بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب
بديني أفتخر وبأمتي أعتد وبمنتماي أعجب

الأحد، 10 مارس 2019

الوطن فردوس الغريبة - للكاتبة السودانية إشراقة مصطفى

الوطن، الحنين، شجرة العمر الأولى، الشجرة التي أنزلتني بإغواء من حضنه الشاهق، الوطن الذاكرة، الأزقة والشوارع ودندنة الأمهات وصوت الإيمان العالي عند أصابع جدي وهو يسبّح بحمد الله كما طيور “أم بيوض” التي أحبّها منذ صغري وأبحث عنها في كل البلاد. الوطنُ اللغةُ الأولى، الحبّ الأولُ والقبلةُ الأولى ورائحةُ الحناء وزيت الكركار والأخاديد على وجه جدتي الجميلة وصوتٌ إذاعيّ جهور لوّن المدينة بنبضات العاشقات، والحمام الزاجل يشجيه بسيرة دمعاتهن وليالي الانتظار.

الوطن كوني امرأة منذ ولادة الحبل ومعاناة النساء، منذ فرز الأدوار، منذ أول انقلاب على الحياة بدأ بسيرة الموسى الصدئة وليلة الختان. صوت الحقوق وطريق النضال الطويل، الحرب الضروس وسيرة السلطة والثروة وأول قطرة حبر سرية كتبتها امرأة سودانية.. قطرة حبر هي التي تكتبني وسيرة الوطن الآن.. وطني جسدي المفصَّد بالقوانين الظالمة، بسياط من يدٍ مقهور بسيرة الخبز والحرية.

الوطن هو لحظات المخاض في البلاد “الغريبة” حين أنجبت ولم أصرخ كما كانت غرف الولادة بالقرب مني، لم أصرخ ولكن أصوات الجارات في “كوستي” كانت تهدج في داخلي: “يا الله لي”.

سمعتهن يندهن الله وأولياءه الصالحين ليفكّ حملي، يقمن بسحن المحلب والصندل يفوح، (ويا الله تحِلْها وتحْسِن خلاصها)… الوطن هو حيث الفقد الكبير، فقد العناق والدمعات الحنونة، دمعات الفرح. يد حنونة انفكت عن أصابعي في أزمنة الحسرات والفجيعة الفادحة، اليد التي أحببت بعنفوان مخاضي في غربة طولها وعرضها السماء، والجليد ينهال ناقراً على نافذة المستشفى الأنيق ونسمة من الجنة تطرب قلبي بالإيمان، وباكورة حياتي يفتح فمه الصغير يبحث عن ثدي الحنان.. الوطن، حليب أمومتي الأولى!

الوطن هو الزغرودة المفقودة في ليالي الشتاء وفي كل فرحة. هو الغيمة التي هشّت دندناتها في زغاريد الحاجة زهرات الأشقر وهي تطلق عنانها في نجاحات البنات والأولاد في جامعة “فيينّا” مثلما شددتُ بها حيلي يوم تخرُّجي.

الوطن في حضن الخالات، نساء “كوستي” التي لا أحس أنني في وطنٍ إلا حين أدخلها بكل كياني وينهض انكساري وتقوم قيامة أناشيدي و(يا ترى ماذا أصير حينما أغدو كبيراً). هو رصّة الكبابي وفناجين الشوق وروائح القهوة البعيدة تسوقني كلَّ عصريةٍ من “فيينّا” لـ”كوستي”، لحيّ الرديف، للسوق الصغير، ذاكرتنا التي لن تنمحي حتى لو قامت عمارات شائهة وتشرّد أصحابها.

لمّةُ الجيران والفوانيس ورائحة البن والهبهان وحبال العنقريب المبلولة برائحة المطر.

(أنا في المدائن الضّائعة ضايع ليْ زمن

سرحان على الأرض الغريبة وبسأل الشوق عن وطن).

الوطن، جسارةُ الحب والثورة، الحلم المجهض في “القصر”، الحلم الناهض على أكتاف الناس. الذي قضم كعكة قلبي هو ذاته مَن قسمَ التعب للعالمين. الحب وجدلية الثورة والوطن.. لذا لم ينعتق الوطن ولم يكن الحبّ إلّا وهماً جميلاً أزهر في مارس/ إبريل.

شجرة النيمة والتبلدية وصحراء بيوضة وجبل موية.. الوطن!

لي أوطان..

والوطن.. جنة منفاي الأبديّ!

لغتي، لكنةُ لساني وأنا أنطق الألمانية، خلفياتي الثقافية، لوني وضجيج الحنين في دمي، مشاطي وهدير النيل في خطواتي، والمظاهرات والانتفاضات والحقوق.

الوطن حين يقفز سؤالٌ تكرر كثيراً في سنواتي الأولى: متى تعودين إلى بلدك؟ وبلدي يفتح أحضانه للضيوف ولا يسألهم إلا البقاء طويلاً رغم ضيق الحال. لم يعد السؤال يُطرح عليّ، وربما كان سؤالاً طبيعياً، ولكني معبأة بابتسامة من استضافوني وجدّتي حين يتعطل القطار بسبب الخريف فنضطر إلى البقاء يوماً أو يومين حتى يأذن الله، هو وقت توثقت فيه عرى المحبة، فكيف يسألك أحد على أساس أنك ضيف: متي تعود إلى بلدك؟ أرعبني السؤال، أرعبني!

الوطن؟ الذي أرادت ناشطة ألمانية أن تنزلني على أرضه وهي تقول: “أنت بين السماء والأرض، انزلي في الوطن الذي يوفر لك ما ترغبين!”. هنا الوطن الذي يوفر لي كل ما هو مدعوم بالحقوق، ولكن النظام المسنود بالقانون هنا يجعلني واقفة مكتوفة الأيدي حين تناديني جارتي العجور النمساوية أن أساعدها بعد أن وقعتْ على الأرض! قلت لها كثيراً: “لو كنتِ في كوستي حيث أعلنتُ محبتي للكون ولك، لرفعتُك عن الأرض، لجاءت نجاة عبدالله راكضةً بحنينِ حقولِ السمسم، لوقفَ العشراتُ أمامك بحنان أمهاتهم وجدّاتهم،ولكن هذا ممنوع هنا، لا بد أن نتصل بالإسعاف”.

حدث مرة حين نادت عليّ جارتي الممرضة من بلاد كان اسمها يوغسلافيا، طالبةً أن أساعدها لنرفع جارتنا العجوز النمساوية، وبعاطفة نبيلة اقتمستها معي قلتُ لها: “ولكنك تعرفين أن هذا غير مسموح، إذا حدث لها أيّ مكروه سنكون مسؤولتَين عن ذلك!”. وبالفعل اتصلنا بسيارة الإسعاف التي جاءت قبل أن أكمل مع جارتي النمساوية الحكاية وأنا أجلس بالقرب منها على الأرض، رأيت فيها أمي حليمة وجارتنا حبوبة الكريم يدي، رأيت فيها جدات جميلات ومنسيات وحكيت لها ثم سألتها عن عمرها.. ابتسمتْ وقالت: “بعد 43 يوماً أكمل 92 عاماً!”. ابتسمتُ بمرارة وفي الخاطر سنوات تنسرب كالرمل في السودان.. جدتي ماتت صغيرة، مثل الأمهات اللواتي يمتن في الولادة والشباب الذين يُقتلون في حروب البلاد. معضلة الوطن هي معضلة هوياتي، وأنا لا أجد مخرجاً من نهر الدموع الذي يغلي ويفور والفنان محمد وردي يغنّي “الطير المهاجر”، مثلما يحدث حين أرى وجه أمي المفصَّد بتواريخ الألم والحنين وبلاد اسمها السودان. أمي وطنها السودان، وأنا وطني أمي وشجرة رمتني ظلالاً تمشي بين العالمين…

الوطن؟ وطني الناسُ أينما كانوا وكيفما وُجدوا…. هل يجنّبني هذا ورطةً الحنين؟ لا أعتقد!

الوطن هو طفولتي وسنواتي الغضّة، قصب سكّر الماضي والحاضر… وحقول عباد الشمس تعرفني؟ ألستُ ابنةَ الشموس التي لوّحت لوني بالإرادة والصمود، ولا صمود حين تقطر الأغنية من دمعاتي:

(وأنا حالي في بعد الوطن

دفعني ضيّ العين تمن).

تسيل الأغنية بصوت محمد وردي، وعصافير الخريف ترحل، ترحل بعيداً، ولكنها تعود.. فهل تعود عصافيري ولو على كفن؟ أدندن بالأغنية، بل تدندن الأغنية مع وقع خطواتي في دروب الدانوب الذي يعرفني، الدانوب الذي حفظ أغنياتنا، يعرف مني الخير وعائشة الفلاتية، يعرف ملكة الدار وصوت الحلم في “هنا إذاعة أم درمان”، إذاعة السودان و(الشارع اللي شاقي الترام) و…. وآهاتي وحنيني أن أرى بلاد النيل بمستوى النمسا، ولا مستحيل! إذ كيف نهضت النمسا من دمار الحروب والنازية؟ كيف لولا نعمة الديمقراطية والتنمية التي تستهدف الإنسان؟

هي حالي حين أختنق وأنا أبحث عن دروبي الأولى وأحاول أن أرتب ضجيج الغربة الذي يسكنني، الغربة التي أحسها في شوارع ألفتي وأغنياتي الأولى؟ الغربة لا ترتبط بالأمكنة المرئية.. الغربة في مكانٍ لامرئي، تملأ جوانجي حتى تكاد عصافير الخريف تختنق.

(ليه يـا عـصافير ليه الأسف مين علّمك أسف الوداع

وعارف ده ما أول سفر لبلاد بـعيدة بـدون مـتاع

زي ما بتخافي مـن الرياح بنخاف كمان نحنا الضياع

ليه يا عصافير ليه الضنى

صفقة جناحك أحزنها

غـايـب الـسنين الـليلة مالو غنا العصافير غـلبو).

الوطن خيباتي وانكساراتي وأحزاني الكبيرة… هو روح المقاومة التي تسكنني لأجل أوطان جدير بها الإنسان، إنسان الريف والمدن القصيّة.

الوطن التفافُنا حول وجبات الطعام، اليقينُ حين نأكل معاً، حين تمسك بنت الجيران بتلابيبك لتتناول الطعام معهم، أن يقف أهل النيل الأبيض عند الغروب لإنزال الركاب المسافرين لتناول الإفطار في رمضان. مشاهد ما زالت ماثلةً في الذاكرة رغم أننا لم نعد “نأكل مما نزرع”! الوطن هو ألّا تأكل وحيداً حتى لا تموت وحيداً..

الوطن، الأغنياتُ الشجية ورقصات “التم تم” و”السمبلا”، رقصة السيف و”الكمبلا”، “النقارة” و”كليمبو”. ورقصة جسد مجنون بالحياة الطليقة يرقص في ليالي الحب على ضفاف الدانوب (فرنقبية).

هو أن أشعل كل الأغنيات دفعة واحدة ليكون الشتاء حلواً في قسوته وعذباً في شراسته.

أن تفوح رائحة عود الصندل، وأن تقرع جارتي البابَ محتجّةً على قسوة الرائحة التي سببتْ لها أزمة من عويل الدخان.. والوطن هو احتجاج شقيقتي الزائرة على اعتراض جارتي على روائح صندلنا وبعض هويتنا. هو ضحكتي العالية الممدودة نحو استيعاب الآخر وقبول رأيه وغضب أختي التي كانت أقرب إلى الانفجار وهي تواجه للمرة الأولى فكرة أن رائحة الصندل “مزعجة”.

الوطن هو عصام زيادة يومَ أقسم حين رآني أحمل أدوات النظافة، طالبة الماجستير التي ستقوم بتنظيف المبنى والمراحيض لأجل الحلم. هو “بطرس كوني” صاحب الهمّة العظيمة والحلم الكبير أن يظل الوطن واحد، إلهام عبدالرازق في ليالي “فيينّا” وهي تسمع باهتمام ما كتبته وتشدو حين أكرر بعض المقاطع التي طلبتْ تكرارها. دفء سناء الصادق، صديقة أيام البدايات.. والتفاف صديقات الدمعات والآهات والشجن حولي.

الوطن هو الشاعرة “دوريز كلومشتاين” التي أجدها حين يصرخ المنادي: “يا أهل المروءة” عندما فاجأني سيل الموت وهو يجرف بنت خالتي وأحبّ الناس إليّ.. دارت بي الأرض وكانت هي بوصلة الارتكاز، لم تتردد وهي تسألني: “على متن أي خطّ طيران ترغبين بالسفر؟”. الوطن هو أن أعود ولا أجد أحضانه في بنت خالتي التي لملمت مواجع روحها ورحلت، ومن يومها وجناحي مكسور في الوطن.

الوطن هو “هنا غولدا”، النمساوية الجميلة وهي تساندني في أيام الضيق، هو جارتي فاطمة وهي تأتيني محمّلة بالأطعمة التركية في ليالي رمضان الطويلة، وبالأطباق وفناجين القهوة ولوحات عليها آيات من القرآن الكريم، هديتها لي كلما عادت من إجازتها من تركيا. هو “هيلموت نيدرلا”، الإنسان الذي قال فعلياً: “تباً للحدود!”. هو “كورت ستلافيك” الذي راجع ترجماتي لأجل الأدب هنا وهناك دون كلل أو ملل وكنا نخلق لنا وطناً من المعاني والبلاد، كل بلاد السودان.

الوطن.. الوطن هو “شيرين سباهي” تبحث في دجلة عن فراتها.. فراتُها في نيلي. الوطن في “فالاتكا” و”بيرسون” وتضامن حقيقي في أزمنة أزماتي، “بيرسون” الذي قام بتصحيح رسالتي للدكتوراه بمحبة يندر مثيلها، و”فالاتكا” التي لم تتردد يوماً في تقديم الدعم لي في أزمنة الكفاف.. هو الوطن الجميل في “هيلغا امسبيرغر” التي أبدت التضامن نفسه، و”هيلغا نيوماير” وجمال سنوات من الرفقة والتضامن الحقيقي.

هو امرأةٌ عابرة ابتسمت لي في الطريق العامة دون أن تعرفني لولا هدير النيل معانقاً الدانوب.

وطنٌ هي “ريناتا”، و”مارياما”، و”كينان”، و”مرياما”، و”سيغلندا” و”ماغدلنيا”. ووطنٌ هو “حبيب”.

الأمكنة توشّحني بلون الأبنوس حالما ألتقي أحد أبناء إفريقيا، وأرى انتظارهم في مكاتب العمل واللون.. ألون حكايات أوطان تشدو حالما أسمع كلمة باللغة العربية، حالما تفوح الأطعمة وصديقتي من أمريكا اللاتينية تحكي لي عن شرائح اللحم نفسها التي نعلّقها على الحبال. الوطن هو أن يقول لي كثير من السوريين والسوريات إن السودان هو البلد الوحيد الذى فتح أبوابه دون شروط للسوريين، وإن إنسان السودان إنسان حقاً. (وبلدا هيلي أنا).

الوطن عصارةُ شجني حين قلت لنمساويٍّ تعلّق بحبال الوهم في قلبي، إن عينيه جميلتان وتغريان بالإبحار والركض، ولكن لا وطن لي فيهما!

الوطن هو الرجلُ السوداني، بكل انقلاباته وعنفوانه وصلده ونسائمه.

الوطن.. حالةٌ وجدانية، ماء الروح التي تجري في القلب، القلب هو دفق الوطن حين تفوح رائحة المحلبّية والحنّة ويعلو صوت مبارك حسن بخيت: (ست البيت بريدها براها.. ترتاح روحي كلما اطراها).

أن تمنحني الروايات التي أقرأها وتزين غرفتي وأركان البيت.. الكتب أوطان، أوطانٌ الإنسانُ فيها هو حبر الوجود.. حين أسافر كل ليل لأطراف المدن البعيدة في البرازيل، إلى جاكارتا، والسنغال، و”أوستيرول” والرقصات الشعبية. حين أعود من رحلة عمل وصوت “حميد” يشقّ جبال الألب، محجوب شريف والقدال وأزهري محمد علي، تحتويهم ملكة الدار في حضن فراغها الدفيء.. أناشيد هادرة عرفتْ جلالَ قدرها هذه الجبالُ التي تحيط بي والقطار يدندن: (كلما تباعد بينا عوارض ألقى هواك يا سمحة ملكني)

رائحة الإنسان السوداني في “فيينّا”، (قلدة) نساء الحنوّ والحنان حين تشدّ الدنيا خيوط روحك وتجدهن: الحاجة زهرات، إخلاص، صفاء، سناء، فاطمة موسى، ليلى ونوال، زينت، مشاعر ومشاعر، عفاف وبثينة، منار وريم، هاجر، حنان، مشاعر، رقية، سهير وسهير و…… و… و…. و…. رائحة البيوت والناس. لمّة السودانيين في المناسبات السودانية وقدرة حضورهم لتحويل المكان إلى بهجة وألفة حميمة… هو الوطن الذي جعل دعوات الأمهات مقبولة في السماء (خلّي لينا في كل بلد ولد)، ومرت الأيام ومنذ ليلة الانقلاب والصحارى والبحار تشهد أن سيرة الحلم بالخلاص.

في أحلام الناس المشروعة، في رماد الحروب وقبحها، في حنين الأرض للسلام، فيروز في ليل “فيينّا” الصامت، في صباحاتها.. “راجِعون”، و”راجْعين يا هوى”.

“أنت من ديارنا من شذاها

يا نسيم الليل تخطر

حاملاً عبير أرض هواها

في حنين القلب يزهر

أنت من حقولنا يا رسول

من ربوع الخير عندنا

كيف حال بيتنا؟”.

تخرج كل كائنات الله من روحي حين تهدج فيروز: “كيف حال بيتنا؟”. والإجابة المشرعة حنانها في حضن نساء النيل؛ نعمات خيري، أماني صيام وسناء عبدالله عمر.. النساء اللاتي وجدتهُنّ سنداً حين كشّرت الدنيا عن أنيابها فقلنَ لي إن الوطن، الوطن المشتهى، متمدِّدٌ فيهن نيلاً ونخيلاً ورطباً تعرف سرَّه تماضر الخنساء وهي تفسح لي في القلب كلَّ الغرف والفضاءات. الرفيقات اللاتي أعدنَ معي خريطة الطريق نحو جدلية الوطن والحبيب.

كيف حال بيتنا؟حال بيتنا يوم مات جدي، يوم ناحت البلاد التي تسكن مسامي ونبضاتي، يوم امتدت أيادٍ نبيلة، يد صفاء ونجيب بمائتي دولار لأرسلها للسودان كمساهمةٍ في مصاريف العزاء، فكانا العزاء النبيل. والوطن حين تطربني الحكايات عن خبرات وتجارب في دورب الحياة الإنسانية، يحكيها بكل الأشواق لتلك الدروب كمال حسين.

الوطن؟ أن يحتوينا البيت السوداني الحميم في الحيّ الثاني والعشرين، بيت الألفة الذي أشرعه العم فؤاد العجباني ورفقة عمره الجميلة الحاجة زهرات، حيث يفوح السودان الجميل الذي يستوعب تنوّعنا وتعدّدنا واختلافاتنا الفكرية والسياسية. الوطن هو أن يضيءَ المكانَ أخَواي عبدالله الشريف وأحمد بحيري بحضورهما حين يضج المكان بالنمساويين احتفاءً بإصدارٍ لي، حضور ظل يشاركني دوماً هدير النيل وحنان التبلدي وشجو النيل الأبيض.

الوطن؟

الوطن حيث يكون لجسدك مطرحُ شبرٍ يتساوى في مرقده الجميع..

حيث تجد فيه قبراً يستريح فيه الجسد من عنت الحياة مفعماً بالراحة الأبدية وروح تسعد بخلودها، هناك حيث القبور المجانية التي يتبول عليها المارة والسكارى ومن لم توفر لهم الدولة أبسط الاحتياجات الإنسانية. هناك حيث أُدفَن فيها وأعود مثل “درويش في كفن”، هنا لا أستطيع أن أدبر مبلغاً لمقبرتي، ولا أريد تابوتاً مهما أدمعت فيه الورود، إذ إن الوطن أن أُحْمَل على عنقريب، وأن تبكي روحي وتعود لجسدي الحياة وهناك من يبكي عليّ! من يتيقن لحظتها أنني أحببته، فقط حين أموت. أن أسمع هديل البكاء و”قوقاي” الدموع (وحي وووب.. حي ووب)…. هناك حيث لا يؤجَّل البكاء…. و(البكاء بيحرّرو أهلو)! و(بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ).

أم إنّ الوطن هو أن أوصي بمنح جثتي لطلبة العلم، لتشريح هوياتي! فهل يحتملون ركض الأفراس وعويل الوعول وعواء الذئاب التي ستنبت من جسدي مثل الأشجار، مثل شجرةٍ كان وجهي غيمة تسيل في حضن الربابة ولحاؤها يغلي في ساقي؟ أم يوارى جسدي ثراها ويزلق روحي زغباً، يزلقها من رمادها فينيقاً وأعود “أفردويت” مجنونة بسيرة الأبخرة والأحاجي والبهارات وسيرة السفن المحمّلة بريش النعام والأبنوس والجزور؟

الوطن؟

الوطن في الناس

وكل الأرض وطن..

والمنفى؟

المنفى يسكنني… وكُلّي تصالُح!

د.إشراقة مصطفى حامد

*فصل من: الدانوب يعرفني، الوجه الآخر لسيرة الانهار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق