قراءات سودانية – بقلم: د. مجدي الحاج – المقال رقم: 5
فضل أهل النوبة وحضارتهم وتأثر عرب السودان بها ونبوءة أشعياء في التوراة عن مستقبلهم
النوبة هم قدماء السودانيين "ancient Sudanese"، ويقول البروفسير عبدالله الطيب في تعريفهم:
"وهم أهل السودان في الدهر السالف، في عيونهم عمق وسعة، وعظام وجناتهم كأنهن بوارز، ومنهن جمال فتياتهم، وشعورهم لينة وما خالطها من القساوة من الدم الزنجي، وألولنهم شديدة السواد الذي يضرب إلى الزرقة، وسمرة قمحية، وفيهم الصفرة، وهم الذين سماهم هيرودوتس - المؤرخ اليوناني الشهير - بالأثيوبيين طوال الأعمار".
بينما يرى البروفسير مكي شبيكة أن بعضا من تاريخهم وخصوصا تاريخ العنج غامض غموض تاريخ مملكة أكسوم الحبشية التي لم يظهر من آثارها إلا النزر اليسير.
وعلى كل فإن قوميات الشعب السوداني الحالية تتلخص في أربع:
أولا: القومية العربية، وتمثلها مجموعتان كبيرتان هما المجموعة الجعلية عدنانية النسب، والمجموعة الكاهلية قحطانية النسب، وتنضوي تحتها عدة قبائل شهيرة في مناطق متفرقة.
ثانيا: القومية النوبية، وتمثلها قبائل الدناقلة نسبة لمدينة دنقلا التاريخية الشهيرة، والمحس الذين يقال إن جدهم سمي بعبد المحسن، والسكوت والحلفاويين نسبة إلى مدينة حلفا القديمة، وتتركز هذه القبائل في شمال السودان وفي جنوب مصر، وهم عناصر ذات طبيعة مميزة تداخلت كثيرا مع العرب والمماليك بمختلف أجناسهم وأعراقهم.
ثالثا: القومية البجاوية، وتمثلها قبائل الهدندوة، والأمرأر، والبني عامر، والبشاريين، وهم البجا بشرق السودان وحلايب وبعض مناطق القرن الأفريقي.
رابعا: القومية الزنجية، وتمثلها معظم قبائل الجنوب والغرب السودانيين.
علما بأن هذا التقسيم يعتمد في الأساس على التركيبة الثقافية، وليس العرقية كما يظن، فهناك تداخل واندماج غريب فيما بين هذه القوميات جميعها.
ومن الملاحظ كثيرا في لهجة أهل السودان أن لفظة "آب"، تضاف إلى الأسماء العربية في السودان عند النسبة إليها في أغلب المناطق، كرباطابي منسوبا إلى رباط، وعمرابي منسوبا إلى عمر، وفزعابي منسوبا إلى فزع... إلخ، وهي بكل تأكيد من الألفاظ الدخيلة على لغة العرب، ويرجع أصلها إلى لغة العنج أو النوبة القدماء سكان المنطقة الأصليين قبل نزوح العرب إليها وتمكن أمر الإسلام فيها، وهي تعني "جد" أو "آل"، - وهذا ما يعرف بالنسبة العرب نوبية في عامية أهل السودان إن صح التعبير - ، وغيرها من الألفاظ كثير لا يسع المجال هنا لحصره، بل ومن العادات أيضا ما تأثر به العرب الفاتحين، مما يعد دليلا واضحا على عراقة الحضارة التي كانت سائدة في السودان في تلك الفترة، والتي سيطرت عليها شعوب حامية وخليط من الساميين الممتزجين مع الزنوج الأفارقة.
وللمزيد من الفائدة ينبغي ذكر أن بعض أهل السودان ينسب إلى حازم بحوازمة بدل حازميين، وإلى خالد بخوالدة بدل خالديين، وإلى جعفر بجعافرة بدل جعفريين، وإلى عباس بعبابسة بدل عباسيين، وإلى عقيل بعليقات بدل عقيليين أو عقليين... إلخ، كما يستخدم البعض الآخر أدوات المصريين في النسبة إلى الأماكن كدنقلاويين نسبة إلى دنقلا، وحلفاويين نسبة إلى حلفا، وشنداويين نسبة إلى شندي، وعطبراويين نسبة إلى عطبرة، إذ ينسب المصريون إلى كل من طنطا، طهطا، فيشا، قنا، بطنطاوي، طهطاوي، فيشاوي، قناوي على التوالي، ويستخدم البعض الآخر أدوات الأتراك العثمانيين في النسبة إلى المهن والوظائف، ككهربجي نسبة إلى العمل في الكهرباء، ومكوجي نسبة إلى العمل في كي الملابس، وعربجي نسبة إلى العمل في سواقة العربة التي تجرها الدواب... إلخ.
وبالرجوع إلى موضوع النوبيين وفضلهم نجد أن مملكة كوش مثلا ترجع في أصلها إلى كوش بن حام بن نوح عليه السلام، وقد ورد ذكرها في أسفار أهل الكتاب، ومن الشواهد على ذلك ما ذكره الأب القمص فيلوثاوس فرج كاهن كنيسة الشهيدين بالخرطوم بحري، - وهو كاهن قبطي له اهتمامات أدبية وتاريخية، نسأل الله عز وجل له الهداية إلى الصراط المستقيم - ، في إحدى مقالاته التي عنونها بأطروحات سودانية:
"الحضارة النوبية هي أقدم الحضارات، ممثلة في مملكة كوش، وكوش هذا هو الجد الأكبر لأهل النوبة الأكرمين، وكوش هو ابن حام وهو الشقيق الأكبر لمصراييم أب المصريين، وتتجه الأبحاث الجديدة اليوم إلى إثبات أمجاد كوش التي تحدث عنها أشعباء النبي في أرض حفيف الأجنحة والتي يقصد بها أعالي النيل، عن شعب متحضر ركب الماء، وأقام السفن عن أمة جرداء طويلة وشعب مخوف، أمة قوية منيعة هي أمة قوة وشدة ودروس، قد خرقت الأنهار أرضها، وتحدث أشعباء في الإصحاح الثامن عشر عن مستقبل كوش الذي يتسم بالتدين، وبتقديم هدية لرب الجنود، ومنذ الآن فصاعدا أمة كوش أمة قوية وتنبأ داوود النبي في الزبور عن تدين بلادنا كوش، وكيف أنها سترفع أكف ضراعة إلى الإله الواحد الأحد، عندما قال كوش تسرع بيديها إلى الله (مزمور 31:68)، وبدأ هذا بقبولها الإيمان بالمسيح، وعندما تحدث حسن باشوق عن الكنوز، وكيف اتحدوا مع النوباويين لمقاومة الغزو المسيحي القادم من الشمال، قال باشوق ولكن سرعان ما تنصر الكنوز، عندما عرفوا أنه دين واحد لإله واحد".
ولا ندري عن أي كنوز يتحدث هذا الباشوق، ولعل نبوءة أشعياء النبي وداوود عليه السلام هي نبوءة بتدين أحفاد كوش ومن يستوطن أرضها بدين الإسلام الدين الواحد للرب الواحد، فالسودان إرث كوش مستقبله إسلامي بحت لا محالة، قال تعالى: "إن الدين عند الله الإسلام"، وقال أيضا: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، ولا غضاضة في هذا المقام من الإستشهاد بأقوال بني إسرائيل فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لا تصدقوهم ولا تكذبوهم، - لأننا إن صدقناهم، قد نصدقهم بباطل من وحي افتراءاتهم الكثيرة على الله عز وجل، وإن كذبناهم، قد نكذبهم بحق لم يغيره تحريفهم، وهم في ذلك ليسوا سواء - ، وحدثوا عن بني إسرائيل ولا حرج".
وفيما يلي نقل لشهادة عالم آثار مرموق، يؤكد أن الحضارة النوبية هي أقدم وأعظم الحضارات الإنسانية على الإطلاق، هو جون نوبل ديلفورد حيث نجده يقول:
"توصل مفكرون، ومؤرخون، وعلماء آثار إلى أن ثقافة دولة كوش القديمة أكبر اتساعا وثراء مما كان متصورا، إذ تدل وثائق مصرية من العصور القديمة - فضلا عن البحوث الحديثة في مجال الآثار - ، على أن دولة كوش ازدهرت على مدى خمسة قرون، في الألفية الثانية قبل الميلاد، وبلغ نفوذها السياسي والعسكري مداه خلال تلك الفترة، وسيطرت على أرض واسعة في أفريقيا، وأظهرت بحوث ودراسات تاريخية أن جيران كوش المصريين في الشمال، كانوا يدركون أن كوش غنية، وأنها كانت ندا لهم، ويبدو أن نجاح كوش في الحكم كان ظاهرة غير عادية في ذلك الوقت، بخلاف الأفكار التقليدية حول الدولة في تجارب حضارات قديمة مثل حضارات بلاد ما بين النهرين، ومصر والصين".
ويتساءل ديلفورد:
"ترى كيف استطاع مجتمع معقد التركيب، العيش على مدى قرون من دون أن يكون له نظام كتابة أو جهاز إداري واسع للدولة، أو مراكز حضرية رئيسية، علما بأن أيا من هذه الأشياء لم يكن موجودا في أراضي كوش؟!".
ويستمر ديلفورد ويقول:
"إن بعض علماء الآثار يرتكز على نظرية تتلخص في أن الكشوفات الأثرية أظهرت أن حكام مملكة كوش كانوا أول حكام في منطقة أفريقيا جنوب الصحراء، يبسطون سيطرتهم على أراضي واسعة وممتدة - على امتداد قدره 750 ميلا بطول وادي نهر النيل، وتمتد هذه المنطقة من الشلال الأول إلى ما وراء الشلال الرابع، وتغطي هذه المنطقة جزءا جغرافيا واسعا عرف في العصور القديمة باسم بلاد النوبة -".
ويقول أيضا:
"إن دراسة الأوضاع في مملكة كوش من واقع الآثار والنقوش القديمة، ساعدت علماء الآثار على الوصول إلى فكرة أوسع بشأن ما تعنيه الدولة في السياق القديم خارج مراكز السلطة المستقرة آنذاك في كل من بلاد مصر وما بين النهرين".
وفيما يلي عرض لمقالتين ذاتي صلة كتبهما الكاتب والمفكر المصري الكبير "أنيس منصور" رحمه الله عن أهل النوبة، المقالة الأولى تم نشرها في جريدة العرب الدولية "الشرق الأوسط" اللندنية بتاريخ يوم السبـت 19 رمضـان 1426هـ الموافق لـ 22 اكتوبر 2005م العدد 9825 وهذا نصها:
النوبة: أصل الحضارة المصرية!
منذ ست سنوات كنت مريضا بمستشفى (أوتل ديو) في باريس، وكان الطبيب المعالج هو البروفسور روشمور، والرئيس مبارك هو الذي اختاره وقرر أن أسافر فورا من غرفة الإنعاش في القاهرة إلى غرفة الاإعاش في باريس ـ وهي حكاية طويلة، والحمد لله.
وأكبر باقة ورد جاءتني كانت من صديقي الأمير فواز بن عبد العزيز أمير منطقة مكة سابقا، وباقة أخرى من نقابة النوبيين في باريس ولندن ومدريد، غريبة!
وأما الذي حمل لي هذه الباقة الضخمة فهو السائق وهو نوبي، لماذا؟ لأنني كتبت كثيرًا عن أهل النوبة وعن تاريخهم العظيم، وأنهم أصل الحضارة الفرعونية، وأن ملوكنا وملكاتنا الجميلات المحندقات نوبيات ـ فيما عدا نفرتيتي فتبدو أنها من أصول غير مصرية، أما حتشبسوت ونفرتاري وتيتي حماة أخناتون وغيرهن فمن النوبة، وأنا أرى أن حماة أخناتون هي صاحبة أجمل شفتين في تاريخ مصر الفرعونية وأجمل أنف أيضا، أما الوجنات فهي بارزة وهذا يدل على أصلها الأفريقي، وكتبت أيضا أن بلاد النوبة كانت على صلة مباشرة بأوروبا، دون أن تتوقف عند مدن الوجه البحري والعاصمة منف، وفي الوثائق الإغريقية أن أهل النوبة ونبلاءها وملوكها هم أيضا الذين علموا مصر والإغريق نظام الملك ونظام الترقي بين الوظائف.
ولم يكن ذلك مجاملة لأهل النوبة على حساب التاريخ، وإنما هي الحقيقة، وما كتبه البروفسور وليام آدامز في كتابه (النوبة طريق إلى أفريقيا) ليس جديدا علينا، وأهل النوبة يشكون في مثل هذه الكتب التي تحاول أن تخلق انفصالا أو صدعا بين مصر والنوبة، فالنوبة مصرية وأهلها مصريون ما في ذلك شك، وإذا كان بعض السياسيين الأميركان أو بعض رجال الكنيسة الكاثوليكية يشيدون بأهل النوبة وحاجتهم إلى العدل والإصاف، فليس حبا لهم، وإنما تشجيعا لهم على كراهية مصر والإنفصال عنها، حتى الدراسات الأميركية عن الحضارة النوبية تلقى حذرا وخوفا شديدا، والذي قاله البروفسور آدامز من أنه ذهب إلى النوبة بحثا عن الإنسان البدائي فوجد حضارة مستقرة، ليس جديدا، وإنما الحضارة والفكر عند النوبة قديمة وإذا كانت لهم شكاوى من مصر فبسبب السد العالي وبحيرة السد التي أغرقت بيوتهم القديمة، وقد تم بناء بيوت بديلة، فهم مصريون لهم كل الحقوق وعليهم كل الواجبات، وهم على يقين من أنهم أولاد حضارة عريقة، ونحن أيضا!
والمقال الثاني لنفس الكاتب تم نشره في نفس الجريدة بتاريخ يوم الخميـس 5 جمـادى الثاني 1428هـ الموافق لـ 21 يونيو 2007م العدد 10432وهذا نصها:
حضارة النوبة!
نظرية جديدة تبناها علماء الآثار في أمريكا، تؤكد أن الحضارة الغربية كلها تأثرت بحضارة أفريقيا، أي حضارة مصر وحضارة النوبة، وهذه النظرية تقول: إن علماء الآثار ركزوا اهتمامهم على مصر، وأغفلوا تماما حضارة النوبة التي أثرت في حضارة مصر، التي أثرت في الحضارة الإغريقية، فنظام الملك قد أخذته مصر عن النوبة، لا شك في ذلك.
وقد عثر الأثريون على تحف من الذهب والخزف في بلاد النوبة، هذه التحف تؤكد براعة الفن النوبي وتطور الحضارة النوبية، وكانت بلاد النوبة تمتد من جنوب مصر إلى شمال السودان كله، ثم إن النوبة حكمت مصر في الأسرة الخامسة والعشرين.
وقد أثبت الأثريون الأمريكان أن النوبة كانت على صلة مباشرة بروما، فقد وجدوا فيها تماثيل للإمبراطور أغسطس، ومعنى ذلك أن الرومان كانوا يعبرون مصر إلى بلاد النوبة دون أن يتوقفوا فيها.
وقد قدم المعرض الأمريكي الذي كان مقاما في ولاية بنسلفانيا 350 أثرا فنيا نوبيا، يؤكد عمق الثقافة النوبية وتنوع العلاقات الإنسانية فيها، كما أن علماء الآثار قد وجدوا بالقرب من أسوان تماثيل للأميرات ومجوهرات ومقتنيات جنائزية، وكلها لها معنى واحد: أن حضارة النوبة كانت حضارة متميزة، وأن أثرها في حضارة مصر كان عميقا.
أكثر من ذلك أنهم عثروا على قصص شعبية وشعر في شمال السودان، وهذه الآثار الشعبية لا صلة لها بالسودان، وإنما هي من آثار النوبة، بل إنهم وجدوا نقوشا واضحة لأدوات موسيقية ولم يجدوا لمثل هذه الآلات نظيرا في مصر أو في السودان أو في ليبيا، ولكن وجدوا نقوشا مطابقة لها في كريت وفي روما.
وعلماء الآثار الأمريكان والأوروبيون يرون الآن أن أفريقيا هي مصدر الحضارة الأوروبية، وأن أثر أفريقيا في أمريكا وأوروبا أعمق من أثر جميع الحضارات الآسيوية، فالحضارة الإنسانية سوداء والإنسان الأسود هو صاحب الفضل الأول على تطور الحضارات البيضاء في كل العصور القديمة!
ويتنقل هذا المعرض الضخم إلى كل مكان في العالم، ويرى العلماء الأمريكان أيضا، أن الإنسان الأول أفريقي أسود، وهذا يفسر لعلماء الفلك لماذا ترك سكان الكواكب الأخرى آثارهم في شمال ووسط أفريقيا، وليس في آسيا وأوروبا! ولا يزال البحث جاريا عن البدايات الأفريقية لحضارات الإنسان في كل مكان!
وقد وجدت مقالة آخرى في نفس الجريدة أيضا لكاتبة سودانية تدعى شذى مصطفى بتاريخ يوم الأربعـاء 2 رمضـان 1426هـ الموافق لـ 5 أكتوبر 2005م العدد 9808 وهذا نصها:
ذهبوا للبحث عن إنسان بدائي فوجدوا حضارة بكامل نضجها
علماء حملة اليونسكو لإنقاذ آثار النوبة
ظل البروفيسور وليام آدامز أستاذ علم الإنسان في «جامعة كنتكي» الأميركية لسنوات، يحلم بأن يترجم كتابه الضخم Nubia, Corridor to Africa الذي نال عنه عدة جوائز، إلى اللغة العربية، لإحساسه بضرورة أن يعرف النوبيون خاصة، والسودانيون عامة عظمة تاريخهم.
بالنسبة لوليام آدامز، فإن كتابه «النوبة رواق أفريقيا» هو «إنجاز عمره ومولوده الذي لا يحب سواه»، وتحقق حلمه وخرجت إلى المكتبات أخيرا ترجمتة العربية، التي قام بها الدكتور السوداني محجوب التيجاني محمود أستاذ علم الإجتماع في ولاية تينسي الأميركية، حيث تفرغ ثلاث سنوات لترجمة الكتاب المكوّن من ألف صفحة، ويصفه دكتور محجوب بأنه أهم وأشمل كتاب عن تاريخ الممالك النوبية القديمة بشمال السودان والسودان ككل، منذ نشأة الحضارة الإنسانية حتى بداية العهد الوطني.
مكث آدامز في شمال السودان سبع سنوات برفقة زوجته، كان خلالها رئيسا لحملة اليونسكو العالمية، التي بدأت عام 1959م إلى عام 1966م، لإنقاذ آثار النوبة قبل أن تغمرها مياه السد العالي بأسوان، وهي أول حملة إنقاذ منظمة من العالم، وجاءت نتيجة لدعاية هائلة نجحت في ضم أربعين بعثة، تمثل أغلب أمم العالم الصناعية، وقام خلالها والفريق الذي يقوده باكتشاف وتسجيل ما يزيد عن ألف موقع أثري.
ظلم ذوي القربى
أسرت أرض النوبة العليا ـ جنوب مصر وشمال السودان ـ بسكانها، ذوي البشرة الداكنة، خيال الإغريق والرومان، وكتب عنهم هوميروس «إنهم أقسى أمة وأشد الرجال عدلا، المفضلون من الآلهة، وقرابينهم هي الأغلب تقبلا من كل تلك الضحايا التي يستطيع البشر تقديمها لهم».
وجاء ذكر ملكها تهارقا في الكتاب المقدس، ومن العلماء الإسلاميين كتب عنها ابن خلدون مستعرضا تاريخها وجغرافيتها وكذلك المقريزى والمسعودي، إلا أن النصوص المصرية القديمة كانت تعامل هذه المنطقة على أنها فقيرة وغير جديرة بالحضارة، وبقيت مستغلة ومضطهدة من المصريين وفق ما شاءوا لذهبها وعاجها وعبيدها.
ويعلّق البروفسور آدامز: «أنه من الغريب أن علماء الآثار تأثروا بهذه النصوص الهيروغليفية وتأصّل سلوك المصريين القديم نحو النوبة في عقولهم، إلى أن طغى كليا على المفهوم القديم للنوبة، كنبع منفصل للحضارة»، ولذا كانت دهشة علماء حملة اليونسكو كبيرة عندما وجدوا آثارا مختلفة لم تكن من أصل مصري، وهي من الكثرة بمكان، حيث إنه بعد الموسم الأول للحفريات، وجد العلماء ما لا يقل عن أربع حقب ما كان لها معادل مصري، فقد ذهب علماء الأنثربولوجيا للبحث عن إنسان بدائي فوجدوا «طفولة الحضارة ومراهقتها ونضجها!».
ويكتب وليام آدامز:
«بينما كان السد العالي يسدل الستار على كتاب النوبة، كان يفتح في نفس الوقت، فصلا جديدا في دراسة آثار النوبة العليا، فعمليات البحث في بداية القرن الماضي، كانت جشعة، تبحث فقط عن القطع الفنية والكنوز، وبعدها جاءت عمليات تنقيب انتقائية عن القصور والمعابد الملكية والقبور، إلا أن حملة الإنقاذ هذه فرضت على علماء الآثار جمع أي قطعة صغيرة يعثرون عليها، وجاءت الدراسات وافية لشعب بأكمله».
وقد عرف النوبيون بتلاقح ثقافتهم مع ثقافات الحضارات العالمية، فضمت الآثار الحمامات الرومانية والمعاصر، ومواد بنائية جيرية محمرّة اللون، وفخاريات بنفسجية وبرتقالية، حيث للفخار النوبي مكانه المشرّف في متاحف العالم، جنبا إلى جنب مع الكتابة الإغريقية وطرائق الدفن المصرية، أما أقدم مدّون مكتوب بها فيرجع للألف الرابع ق. م، وبها من العصور الفرعونية والوثنية صروح لعبادة الآلهة، وأخرى رومانية، ثم الكنائس والأديرة وصوامع النساك المسيحيين، انتهاء بالصروح الإسلامية والمشيخات ومنشآتها التعليمية.
عمليات التهجير
يكتب البروفيسور آدامز عن عمليات التهجير، إبان فترة بناء السد العالي الذي كان رمزا لسوء الحظ الجماعي، والذي سيؤدي إلى تهجير 53 ألفا من النوبة السودانيين، و48 ألفا من النوبة المصريين، وقال إن عملية بناء السدّ لم يستشر فيها الجانب السوداني، وأدّى غضب النوبيين الذين باتوا يرون التدمير الوشيك لديار أجدادهم ومصالحهم، إلى إزاحة الرئيس السوداني إبراهيم عبّود عن منصبه عام 1964م، وبعض الحالمين الذين كانوا يستبعدون مفارقة أرضهم، كانوا يأملون أن مياه السد لن تغمرهم، وأن المشروع لن يتم أبدا، وأن السوفييت سيخذلون المصريين، وبعضهم تمنى سرا عودة الإستعمار لينقذهم، وآخرون وصلوا لدرجة تخيل أن الإسرائيليين سوف يفجرون الخزان حال اكتماله، وعندما بدأت مياه السدّ تتسرب إلى المناطق رويدا رويدا، لم يكن هناك بد من الرحيل وصارت قطارات التهجير التي تحمل آلاف السكان، حدثا يوميا مألوفا، ولم تتوقف التوديعات الأخيرة التي صحبت الرحيل الأبدي، وكتبت الأشعار الحزينة على جدران المنازل المهجورة والتي أذابتها فيما بعد مياه السدّ، لينقل النوبيون إلى حلفا الجديدة، وهي منطقة بعيدة كل البعد، عما ألفوه من أشجار نخيل ونيل منساب، وفوق كل هذا حضارة امتدت لآلاف السنين.
ويتساءل البروفسور وليام آدامز، في نهاية كتابه: «ترى هل سيكون هذا الشتات الذي فرض على النوبيين سببا لتوحدهم في المستقبل، كما كان مع اليهود والأرمن وأقليات أخرى؟ هل سينجحون في صون هوية انفصالية بسبب الظروف المتغيرة للقرن العشرين؟».
نكتفي بهذا القدر من الحديث عن النوبة الأكارم ولا داعي للإسترسال فقد عرف الفضل لهؤلاء القوم من عرف، وأنكره من أنكر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق