بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب
الثلاثاء، 25 أغسطس 2020
طفلة في زمن بلا سلام
لم تكن "سلمى" قد تجاوزت السابعة من عمرها حين تغيّرت ملامح مدينتها.
كانت تعرف أزقتها الملتوية جيدًا، شوارعها ومتنزهاتها.
كانت تحفظ خطواتها نحو المدرسة، وتعرف الطريق المختصر إلى بيت جدتها، وتحفظ أصوات الباعة في السوق الصغير، وألوان الفساتين المعلّقة في واجهات المحال.
لكنّ كل ذلك أصبح أثرًا بعد عين؛ فقد أُحرق السوق، والبيوت تهاوت، والطرقات غمرها الغبار والركام.
ذات صباح، كانت "سلمى" تكتب واجبها المدرسي حين دوّى أول صاروخ.
فاهتز البيت حتى شعرت وكأن الأرض تبتلعها.
هرعت أمها إليها، واحتضنتها بقوة، فيما كان صوت الزجاج يتحطم وصراخ الجيران يملأ السماء.
لم تدرك الطفلة معنى كلمة قصف التي ظلّ الكبار يردّدونها، لكنها شعرت أن شيئًا وحشيًّا دخل حياتها ولم يخرج.
وبعد برهة من الوقت جلست الطفلة "سلمى" على حجرٍ مكسور عند أطلال بيتها، بيتٍ لم يبقَ منه سوى جدار متصدّع يوشك أن ينهار.
عيناها واسعتان كسماء غائمة، تحملان دهشة من لم يفهم بعد:
لماذا يُقصف بيتٌ كان يملؤه الضحك والسرور؟!
وتنتشر فيه رائحة الخبز الطازج؟!
كانت تمسك بدميةٍ محروقة الأطراف، تلك الدمية التي كانت ترافقها في لعبها، لكنها اليوم شاهدةً صامتة على موت أخيها الصغير تحت الركام.
كلّما ضمّتها سلمى إلى صدرها، شعرت وكأنها تضمّ أخاها إلى صدرها المكلوم بفقده.
كانت "سلمى" تحاول أن تستعيد شيئًا من دفء غاب عنها بسبب الحرب.
وحين يهدأ القصف لبعض الوقت، ويستريح الدمار من عمله اليومي، ترفع "سلمى" وجهها الصغير نحو السماء وتهمس:
"يا الله، قل للطيور أن تأخذني معها، فأنا أخاف النوم هنا... أخاف أن أستيقظ ولا أجد أمي...".
أمها كانت تجلس إلى جوارها، وجهها شاحب من التعب، لكنّها تتظاهر بالقوة، تبتسم ابتسامة مكسورة وتقول:
"غدًا، يا "سلمى"، سنبني بيتًا أجمل من هذا، وستضحكين كما كنتِ".
لكنّ "سلمى" تعرف رغم طفولتها، أن الغد في الحرب ليس وعدًا، بل سؤال معلق في حبال الهواء، ولا جواب له.
لقد استشهد أخوها الأصغر وهو نائم، بينما كانت دميته إلى جانبه.
لم يعد في قلب سلمى إلا خوفٌ دائم، تسكنه ذكرى وجهٍ صغير غاب فجأة.
منذ ذلك اليوم، صارت تتمسّك بتلك الدمية المحترقة الأطراف، كأنها آخر ما بقي لها من ماضٍ لم يُلوثه الدخان.
انتقلت العائلة إلى مخيم يفتقر إلى الماء والطعام.
كانت الطفلة تنام على بطانية رقيقة، تتوسد ذراع أمها، وتستيقظ على صفوف طويلة من النساء بوجوه منهكة وأطفال يبكون من الجوع.
ورغم كل ذلك، لم تفقد سلمى عادةً صغيرة اعتادت عليها:
كانت كل مساء تجلس عند طرف الخيمة، تنظر إلى الأفق الأحمر، وترسم على التراب بعودٍ صغير.
ترسم بيتًا ذا نافذة واسعة، وشجرة ياسمين أمامه، وأخًا يضحك بجوارها.
وحين تسألها أمها: ماذا ترسمين يا "سلمى"؟!
تبتسم بخجل وتقول: أرسم غدًا لم يحن أوانه بعد.
جعلت "سلمى" ترسم على التراب خطوطًا ودوائر، كأنها تبني بيتًا من وهم، ثم قالت بصوتٍ مرتجف:
ماما، إذا متّ... قولي لله أنني كنت أحب الدُمى والخبز والضحك... ولا ذنب لي بالحرب.
وفي ليلة من ليالي النزوح، اشتد البرد حتى شعرت الطفلة أن أصابعها ستتجمد.
تسللت إلى أمها، ووضعت رأسها في حجرها قائلة:
ماما، هل صحيح أن الأطفال في الجنة لا يشعرون بالبرد؟!
ارتجفت الأم، ولم تجد جوابًا سوى دمعة ساخنة انحدرت على خدها.
مرت الشهور، والمدينة التي ولدت فيها سلمى لم تعد سوى أطلال.
وفي صباحٍ آخر، جاء صوت القذائف كعادته، وتسلّلت رائحة البارود من بين الشقوق، وكان القصف أقسى من ذي قبل.
هرع الجميع إلى النجاة، لكنّ شظية صغيرة أصابت الطفلة في صدرها.
سقطت على الأرض، والدميّة لا تزال بين ذراعيها.
حاولت أن تبتسم لأمها، وهمست بصوت مبحوح:
ماما... قولي لله أنني لم أكن أخاف منه... بل كنت أخاف من الحرب فقط.
ثم أغمضت عينيها الصغيرتين كمن غلبه النوم.
وسقطت دمعة على التراب، دمعة تشبه حبة مطرٍ يتيمة في صحراء قاحلة.
صرخت الأم، وحملتها بين ذراعيها كأنها تريد أن تخبئها من العالم، لكن الحرب لا تعرف الرحمة.
في اليوم التالي، دُفنت سلمى تحت شجرة زيتون وحيدة قرب المخيم.
تركت أمها دميتها فوق قبرها، لتبقى شاهدًا على طفلة أحبّت الحياة، لكن الحياة لم تحبها بما يكفي.
ومع كل صباح، تمرّ النساء قرب القبر وهن يهمسن:
نامي يا طفلة الحرب، فسلامٌ عليكِ في زمنٍ بلا سلام.
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق