سيدتي هي الجسر بين العروبة والزنوجة.

• لكن أنت لونك مش أسود.

قاطعتني بطفولة محببة.

• لأنني من بلد النقائض، كم أحلم أن يفتح قلبه لكل الشرايين أبيضها وأسودها، ويخرج من الظل إلى بؤرة الضوء التي يستحق، يخرج بكل أعرافه وأعراقه، سحنه وثقافاته، إثنياته ومناخاته ليطلي خارطة العالم بقوس قزح، لي يا نتاليا وطنٌ قارة اختار أن يتقلص، أن يتحرّر من الانفتاح والجاذبية ويختار الزهد.

ها أنت كأغلب الناس، تسمعين لفظة سودان فتقفز الأسود والأفيال إلى رأسك، أو في أحسن الأحوال يرسم ذهنك صورة لمجتمع رعوي زراعي بسيط أو بعبارة أوضح متخلف.

بلادي، يا سيدتي الكريمة لم تكن أبدا بلادا جائعة قبل اليوم، كانت سلّة غذاء العالم وكان الناس يأتون إليها لطلب الرزق، المزارع تغطيها مد البصر والطواحين تدفعها الرياح الباردة فوق أشجار النخيل وقطعان الأغنام والأبقار والإبل ترعى ولا تخاف الذئاب.

ربما أحسّت بأنني أبالغ فنظرت إليّ نظرة عدلتُ بعدها الصورة:

أقصد أن أقول إن خبراء الزراعة يقولون إنه لو تمت زراعة السودان والأرجنتين بالصورة الصحيحة لكانا سلة غذاء العالم، لولا الحرب، لكن الحرب لم تمنع الخرطوم من أن تقرأ عندما كانت القاهرة تكتب وبيروت تطبع، هل ظلمنا أنفسنا أم الإعلام العربي هو الذي ظلمنا؟

راقتني نظرة التركيز التي بعينيها فاسترسلت

• نحن نقع تحت ظل القاهرة، هل قرأت عن القاهرة؟

أدري أن سؤالي كان مستفزاً لكنني ربما أردت فاصلا أغربل فيه الكلام كيلا أصحّح فكرتها عن السودان بمبالغة مضادة.

• ومن لا يعرف القاهرة، العاصمة الدبلوماسية والإعلامية والثقافية والفكرية التي تغزو العالم بتاريخها وحاضرها.

قالت بإنكليزية متماسكة وهي ترسم على ملامحها غضبا جادّا.

القاهرة هي الشجرة التي أبقانا قربها الجغرافي في ظلها، لكن حوار الحضارات بين أهل الشجرة وأهل الظل لم يكن موفقاً، الظل يحمي للشجرة طينها وماءها وهي تغذي بعضها بعضاً، وكلما استطالت رمت بظلها للبعيد لأن جذرها لم يعد يحتاجه، والمشكلة أن العلاقة بين الشجرة والظل ظلت تحكمها العاطفة المتذبذبة بدلاً من أن تحكمها الاستراتيجية.

وطني يا آنستي لا يجذب السياح رغم ما منحه الله من هدايا الطبيعة الساحرة، ولا يغري المستثمرين رغم احتوائه على النفط والمعادن والثروات والأراضي الشاسعة، ليس نشيطا ثقافيا رغم أن أهله يتحدثون شعرا ونثرا، وليس وجهة للتعلم رغم أن معلميه علّموا الشرق كله، أطباؤه عالجوا الغير وظل هو سقيما، مهندسوه عمّروا الأرض وظلت أضلاعه متداخلة وزواياه تفر من بعضها لكي لا تجتمع تحت سقف واحد، لكن خامته النادرة ليست الأرض ولا الثروات. خامته الأفخم هي إنسانه الطيب، المعتز بنفسه، الذي يحترم الغير دون خنوع، ويعطي دون حساب، ويشرع أذرعه بمحبة وبساطة ليحتوي الآخرين. إنسانه الذي قال نزار قباني عنه إنه الولد الأصفى والأنقى والأطهر، وقال هتلر عنه “لو أعطيتني سلاحاً ألمانياً وجندياً سودانياً لجعلت أوروبا تزحف على ركبتيها”.

شعرت للحظة أنني ربما أثقلت على الصبية بحديث السياسة الممل، لكنها كانت تستمع إليَّ وكأنني أرتّل إنجيلاً.

تمنّيت أن تسعفني لغتي الإنكليزية لأترجم لها أغنية عن السودان، أو تسعفها لغتها العربية لتفهمها كما هي، فكثير من النصوص تفقد روحها إذا ما تُرجمت، لكن إحدى اللغتين لم تفعل. سألتني باستغراب:

• بلد له كل هذه الإمكانات، لماذا لا يكون غنياً، أين الخطأ في رأيك؟

• لا أدري، ربما قادنا الزهد إلى الكسل، وربما كان كل ما قلته محض حنين أو وصف لماضٍ سحيق.

لم نشعر بالوقت حتى غابت الشمس، كنت أتحرّك في المسافة بين وعيها ووعي من التقيت بهن قبلها من النساء، فتنقطع أنفاسي، لأول مرة تدهشني امرأة بانغماسها في حوار سياسي، ديني، فكري بهذا الشغف، كشفت فيه عن ثقافة ثرّة دلت على أنها تعرف عن الإسلام أكثر مما أعرف، قالت إنها مأسورة بالتصوف، لم تأخذ موقفاً عدائياً من دينٍ، تقول هي، إن العالم قد أساء فهمه.

على لسان شهيد ثورة ديسمبر بقلم مناهل فتحي

هل حقاً سَقَطَتْ؟ 
تناهت إلى سمعي أصوات طبولٍ إفريقية مختلطة بزغرودة أمي ، إقتربت الشمسُ مني كثيراً واشتد نورها ، هبت على وجهي رائحة الطين أتت بها نسماتُ منعشةٌ كأنها مرت على نيلٍ جديد.
في مدينةٍ صدئت أرواح أهلها ، ظللتُ شغوفاً بالحياة حتى اعتقال أخي القاسم، إقتادوه حافياً منكسراً قبل سنواتٍ لا أعرف كيف أحصيها، أذكره، عيناه ممتلئتان بمرارةٍ ناطقة، سقط، جذبوه من ياقته لينهض، ضربوه، خارت قواه، إرتفع بصرُه إلى أمي النائحة، رمى على وجهها ابتسامة في محاولة لإطفاء جزعها العارم ، أدخلوه السيارة الداكنة وغادروا ، أتت النساءُ من كل حدبٍ وصوب يشاطرن أمي وجعها ، صدتهن، مسحت دموعها، أفرغت ما تبقى في مطبخها من طحينٍ في وعاءٍ معدني، أضافت إليه الملح والخميرة والماء، عجنته بكلتي يديها ، غطته ، لا وقت للحزن، أطفالها يتامى ولا قاسمٌ يأتي لهم بقوتهم بعد اليوم ، منذ ذلك الوجع وأمي تبيع الشاي واللقيمات بالقرب من مدرستنا وتؤجل البكاء ، وجهها شاحب وعيناها الغائمتان تحقنان الأسى في صباحاتي .
نشأتُ على تلك الذكرى لأجدني قاسماً آخر، ثم اكتشفتُ أن كل شباب مدينتنا مثلى ، نتداول الألفاظ التي ستقتلنا يوماً ما أو ستحيينا على حد تعبير أمي ( التضخم الساحق، البطالة الواسعة، الحرية السليبة، العنصرية المقيتة، النضال، الثورة، تسقط بس)
خرجنا إلى الشارع ، كان الحشدُ يتسع ويتنوع ، نساء بثيابٍ مجعدة تدل على خروجهن الطارئ من بيوتهن، عجائز بشعرٍ قطني، عم خضر الحمّال بزنده العاري وجبينه المعروق، عبد الله ( الجزمجي) بجلده الكالح ، دكتور أرباب بقميصه الناصع وبنطاله المكوي بإتقان ، أطفال يحتضنون أحلامهم ويركضون ، لا يعلمون أن الأحلام تحتاج إلى كثيرٍ من الصبر والمقاومة لتتحقق.
كانت الخطوات مضطربة والهتافات مرتعشة في أول الأمر ثم قفزت الحناجر فوق سياج القمع وانطلقت الأقدام الحبيسة لتدق الأرض في عزم ، الحماس يتكاثف كدخان، يبعث الصحو في الغضب الغافي والوطن غيمةٌ حبلى تنشدُ الخلاص .
كان صوتُنا شديد السطوع ، هادرٌ كرعدٍ ظل مخنوقاً لثلاثين قحط، فجأة هطل الرصاص، وامتلأ الهواء بالغاز المسيل للحياة ، شعرتُ بنارٍ اخترقت صدري، وانطلق وردي يغني من قبره:
( يا شعباً لهبك ثوريتك
تلقى مرادك والفي نيتك )
أطل وجه القاسم من خلف القضبان ودموعه تطفر من شدة الفرح. 
هل حقاً سَقَطَتْ؟ 
إذن، قولوا لأمي أن تتقبل العزاء، وقولوا لدمي الذي ظلّ معلقاً بين السماء والأرض أن يمتزج بتراب الوطن الغالي .

الأحد، 7 أبريل 2019

الكاتب الصومالي المتميز: د. محمد ديريه يكتب بصدق عن الثورة السودانية

الكاتب الصومالي المتميز: د. محمد ديريه يكتب بصدق عن الثورة السودانية
___________________________
صوت الحراز والمطر.. في ال 2nd Avenue


لطالما أهدتني نيويورك فضيلة أن أكون الآخر، في مدينة كل من يأتيها يمني نفسه بالذوبان قررت أن أدهن سائر جسمي لا رأسي فقط بزيت السمسم كي ألعق ملح الغربة في وجهي حين تمطر ظهيرة إبريل الكاذبة.


اليوم فقط : في هذا السبت الغاضب لن أستقل القطار الأحمر، لا التو ولا الثري، لا التو القادم من البرونكس - ذاك المحمل بالجاز والأغنيات - قاطع نهر هارلم الصغير باتجاه الداون تاون، ولا ذاك الذي يدعى الثري ، القطار الذي يصلي الفجر تحت جامع تمبكتو ويمشي مشي الصابرين حتى يصلي ركعتي الضحى في أطراف بروكلين.


اليوم فقط سنمشي باتجاه السوق العربي ، نحن القادمون من لفة جوبا أو من تقاطع عبيد ختم، الراجلون من مخبز البلابل أو الهاتفون ب تسقط تسقط من الخرطوم اثنين أو حتى من مسجد العمارات الصغير ، جميعاً أو فرادى باتجاه شارع المك نمر.


لا من ناصية شقتنا المتواضعة في شارع مالكوم اكس بقلب هارلم ولا من أمام رابطة جمعية السودانيين الأمريكيين في بروكلين، بل من فرجينيا جائت الجموع، ولمن لا يعرف فرجينيا فهي مسيرة ساعاتها بين فجر وظهيرة أوبين عصر وعشية، ومن فيلادلفيا وكذاك من مين، وكلها أطراف بعيدة عن مانهاتن ، فما عذرنا نحن سكان جزيرة مانهاتن؟، أهل مانهاتن المستعجلون حتى في طلب القهوة أو انتظار ظهور الكاش من صرافة بنك أوف أمريكا، لا عذر لنا والله إن لم نخرج نهار الست من أبريل لمؤازرة أهلنا في الخرطوم وكل قرى السودان التي لم تعد تنام منذ ديسمبر على ضفاف النيل.


أعرف وإن كثر أهلنا - الواحدين - أمام بعثة الأمم المتحدة إلا أنهم سيكونون وحيدين، لا شالات فلسطينية ولا مستشرقون، لا مخبرون بألسنة عجمتها تطم البطن ، ولا باحثون عن سبق صحفي لمقتل خاشقجي، السودانيون يمضون وحدهم منذ الأزل، يتهادون كالنيل من الجنوب إلى الشمال، يتأدبون كالنسمة وكأن موعدهم حتى في يوم الحشر موعد شعب لا يشبه إلا نفسه ، السودانيون هم الناس وهم شعب الله الذين يمشون بملء إرادتهم وحيدين.


سأشرف اليوم بأن أكون الغريب بين أهله ، بل أن أتخلى عن الفضيلة الوحيدة التي تمنحها نيويورك : أن تكون الآخر في كل حين، كيف أكون الآخر و "الليلة يستقبلني أهلي" ؟!


لا أدري إن كانت صدفة أو مزحة من مزحات القدر أن يصدح صوت سميرة دنيا في ناصية تقاطع إسحاق رابين على امتداد السكند أفنيو هاتفة ضد عمر البشير ، نهر هديسون الخجول مقارنة بالنيل العريض يرخي سمعه من خلف مبنى الأمم المتحدة في مانهاتن، كنت خائفاً جداً أن يخذل المكان والزمان أهلنا السمر الطوال ، مشينا وحيدين وأعلام الدول على يميننا ، شابان بعلم ما بعد الاستقلال يغازلان خواجية لينة العود ، كانت في آخر العشرين قبيل الثلاثين ، قصيرة الشعر هاربة من أنوثتها بجنز ضيق، لم تذكرني بمسز روبنسن ولم يكن في ملامح الشابين رغبة كتلك التي كانت بين مصطفى سعيد و آن ابنة السيد همند.


شاب عريض المنكبين يقصدنا مباشرة و يصافحنا مصافحة صديق قديم، شبه على رفيق دربي الشاعر الوسيم، في عينه شك العارف وبلسانه أدب الذي يريد السؤال ولم يقل، نقترب من نهاية رصيف الأمم المتحدة دون مرأى العمائم ولا ثياب الخالات، نكمل بيقين المؤمن وتوكل المتظاهر في بلاد بعيدة تسمح بحرية لم نجربها سلفاً ، مس الثورة يجعل نهايات الطرق مفتوحة على كل الاحتمالات.


فجأة صوت يشبه وقع الكوز في خد الزير، صوت كتفوق تصميم الفضة على بريق الذهب، صوت الخالة من سور الجيران : تعال يا ابني ، تعال يا ود حسنة بت محمود : الشاي باللبن هاندا !


كان الشاي باللبن صوت سميرة دنيا ، سلم خماسي في حنجرة البلور ، شيء يشبه كعبك العالي يدق دمي كما يقول محمد عبدالباري ، سواد من الناس أطيبهم - كصيغة مبالغة - لا وجود له في قواميس العربية، فكل سوداني شرب من النيل طيب طابت عروقه وأتحمل وزر التعميم إلي يوم الدين.


على مدخل التجمع الهائل أوقف السودانيون شاعرهم المحبوب ، حاول أن يعطلني عن اقتحام الجمع وهو العارف بطرق الطبال في صدري ، بعيني أومأت إليه : 
أنا اليوم لست الآخر يا محمد ياود أم كلثوم ، اتركني على حل شعري .


في صوت سميرة دنيا لحن قديم لأغنية أحبها ، أغنية أتذكرها جيداً وأنا أبصر الحناء في يدها، لم تكن مصادفة أني لا أعرف لها غير" أغالب دمعي" ، وهي تشبهني في هذا المحفل الكبير :


أنا الصابرة عليك ياهم 
انا الوافي وهوايا بعيد


زمان قالوا الغرام قسمة
حقيقة القسمة ما بالإيد


مصير الحي يعود تاني
يهل في ديارنا أجمل عيد


في الساحة الطويلة لا العريضة اجتمعت أطياف الشعب السوداني كله ، كيف لشعب في مهجر بعيد أن يقيم صيواناً يكون أول مافيه السندويشات المجانية والماء الذي يناولك إياه كل أحد ، صفان لصلاة العصر، بروفيسور يمسك يد شابين في أول العمر، يسألهما عن دراستهما وينصحهما بالجد والاجتهاد معرباً عن سعادته بحفاظهما على صلاة العصر.


دخلت الحضرة دخول الدرويش المتنكر، ثلاث أوطان في الدنيا تسع الناس كل الناس ملامحهم ، لفرط اتساع الجغرافيا في البرازيل، يفتخر البرازيليون على الآخرين بأنه لا وجه للبرازيلي ، كل وجوه الدنيا يمكنها أن تضع صورتها على جواز السفر دون أن يوقفها أحد، أمريكا كذلك ، يمكنك بالميلاد أو بمبلغ مالي معين أن تقول أنا من أمريكا، بعيداً عن الأمريكيتين لا يستطيع أن يتحمل كل الملامح في افريقيا الشمس سوى السودان الكبير، السودان الحنيِّن كنخلة مايلة على الشط عصر الجمعة في مدني.


ساحة طويلة طول الظل في العصرية، أمشي وأتبسم واقول للدنيا كل الدنيا " ديل أهلي " ، مافي زول سألني انت من وين وكل زول سلامه سلام راجع بالسلامة صباح العيد ، وانا في فمي محمد عبدالحي لو زول سألني : أجابك شنو، أقوله :


أنا منكم.. جرحكم جرحي 
وقوسي قوسكم.
وثنيٌ مجَّد الأرضَ وصوفيٌّ ضريرٌ 
مجَّد الرؤيا ونيران الإلهْ.


وأنا أمشي بين الجموع الحارة ، يصلني صوت الزار وخيالي خيال الراكب في حافلة تقطع الصحافة زلط ، كأني قد قابلت كل الحاضرين من قبل ، كأني في مأتم صديق، عرس زميلة في لفة الشجرة أو بري ، الوجوه وجوه ركاب بناصية الميناء البري ، العيون مألوفة، الأكتاف حنينه حتى لما كتفك يضرب بكتف زول أو زولة ما تحتاج أبدا تتلفت أو تعتذر، مرة أخرى محمد عبدالحي يطل من سنار في رأسي :


افتحوا الليلة أبواب المدينة
- "بدوىُّ أنتَ؟" 
- "لا"
- " من بلاد الزَّنج؟"
- "لا"
أنا منكم. تائهٌ عاد يغنِّي بلسانٍ 
ويصلَّي بلسانٍ


وأنا ذائب في الحضرة تمتد يد لكتفي، الشاعر الذي ينسى أن يأكل وقد خرجنا مسرعين من الشوق يناولني سندويشة ملفوفة بكيس بلاستيكي بالحب ، أسأله ما هذا ؟
انت عارف السودانيين ، حلفوا علي ، وهاك الموية الباردة .


يعرف عبدالباري أني لا أحسده في الدنيا إلا على رضى أمه التي هي أمي ، وعلى أنه ينتمي للبلد الوحيد الذي أغار من كل من ينتمي إليه ، أن تكون سودانياً أي أن تجمع في عطفيك كل محبة الناس وعشرة من المحاسن دون أن تحتاج إلا لفضيلة أن تقول : الله يسلمك ، وشكرا ، وربنا يديك الصحة والعافية.


اقتربنا من المسرح المكتظ بالناس والأعلام، في زاوية الخشبة وقف رجل قصير يشرح لأهل لغة الإشارة كل ما يحدث على الخشبة، بين كل فاصل وآخر، يصعد رجل مستعجل دائما ينادي :


إخوانا الجايين من فرجينيا ، الباص واقف في الفرست أفنيو، عليكم الله ما تنسوا السندويشات والمويه وانتو راجعين ، أنا بعرف الناس لمن تجوع في الباص !


هذا الإغراق في البساطة والمحلية مع الانتباه لكل التفاصيل الصغيرة حتى في قلب مانهاتن شيء لا يحسنه أحد مثل السودانيين ، ومن عاشرهم يعرف أهمية " الترحيل" وحنو الأمهات بالسندويشات التي لا تجعلك محتاجاً لشيء وأنت في طريق الطريق.


شطر محمد - الذي يعاف ويمنع نفسه الخبز كثيراً - الساندوتش لنصفين، ناولني النصف المحشو بالمرتديلا وقضم لأول مرة سندوتشا في الشارع وأمام الناس ، لقد عدنا طفلين ياصاحبي ، في حناجر الغاضبين تولد المعاني ، وفي ساحات الغضب يصبح الرغيف أشهى من سمك الموردة.


تسقط تسقط من كل اتجاه ، تسقط بس من فوق ومن تحت وعن يمين وعن شمال ، شباب يرتدون قمصاناً كتب عليها : تسقط بس ، عم شديد الزرقة كبير البطن تكاد سرته تبان لارتفاع التي شيرت المكتوب عليه أيضا : تسقط بس ، فتيات يربطن العلم - علم الاستقلال - على أكتافهن ، وعلم أصفر وأزرق وأخضر لأول مرة في حياتي أراه يحمله كبار السن والخالات ، سألت محمداً عنه، فقال لي : هذا علم ما قبل الاستقلال.


لعنت البشير في سري ، قبح الله رجلا لشناعة فعله جعل الناس تختار لحظة ماقبل الاستقلال كلحظة صفرية لآمالهم ، ليس من السهل أبداً أن تصبح مطالب شعب كامل من ثورة استمرت لثلاثين عاما فقط حق الترجل والنزول من هذه الحقبة التعيسة، أعيدونا إلى ما قبل الاستقلال وخذوا أعلامكم وأسمائكم و بنيكم وبناتكم، فقط اتركونا وبس ، تسقط وتسقط بس !


في الساحة أمهات كبيرات في السن اخترن المقاعد الأمامية ، أباء كلما فتح أحدهم شاشة هاتفه رأيت الخلفية علم السودان، شباب بضفائر واخرون تعرف من وجوههم أنهم ولدوا في بلاد تموت من البرد حيتانها لكنه السودان يا أبتي، وطن الشموس ووهج النفوس ، صبايا في عمر الورد يجمعن ما يسقط هنا وهناك كي تبقى الساحة نظيفة كحوش البيت ، أطباء يقفون في زاوية بعيدة وعيونهم على الأخبار الواردة من الخرطوم، وشباب لا يأبهون بما يحدث على المسرح المجدول ، غارقون في الربة ، تارة يغنون لابوعركي :


ينكسر سور الموانع
وتبدأ أعراس المزارع والمصانع 
وتوصل الناس الروائع


كانت شهوة الميكرفون حاضرة على المسرح ، فصعد - رجل غتيت - كما يقول أهلنا السودانيون ليخبرنا عن رجل أبيض متعاطف سيلقي كلمة على الجموع ، تأدب السودانيون مع الغريب لدقائق، حتى بدأ في الحديث عن التطهير العرقي وتسليم البشير لمحكمة العدل الدولية ، فعلم الناس أنه متعاطف قديم العهد بأخبار السودان فعاد الناس لهتافاتهم :


حرية سلام عدالة
والثورة خيار الشعب


وهمس شماس لصاحبه خلفي : 
عليكم الله نزلوا اللوطي دا !
لم أمسك نفسي من الضحك ، محروم من لم يعش بين السودانيين ولم يضحك على شماراتهم.


أقبل علينا سائق حافلة بنظارة شمسية ودون مقدمات بشرنا بأن البشير سيتنازل بعد ثلاثة أيام عن منصبه، سأله شاب تبدو عليه أمارات النجابة :
مصدرك منو ياعمك ؟
ود أخوي !


غريب تعلق الناس بأي أمل لترجل البشير عن الكرسي ، بجانبي بدأ حوار مقتضب، شاب ساخر من زميل أمريكي ينسب خروج السودانيين اليوم لانتصار ثورة الجزائريين ، ويضحك قائلا :


الخواجة ما جايب خبر انه السودانيين كانوا مشغولين بالإسراء والمعراج وفعاليات الشكينيبة وأنه أهلنا ما جايبين خبر أصلا الجزائر دي وين وبيحصل فيها شنو !


فهم صاحبنا الخواجة أن كلمته لم تجد آذانا صاغية ، والجمهور يطالب بعودة سميرة دنيا لقلب الحدث ، لكن مقدم الحفل - وأكره فعلا مقدمي الحفلات والمنظمين الذين يخيبون آمال الجماهير كرهي للسلطة المطلقة - قدم ورقة طويلة عن مناضلة لا يعرفها أحد ، مناضلة نجت من محرقة في قرية التفت الناس لبعضهم حين ذكرت ، مناضلة نالت جائزتين من الخارجية الأمريكية ، وظهرت على غلاف مجلة ألمانية لتلقي كلمة على المتظاهرين، تعرف هؤلاء الذين لم يسمع بهم غير الصحفي الذي بنى القصة المعتادة، فخرجت تهتف : يا أهل الجنوب ، يا أهل الشمال ، يا أهل الوسط …. الخ


لأنها بدأت بطريقة خاطئة ، إذ لا يمكن أن يوحد السودانيين في هذه المرحلة سوى نداء : أنا سوداني ، فقد عاقبها الشباب الواقفون في زاوية الربة بأن سرقوا منها الضوء بأقدم طريقة ، أغنية لمصطفى سيد أحمد - رحمه الله - وفي المكان والزمان المناسب :


ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻧﺤﻦّ ﻣﻊ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ..
ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﻌﺮﻑ ﻟﻴﻬﺎ ﺧﺮﻃﺔ
ﻭﻻ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﺍ ﺟﻮﺍﺯ ﺳﻔﺮ
ﻧﻤﺸﻰ ﻓﻰ ﻛﻞ ﺍﻟﻤﺪﺍﺋﻦ
ﻧﺒﻨﻰ ﻋﺸﻨﺎ ﺑﺎﻟﻐﻨﺎﻭﻯ
.. ﻭﻧﻨﺜﺮ ﺍﻷﻓﺮﺍﺡ .. ﺩﺭﺭ
ﻭﺍﻟﺮﺑﻴﻊ ﻳﺴﻜﻦ ﺟﻮﺍﺭﻧﺎ
ﻭﺍﻟﺴﻨﺎﺑﻞ ﺗﻤﻼ ﺩﺍﺭﻧﺎ
ﻭﺍﻟﺮﻳﺎﺣﻴﻦ .. ﻭﺍﻟﻤﻄﺮ


وعندما استمرت المناضلة التي لم يعرفها أحد، انتقلنا جميعا إلى الكوبليه الثاني:


ﺇﻻّ ﺑﺎﻛﺮ ﻳﺎ ﺣﻠﻴﻮﺓ
ﻟﻤـّﺎ ﺃﻭﻻﺩﻧﺎ ﺍﻟﺴﻤﺮ
ﻳﺒﻘﻮﺍ ﺃﻓﺮﺍﺣﻨﺎ ﺍﻟﺒﻨﻤﺴﺢ ﺑﻴﻬﺎ ..
ﺃﺣﺰﺍﻥ ﺍﻟﺰﻣﻦ
ﻧﻤﺸﻰ ﻓﻰ ﻛﻞ ﺍﻟﺪﺭﻭﺏ
ﺍﻟﻮﺍﺳﻌﺔ .. ﺩﻳﻚ
ﻭﺍﻟﺮﻭﺍﻛﻴﺐ ﺍﻟﺼﻐﻴﺮﺓ .. ﺗﺒﻘﻰ ﺃﻛﺒﺮ
ﻣﻦ ﻣﺪﻥ
ﺇﻳﺪﻯ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﻙ ﻧﻐﻨﻰ
ﻭﺍﻟﻠﻪ ﻧﺤﻦّ .. ﻣﻊ ﺍﻟﻄﻴﻮﺭ
ﺍﻟﻤﺎ ﺑﺘﻌﺮﻑ ﻟﻴﻬﺎ ﺧﺮﻃﺔ
ﻭﻻ ﻓﻰ ﺇﻳﺪﺍ ﺟﻮﺍﺯ ﺳﻔﺮ


فور نزول الأخت المناضلة من الخشبة، استغل سائق الباص الساخر الفرصة كي يرسل تحية لكل الكنداكات في شمال السودان وجنوبه وفي كل بقعة بالوطن الكبير ، لم يستثن شاعرة كانت رمزاً- إلى قبل قبولها منصب وزارة الثقافة - في التوقيت الخطأ- لتسقط من عين الشعب والقصيدة ، وتصبح أول امرأة في تاريخ السودان تجمع بين نقيضين مرة واحدة : أول وزيرة ثقافة وأول سودانية تتخلى عن أن تكون كنداكة كما اختار لها الشعر وتوجتها القصيدة، وآسفاه !


مرة أخرى :


حرية سلام وعدالة 
والثورة خيار الشعب


كانت شمس مانهاتن تتهادى عندما أبصرت في الجموع صديق الطفولة وشقيقي الكبير د ياسر محجوب ، لم أتوقع يوما أن يخرج ياسر من بروكلين ليصل مانهاتن، فوالده مؤسس قسم الأمراض النفسية بجامعة الملك فيصل بالدمام وهو طبيب نفسي في بروكلين وإخوانه أطباء وزوجته أيضا طبيبة، وكلما اجتمعنا في بيته العامر ببروكلين ندب حظ السودان وسألني ببساطة : هل من المعقول أن يكون السودان الذي تعرف إمكانياته غير متسع لي وهو الذي لم يتسع لوالدي رحمه الله ، بل وكل أمنياتي أن تجد فيه ابنتي رندا تعريف الوطن الحقيقي ولو بعد حين ، حضنت ياسر الذي يذكرني بالسودان الذي يشبه تراب الأرض ، واللون الأصفر والأحمر ، وكل شيء عدا شجرة الحراز التي تشبه نظام الإنقاذ و طغمته الحاكمة.


خمسة أعلام تبدأ بالأزرق وتنتهي بالأصفر ترفرف عالياً على المسرح ، زول يمازح صاحبه :
الزول العقيم قالوا مقفل الأبواب وجالس بالقصر براه !


وارتفعتْ من عتمةِ الأرضِ 
مرايا النّارْ 
وها هيَ الآن جذوع الشّجر الحيِّ 
ولحم الأرضِ 
والأزهارْ


قبل أن يبدأ النشيد الوطني صعد السائق الذي يعرف جوع الناس في الباصات ليشكر الناس السمحة الجت من بعيد ويذكر بأماكن الباصات المتجهة للولايات البعيدة، حيا شرطة نيويورك التي قدمت كل ما يلزم لنجاح مسيرة السادس من أبريل ، ودون سابق إنذار طلب من الناس أن يلقوا قناني المياه الفارغة مع عمر البشير ونافع علي نافع والتعيس عطا وأسماء كثيرة من نظام الإنقاذ وين ؟


ردت الجموع الساخرة في عز الغضب برد واحد :


في مزبلة التاريخ !


بصوت واحد يملأ جنبات السكند أفنيو، وقفنا جميعا تحت شمس الغروب والأيادي على القلوب :


هذه الأرض لنا
فليعش سوداننا 
علماً بين الأمم
يا بني السودان
هذا رمزكم 
يحمل العبء
ويحمي أرضكم


تسقط تسقط .. تسقط بس .. كانت المقطع الأخير الذي أضافه الثوار الغاضبون لنشيد العلم.