من تصميمي تقديرا للأديبة السودانية الفذة نائلة فزع
ها أنا ذا يحملني شوق عارم إليك
يا وطني الحبيب، فكم حلقت بأجنحة الأمل الأسطورية التواقة دوما إلى دفء ترابك
الحاني، فأنا أشتاقك شبرا فشبرا، برغم البعد المضني والغربة المرهقة، وبرغم ناعق
البين المستمر، وأتحد في رؤى شوقي إليك، كما يتحد النيلان في قلبك النابض بالحنين
والمترع بالألق، إلا أن شبراً واحدا دون غيره قد ظل يستهويني فيك منذ أن ضمَّ رفات
أمي وآوى جسدها النحيل، فهي التي رضعت منك أسمى المعاني وأرفع القيم، ثم أرضعتنيها
بحنانها المعهود، فقد كانت ولا تزال تمثل لي الحب الصادق والود الحقيقي كلما صار ود الناس
خبا، كما تمثل لي الملاذ الآمن إذا ما ادلهم ليل الكروب الكالح من حولي، ولا
أبالغ إذا قلت إنها قد كانت بحق حصني الحصين من غدر الآثام ومن خيانة الذنوب، كما
لا أبالغ إذا قلت بأنها كانت أفضل ملهمة منحتني روعتها بعضاً من رونق الكتابة
وديباج البيان، ولم تكن هي الأم فحسب، بل كانت الأخت في الدروب، والصديقة في
الأزمات، وفوق ذاك وغيره كانت كاتمة أسراري، ومفرجة غمي عندما تضيق الصدور.
وكم حاولت جاهدة ألا أتعمد الكتابة
عنها حتى لا أذرف الدموع، ويخذلني غرب الشؤون، فأنا أخاف على الأوراق من تعذيب الأسى
النازل من حسرة البعد عنها، واحتراق الزفرات المحتدمة من ذكرى غيابها، ولكن لا
نقول إلا ما يرضي ربنا، وكم أرجو من الله عز وجل أن يستجيب دعائي لها، وطلب
الغفران، بالرغم من أني لا أخال أن أحداً قد مات من غير ذنوب سواها، فقد كانت الصدق
والوفاء والإنصاف والتقوى بكل ما تحمل هذه الكلمات من معانٍ، وقد كانت نصيرة المظلوم
والظالم في آن واحد، ومجيرة المحتاج ومشبعة أفواه الجياع.
لقد عاشت على الكفاف، حيث لا زاد لها إلا صلاة الضحى ونافلة الهجيرة واحتراف المداومة على التهجد والتبتل، بل إن من أشهر عاداتها وأصدق هواياتها الإكثار من الصلاة على النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم، وقد كانت تتسامى عن آلام مرضها الفظيعة ودائها العضال بركونها إلى راحة العبادة وبحبوحة الذكر، فهي تدرك أن أفضل وسيلة للإطمئنان هي هذه الوسيلة وليس سواها، ويا لتلك الآلام التي كانت تكابدها، فهي ضيف غير مرغوب فيه سكن في جسدها المنهك ولم يفارقه إلا مع روحها الطاهرة.
والآن وبعد رحيلها المؤقت، فقد احتوتني أم أخرى إذ طالما أوصتني هي نفسها بحبها وببرها ما استعطت، ولكن لا أحسب أن هذه الأم الرؤوم يمكن أن تعوضني عن فقدها، مهما اختزلت كل طاقتي في حبي لها من بعدها، فهي باقية لن تزول إلى أن يرثها الله عز وجل ومن عليها، فهي أم معمرة وخالدة خلود النيل الذي يغذي عروقها النابضة بالحياة، إنها أمي الأرض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق