الصورة توضح ضريحا لـ:"أبشر أبو بشرية" شرق مدينة
بربر في ولاية نهر النيل السودانية ومن الإعتقادات أنه كان يذهب بالأطفال لهذا المكان ثم يحلق شعر الولد أو البنت على حد سواء وفي بعض الأحيان يعمل له "قنبور" أو يحلق صلعة وذلك لأن هناك اعتقادا من البعض بأن ذلك يحفظ الطفل من الأذى ومن أي شيء ضار
تعد عادة الزيانة من ضمن العادات الغريبة، التي لم يتعنت الدعاة
الإسلاميون الأوائل الذين دخلوا إلى أرض السودان في تغييرها، ولم يركبوا
مطية التزمت في طريق ذلك، وهذا من فقههم، لأن هذه العادات وإن كانت تتضارب
في ظاهرها مع متطلبات الشريعة الإسلامية الحقة، تعد أمرا ثانويا عند تحري
الحرص اللازم من أجل استقطاب الشعوب اللادينية أو التي تؤمن بالخزعبلات
والخرافات أولا للتوحيد والإسلام، ومن ثم يكون من اليسير جدا تغييرها فيهم
بعد ذلك، عند تمكن أمر العقيدة الصحيحة منهم، وهو ما يقره بعض الدعاة من السلف بقولهم:"إن نقل الناس إلى إسلام مذبذب، خير من تركهم على الكفر الصريح"،
وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وآله وسلم بنفسه أكثر من مرة مع عدة
أقوام في عهده، كقبيلة ثقيف التي سبق أن طردته في بداية رحلته الدعوية ولم
تستجب له، التي جاءه وفدها مشترطا عليه بضعة شروط حتى يدخلوا في الإسلام،
فقالوا إنا نسلم ولكنا نشترط عليك خمسة شروط علك توفيها لنا، ألا تملك
علينا أحدا من غير أنفسنا، وألا ندفع الزكاة من أموالنا، وألا نخرج للجهاد،
وألا نهدم أصنامنا بأيدينا، وألا نصلي، فأجازهم النبي صلى الله عليه وآله
وسلم بأربعة شروط ولم يجزهم بالخامس، وقال لهم:"لا خير في دين لا صلاة
فيه"، وعندما سأل عن موقفه هذا، قال:"إنهم سيجاهدون وسيدفعون الزكاة من
أموالهم"، وقد كان، وهذا باب عريض في فقه الدعوة إلى دين الله عز وجل مكن
من انتصار الإسلام وسرعة انتشاره بين قدماء السودانيين.
البروفسير عبد الله الطيب -رحمه الله-
أما فيما يتعلق
بعادة الزيانة ببعديها التاريخي والشرعي، فقد وصفها البروفسير عبد الله الطيب -رحمه الله- بدقة في كتاباته الشيقة، وقد نقلت منه بتصرف في هذا المقال، فهي تعني حلق الشعر كنوع من
التبرك المذموم، والرجاء الممقوت في المخلوقين، وقد كان لكل قوم من أهل
الشمال السوداني، شيخ يزورونه للزيانة، فمثلا كان أهل الدامر يزورون الشيخ أبشر، وكل قوم لهم شيخ يحلقون عنده
عقائق أطفالهم، ويتركون من شعر الرأس شيئا يرمز إلى العقيقة ويحلقونه عند
الشيخ، الولد الصغير لا يحلق شعره إلا بالموسى، ولكن يجز من أطرافه بالمقص،
وتترك قطعة مربعة في المقدمة، وأخرى مستديرة في مؤخرة الرأس فوق القذال،
وهاتان تثبتان على الرأس لا تحلقان، ولا يقص منهما بالمقص إلا يسير جدا،
وتحلقان عند الشيخ شيخ الزيانة، وهو أبدا ضريح، وإلا أصاب السوء من لا تفعل
زيانته كما يزعم، وقد يترك للولد ذؤابة أو ذؤابتان، وأكثر ما تترك الذؤابة
إذا مرض الولد ثم نذر له أنه إذا شفي حلق من شعره عند الفكي فلان، وذبح
عتود نذرا للفكي فلان، وهذا يكون غير شيخ الزيانة، كأن الذؤابة تفرد عن
باقي الشعر الذي هو نصيب شيخ الزيانة، والذؤابة التي ينذر بها تسمى قنبورا،
ولا يكون للولد قنبور بعد البلوغ إلا أن يكون لم يف بالنذر، وحينئذ يستمر
معه القنبور إلى حين يتهيأ له الوفاء، وحينئذ يجهد هو في تغطية ذؤابات
رأسه، لأن الذؤابة أو القنبور علامة الطفولة، والكبير يخجل من ذلك، ومن أجل
هذا يقال للأحمق الدلاهة أم قنبور وأم قنابير، وفي نص هذا المثل ما يدل
على أن البنات أيضا تنذر منهن ذوائب، والغالب على البنات ألا يحلق من شعرهن
أو يقص، وإنما يضفر ضفائر صفوفا، ثم يذهب أهلهن إلى شيخ الزيانة فيحلق
شعرهن كله هناك، ثم ينمو شعرهن من جديد، وكثيرا ما يؤخر الناس حلق البنت
لبعد بنية أو ضريح الشيخ أو الولي المزعوم، ومشقة السفر إليه، وشدة الهجيرة
عنده، والبنت تسافر معها الأمهات والقرائب، وفي حركة النساء بطء وثقل وأعباء، ويقال أن البنت تمرض، ويموت جناها إذا زوجت ولم يحلق شعرها عند
الضريح، لأن الولي المزعوم لا يترك حقه كما تواتر، فيضطر أهل البنت أن
يذهبوا بها إليه وأن يحلقوا شعرها عنده، وحول أصل هذه العادة، يرى بعض
الباحثين المعاصرين أن هذا الأمر من بقايا العادات التي ورثت من العنج
الأولين، فهم يقولون أن بعضا من كهنة آمون، الإله الفرعوني المصري الشهير،
فروا من تجديد إخناتون وتوحيده، فآواهم شمال السودان، لذلك فإن الزيانة
أصلها ضرب من ضروب القربان والضحية، وكان الناس في أيام الشرك والوثنية
الأولى، يقربون الضحايا البشرية إلى الآلهة، من ذلك ما يذكر من أهل قرطاجنة
كانوا يضحون الأطفال لإلههم ملوخ، ثم جعلوا عذرة العذارى، مما يضحى به
مكان النفس الآدمية، فصارت الفتيات يفتضضن في بيوت الأصنام، ولا ريب أن
دهورا سالفة كانت تذبحهن مبالغة في التقرب إلى الآلهة الشيطانية التي كانت
تعبد من دون الله عز وجل، والوأد من هذا أو قريب من مذهبه، ومن بعد ذلك
استبدل الشعر فجعل مكان العذرة، ومن أجل هذا كثيرا ما تجد الشعر يجعل رمزا
للقوة، ومن ذلك خبر شمشون الجبار، بل يبدو أن الشعر قد جعل مكان النفس
أحيانا مما يدل على ذلك أن قدماء المصريين في دهرهم السحيق كانوا يضحون ذوي
الشعور الحمر للقمح حين حصاده، فيكون تضحية الشعر نفسه حلت مكان صاحبه،
ويحسب جز النواصي عند العرب إذا ظفروا بأسير وعفوا عنه أصله من هذا، يجعلون
شعره مكان رقبته، وإن صح كل هذا الحدس، فتكون مواضع الزيانة كأنها قد
توورثت منذ عهد كوش والفراعنة، ثم لما جاء الإسلام تأتى دعاته إلى تثبيته
من طريق الإحتفاظ بمظهر العبادات القديمة، بأن احتفظوا بضرائحها ومواضع
معابدها، ثم بدأوا بتحويل ذلك كله إلى الإسلام تدريجيا أو ما ينخرط في
العقيدة الإسلامية الصحيحة فتقبله، وهذا الأمر يسير بخطى حثيثة حتى يبطل
كله بإذن الله عز وجل، فليس هذا من الدين في شيء إلا من أمر التخفيف
والتحليق في شعيرتي الحج والعمرة، حتى إن المرأة تحلق بقدر قيد أنملة، أو
كنوع من التزين المأمور به شرعا، والحلق من عبادات الساميين القديمة، ولعل
الفراعنة وكوشا والعنج أخذوه من أصل سامي، ولعل العنج من أصل سامي ثم
خالطوا بالنيل أصولا نوبية وزنجية، وعليه فقد تم تعمد ذكر هذا التحليل
المطول حتى يساهم في تصحيح المفاهيم الخاطئة، التي تمتليء بها الساحة
السودانية كثيرا.
وكان مما وصلني أن العريس والعروس على حد
سواء، ولعهد قريب يجهزون بما توارثوه من الأجداد العنج، وذلك بنهيهم عن
الإغتسال بالماء لمدة أربعين يوما قبل الزواج، حتى لا يفسد الماء المواد
التجميلية في عهدهم، كالدلكة والمسوح، وبالتالي فلا يجوز لهم الصلاة
والتعبد لله الواحد الأحد، فانظر بالله عليك إلى مدى جهل هؤلاء الناس بأمر
دينهم، ومعلوم أن لا طيب أطيب من الماء، فهو أطيب الطيب الموجود، فإذا بدأ
الزوجان حياتهما بمعصية كبيرة كهذه، وهي ترك الصلاة، لأجل التجمل والتطيب
الظاهري، والصلاة تطيب ظاهري وباطني، فهل سيكون مستقبلهم مليئا بالطاعات،
اللهم إلا من آمن وتاب وعمل صالحا، والبعض القليل ممن أراد الله عز وجل له
النجاة في ذلك الزمان هو من يزن هذا الأمر بميزانه الشرعي، فإنه بكل تأكيد
سيتبين له زيفه وبطلانه، وأنه ليس إلا تغريرا من الشيطان الرجيم الذي نهانا
الله عز وجل عن اتباع خطواته، لأنها ستقودنا في النهاية إلى الجحيم وساءت
مرتفقا، قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا تتبعوا خطوات الشيطان".
والحقيقة إن العادات التي تتضارب مع العقيدة الإسلامية كثيرة جدا خصوصا
في السودان، التي يمكن تمثيلها بداء مستفحل يجب السعي بجد واجتهاد للتخلص
من شره القاتل، ومن هذه العادات تزوير الأطفال عند الأعياد، لأضرحة بعض
الصالحين أو من يزعم بأنهم صالحون، وذلك من أجل التبرك والتزود، حيث يفعل
ذلك سدنة آثمون، وعليه فإن التزام الإسلام الحق الذي لا يداهن ولا يهادن،
ولا يخشى في الله لومة لائم، هو المخرج الوحيد من هذه الأزمة المهلكة، فهو
أكثر تأثيرا لقربه من الفطرة السليمة التي تتفق تمام الإتفاق مع العقيدة
الصحيحة، موئل النجاة، ومرجع السلامة.
اللهم هل بلغت اللهم فاشهد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق