زايد في قلوب السودانيين – بمناسبة عام زايد والعيد الوطني الـ 47 لدولة الإمارات العربية المتحدة

لأني أحبك أيها الرجل العظيم: الشيخ زايد..
الرجل الذي أجبر التاريخ على الإنحناء تقديرا واحتراما له..
الرجل الذي علم وبنى وشيد وغرس وأحب شعبه وأحب الخير للجميع..
الرجل الذي سطر اسم الإمارات بحروف من نور في سفر الأيام..
الرجل الذي حول الصحراء إلى جنات وعيون وحدائق وواحات..
الرجل الذي تعجز الأقلام والأحاسيس عن وصفه أو التعبير عن مناقبه..
الرجل الذي بكته ملايين العيون وانفطرت لأجل فقده ملايين القلوب..
الرجل الذي مات بجسده ولكن روحه النبيلة الطاهرة بقيت حية وخالدة بيننا في قلوب الملايين من أبناء شعبه ومن المقيمين معهم في أرض الإمارات المعطاءة..
بل وفي قلوب كل محب للخير والإنسانية حول العالم..
ولأني سوداني والسوداني لا يعرف إلا أن يكون وفيا لمن يحب..
ولأني أحبك يا أرض الإمارات الحبيبة وأحب شعبك المعطاء أقف موقفي هذا في يومي هذا يوم ذكرى العيد الوطني الـ 47 للإمارات وشعبها..
فإن ما تعنيه دولة الإمارات العربية المتحدة لي ولأهلي السودانيين الشيء الكثير، ولا تزال الدبلوماسية الشعبية بين أبناء البلدين ترفد العلاقات المتينة والمتميزة بينهما منذ أن مهدت لذلك قيادة الشعبين الشقيقين في ستينيات القرن المنصرم وحتى عصرنا الحالي..
وقد كنت ولا زلت أتابع عن كثب تفاصيل هذه العلاقات منذ أمد بعيد، وأشعر في قرارة نفسي بالمسؤولية التاريخية والأدبية تجاهها، وكنت أقول في حوار داخلي إنه لا بد لي من اقتناص الفرصة المناسبة للتعبير عن هذه المسؤولية الجسيمة والعظيمة التي ألقاها حب السودان وحب الإمارات على عاتقي من فترة ليست بالقصيرة، بل ومحاولة وضعها في إطار مناسب يبرز ما تعنيه العلاقة الأثيرة بين السودان - بلدي الأول – والإمارات – بلدي الثاني - في الماضي والحاضر، ولم أجد فرصة أفضل من عام زايد للتعبير عن هذه المسؤولية ضمن مبادرة ذاتية خاصة من مبادرات الدبلوماسية الشعبية كما أحسب أسميتها: زايد في قلوب السودانيين..
علما أنني لا زلت أعمل على هذه المبادرة وأرجو من المولى عز وجل أن يجد فيها كل سوداني وإماراتي ومحب للسودان وللإمارات ضالته المنشودة..
قال لي بعض الإخوة: أكتب شعرا عن عام زايد فقلت لهم سأفعل إن شاء الله تعالى، لكني اكتشفت بأني عاجز وليس السبب هو ضعفا في ملكتي الشعرية أو حصيلتي اللغوية والبلاغية والعياذ بالله، ولكن لأن مقام الشيخ زايد رحمه الله تعالى أعظم من ذلك بكثير وهو مقام يصيب الفصيح بالعي والبليغ بالخرس..
إليكم أحبتي في دبا الحصن الحبيبة وإلى كل الشعب الإماراتي أقول:
لقد عشنا معكم ولا زلنا نعيش أياما جميلة في رحاب دولة الإمارات الفتية ولقد وجدنا الشعب الإماراتي شعبا كريما مضيافا وأصيلا يحفظ الجميل ويقدر المواقف، وهو شعب جميل هادئ الطباع لين العريكة ودمث الأخلاق..
شعب يحترم الجميع.. 
شعب يقدر الماضي ويحترم الحاضر وينظر للمستقبل بالعمل والإجتهاد.. 
شعب يعمل من أجل الوصول إلى العالمية في كل شيء..
شعب طور نفسه وعلم أبناءه..
شعب اجتهد من أجل أن يصبح في مصاف الدول وقد حقق ما أراد بفضل المولى عز وجل وحكمة الراحل الشيخ زايد عليه رحمة الله وحكام الإمارات السبعة وبفضل السير على هذا النهج من الحكام والشيوخ وأبناء الدولة الكرام..
الإخوان والأهل وكل السودانيين في الإمارات مبروك عليكم عيد وطنكم الثاني فالشعب الإماراتي لا يشعرك بأنك غريب عنهم أبدا.. 
التحية لكل الأهل والأحباب والأصدقاء والأصحاب والإخوان أهل إمارات الخير..
أقولها بالأصالة عن نفسي وعن جميع أبناء الشعب السوداني: كل عام والإمارات الحبيبة بألف ألف ألف خير حكومة وشعبا بمناسبة العيد الوطني 47 لدولة الإمارات العربية المتحدة..
وتأكدوا أن الشيخ زايد رحمه الله في عامه وفي غير عامه سيبقى خالدا في قلوب جميع السودانيين..

الجـــــــواد والـــريـــــــح للشاعر السوداني محيي الدين فارس

مهشمة كانت الذاكره

وبيت المشيمة عند المخاض.. غدا مقبره

وقابلة الليل قد حاصرتها

يدُ الريح.. في الظلمة الممطره

وحدَّثتُ عرافة الغاب..

أين طقوس الولادة..?

.. باب المذابح. ما ضمخته دماء الكباش الجميله

أين بساط الولائم?..

... وانطفأت.. أعين المجمره

على عتبات المدينة

طنَّ السكون.. وفاح كلام الظلام..

.. العصور الجديدة تولد

تبرح بوابة الدير.. عرافة الغاب

تنزل من جبل الصمتْ

وتشعل في الليل كل القناديل

تفرش بالضوء كل العشايا

يقوم الضحايا

ملابسهم أرجوان.. وأعينهم تتحدى الرزايا

تقول النبوءة:

يأتي على فرس أدْهمٍ

يسبق الضوء..

يخترق الريح..

يدَّرعُ الليل

يفتح بوابة العصر..

ينسج وجه الهويه

ينزع جلد المرابين

يكنس قشر الكلام.. يغني

تصادره الشمس

ثم يصادر هودجها الذهبيَّ

ويجدل من شعرها مقصله

ويفتح أبوابنا المقفله

لمحتك في زَبدِ النار ياقوتة

رضعَتْ من حليب الشموس..

ارتوت من رحيق الحضارات

.. واتّكأت في جبين الزمان...

اللصوص اختفوا تحت شباكها

ثم مدوا على عجل

.. سُلَّمات الصعود

فجرِّد حسامك..

كل الحوارات أطروحة لم تتم

وسفسطة ما تزال

وكل الطواغيت مشغولة بالطواغيت

واللابسون رداء الكهانات

كالبوم... فوق طلول الزمن!!

وقد حمحمت في البحار السفن

دعيني

فللبحر.. رائحة منعشه

وقد حمحمت سفني للرحيل

وصفقت الريح في الأشرعه

فهذي المدينة تأكل أبناءها

ثم تنسَلُّ..

تقبع في الظلمة الموحشه


ليـــالـــــي المنــفــــــى

كنا نحدق في فراغات الزمان

وتأكل الصحراء أوجهنا

وتذرونا الرمال.. على الرمال

نجري.. ونقتحم اللظى. ونموت في المنفى

.. تبعثرنا الجبال.. على الجبال

تتقيأ الدنيا أَظِلّتَنا..

فنركض في مناكبها.. هياكل..

ترتقي جبل الهموم.. بلا ظلال

ونخيلنا ما لقَّحته الريح.

ما ألقت جدائله على كتف الجزيره

والنهر مسلول الجوانح. ما به شبق.. ولا زبد

فقد نسيت أواذيه ترانيم (الدميره)

تخبو مصابيح الخيام

تموت ثرثرة النهيرات الصغيره

قابيل ثانيةً يحاول قتل هابيل

فتنتفض القبيلة والعشيره

والنمل يخرج من مغارات الجبال مهاجراً

يعلو.. ويهبط في النتوءات الخطيره

وحدي.. أصد الليل

يُفلت من يدي, ويطل منه الوحش

تزحمني, الأعاصير. المغيره

قابيل ما هشَّت لك الأبوابُ

ما ضحكت لمقدمك المماشي

والممراتُ المضيئه

بيني.. وبينك عالم الظلمات

سبعة أبحر سود ودورات الفصولْ

هدأت طبول الغاب لكنْ في دمي صخب الطبولْ

غاصت عيوني في مغارات الضباب

تغربل الدنيا, وترصد في البعيد مصادم الأشياء..

عند مخاضها.. ومغارب الأضواء في ثبج الأصيل

قابيل ثانية يحاول قتل هابيلٍ..

وقد غنى له الشعراء في عرس الضحايا

أشعل حرائقك اللعينةَ

فالرياح تمد ألسُنها

تسافر باللظى المجنون

تلتهم الضحايا

صدئت هنا الكلمات..

زَيْفٌ أيها الشعراء أضرحةُ العبارات الخُواء

السيل جاء

الموت جاء

هدرت مواويل البحار الهُوج

تقتلع النبات الرخو.. تلتهم الغثاء

يا أيها الموتى زجاج الموت أعينكم

ترى شبح الفناء

فتحتفي بالقادمين على توابيت الدماء

هي راودتني - للشاعر السوداني أبو بكر الجنيد يونس

هي راودتني 
غلقت.. أبواب أحزاني 
وقالت: 
هيت لك 
هي زينتني للأئى.. 
قطّعن أيديهن حين رأينني 
أكبرنني..
وخرجت ممتلئاً بها بشراً ملك 
هي أوقدت ناراً وألقتني بها
"يا قلب كن أنت الخليل 
يا نار كوني..."
جئت أقبس جذوةً 
شمساً أضيء بها الحلك 
نوديت " ألق عصاك إنك في رحاب العشق 
في الوادي المقدس ممتلك" 
ألق العصا.. 
انبجست.. ينابيع المسرة من.. صخور الهمِّ
كنتُ أجول منفرداً بوادٍ غير ذي زرعٍ 
فزمزم ماءُ آمالي 
وأفئدةٌ من العشاق تهفو..
كلهم سلكوا إذ الطوفان جاء معي 
على متن السكينة فالنجاة لمن سلك 
لو أن نون الحزن يلفظني 
فأبلغ مجمع البحرين.. ألقاها 
لعَّلي باخع نفسي على آثارها أسفاً 
يُردُّ قميص أفراحي إليَّ
الصبر صبري.. والصليب.. صليب من.. 
خان الأمانة إذ هلك
هي أخرجتني.. دثرتني بالمحبة 
هاجرت بي قبل أن يرتدّ طرف مواجعي سرّاً إلى.. 
حيث ارتقينا في الأعالي منتمين إلى الفلك..
هي أوحت الإبداع لي فسريت شوقاً نحوها 
عرجت إليها مهجتي عشقاً ملك
غنت مزاميري .. أرتل شجو روحي:
"يا ابن أمتسوّر المحراب حزني 
كنت في المهد صبيا 
رطب النخلة يسّاقط من حولي جنيا
وأنا أشتاق أن أبعث في عيني معذبتي نبياً" 
هكذا غنيت لك
هي أشعلتني.. أشعلت لغتي 
يكاد الحرف يحرق سنة القلم.. الصحيفة 
واللهيب يظلّ يجلوني فيأتلق البريق
لغتي تفتش في مصادرها عن الصمت المعبّر في جمال 
عن تباريح الحريق 
وأنا أحاول رغم ما أحياه في غيبوبتي أن أستفيق 
هي والقرنفل يزدهي.. مرحاً .. عليها جنة.. ألق 
رسالة أن نظل مع البساطة.. سالكين 
قالت قرنفلة لأخرى حينما رأتا انبهاري: 
هل ترين عليه سيما غير سيما العاشقين..؟!
ردّت عليها 
- والحصافة.. سرُّها العدوى- :
أراه ذائباً حسداً لنا.. 
لكنّه حسدُ الصبابة والحنين.
وتضاحك العقد السعيد بنحرها الرحب المصون
ما أسعد – الدهر – القرنقل وهو يحظى بالمقام المستكنِّ فيستكين
ما أجمل اللغة التي تحظى
بمن سبت القصيدة منذ آلاف السنين
هي والقرنفل أنبتا عشقي 
قرنفلةً... قرنفلةً
قرنفلةً... قرنفلةً
نخيلاً.. غابتي فرح بواديَّ الحزين 
هي مقلتان أضاءتا قلبي 
أفيء إليهما عشقاً.. تظللني رموشهما 
فأمتلك الوسامة 
هي مهرة.. فرس شموس.. شمس دفءٍ..
نخلة.. ثمراً وقامة
يا ليتني في بحر عينيها رؤىً.. 
يا ليت لي في قلبها الحاني إقامة 
سلبت جناني مثلما سلبت من المطر الندى 
ومن الملائكة ابتسامة

حب في القبر - للكاتبة السودانية الشابة تغريد أبو قصيصة

إلتفت إليه .. ملصقة عيني في الثقب الصغير على الفاصل الصخري بين قبرينا كان يدخن عوداً ما .. و رائحة الموت الكريهة تعب في المكان
تنحنحت قليﻵ ليعرف أني مستيقظة ، ثم سألته بصوت جاف :
كم التاريخ اليوم ؟
أجابني بعد برهة : قبل الموت أم بعد الموت ؟
فأضفت بضيق واضح : من يهتم لبعد الموت أيها الأحمق !
بالتأكيد أسأل عن التاريخ بتوقيت الحياة ، هل تظن أن القمر مكتمل اليوم ؟
جائني صوته من بعيد كأنه من عمق متاهة في قلب كهف :
بم تفكرين ؟
ابتسمت بفرح ، و أنا أمسد بيدي تعرجات الكفن كي يبدو أكثر إستواءاً ..
ما رأيك أن نقوم بجولة صغيرة ؟
هكذا أجبته ، ثم عم صمت طويل .. قبل أن أقول : اشتقت لغرفتي
و لدفتر قصاصاتي .. دعنا نذهب و نتسكع في الشوارع قليﻵ
اليوم القمر مكتمل ، إنه يومنا ..
على أية حال لن يرانا أحد .. و يمكننا حمل بعض العظام و الحجارة الصغيرة
نخيف بها كلاب الطرقات إن حاولت أن تزعجنا بنباحها .
ها .. ما رأيك ؟؟
تنهد تنهيدة مصحوبة بقليل من الضجر ..
ثم راح يقول :
قالت أمك يوماً أنك لن تعقلي حتى تشيخي ،
أود أن أعثر عليها فأخبرها بأنه حتى الموت لم يشفيك من جنونك !
أووففف ، هذا دأبك دائماً ..
تحب أن تنزع عني فرحة المغامرة ، سأذهب وحدي
أزلت بعض الحجارة التي تسد علي طريقي .. و خرجت
كان الطقس شديد البرودة ، و ثمة رطوبة عالية بالجو
نفضت الغبار عن شعري ، و لففت كفني على جسدي جيداً و أخذت أعدو بين الشواهد
و صوته يتبعني من بعيد .. توقفي يا خرقاء .. توووقفي !
سأذهب معك ..
توقفت للحظة و أدرت وجهي له ، كان يبدو لي متعباً بعض الشيء
فتقدمت نحوه ، و سألته بصوت خفيض قلق :
هل يؤلمك الموت ؟
فأجابني بلا ، إنما تؤلمني الحياة
ستذهبين لغرفتك و دفترك .. لكن ليس لي مكان لأذهب إليه !
كان يبدو عليه الأسى .. فأمسكت بيده و قلت له :
لا بأس ستذهب معي ، و أضفت بمرح :
كنت أحتفظ بعلبة كاكاو في خزانة ثيابي أسفل ملابسي ، أخبؤها من إخوتي ..
لو أنها ﻻتزال حيث هي سأدعوك لكوب شوكولا دافئة ، و رجاءاً لا تقل لي بأنك لا تحبها ؟؟
أبتسم و أزداد تشبثه بيدي و قال لي : إذن فلنمض .
كانت الطرفات قد تغيرت كثيراً ، قامت الكثير من المباني .. و الطرقات التي لا أعرفها
و عيني لا تقرأ بوضوح اللافتات فغشاوة الموت تضعف بصري .
لكني كنت أتبع حدسي و رائحة أمي ..

كان منزلنا على حاله ، لم يتغير كثيراً
غير أنهم طلوا جدرانه باللون الأبيض الذي طالما كنت أرجوهم أن يطلوا به المنزل
و كانت أمي تقول بأنه لا يحتمل و سيتسخ سريعاً !
كما أن هناك سيارة جديدة يبدو أن أخي أشتراها مؤخراً
و شجرتي التي زرعتها منذ سنوات كبرت كثيراً و أينعت .. شعرت بفرح غامر
و أخذت أقفز و أقول له ، ها قد وصلنا .. أﻻ يبدو هذا رائعاً !!!
كان يرقبني بابتسامة هادئة ، و على عينيه تلك النظرة التي تعني :
لا فائدة .. لن يجدي شيء معك فأنت لا تتغيرين .
حاولت فتح الباب لكنه مؤصد بقوة ، قال لي :
دعي سخافتك هذه و استخدمي طاقتك الداخلية ، لست بحاجة إلى فتح الباب
للموت بعض الفوائد كما تعلمين ! .. قال هذا و هو يعبر من الحائط ضاحكاً
و أنا أصرخ : انتظرني ، فأنا حديثة عهد بالموت و لا أجيد استخدام هذه الحيلة !!
أخرج رأسه من الحائط و قال لي :
أشحذي طاقتك جميعها لتلجي من الجدار .. الأمور تسير كما تريدين
إن كنت تودين الدخول فستدخلين ، الأمر بهذه البساطة صدقيني .
كدت لا أصدق و أنا أعبر من الجدار ، كأنه بوابة سحرية ..
بذات الطريقة نفذت لغرفة أمي ، كانت توليني ظهرها و تغط في سبات عميق
تأملت وجهها و ابتسمت معه قائلة : تبدو بصحة جيدة أليس كذلك ؟
هذه العجوز ماهرة في أن تبقى جميلة للأبد ، ثم قبلتها في جبينها
و ابتعدت لبرهة ..
تحركت قليﻵ و غيرت من وضعية نومها كأنها تحلم ، فقلت له دعنا نمضي
لا أود إزعاجها .. أقترب مني و مسح على خدي ثم وضع أصبعه في فمه
قال لي إنها دموع حقيقية و مالحة ، هل تبكين ؟
أنت مقرف ، كيف تلعق دموعي ! هكذا قلت و ابتعدت منه
و أخذت أعدو صوب غرفتي ..
كانت مرتبة على غير حالها في حياتي ، قلت بأن أمي مسكينة
إني أتعبها و أكلفها كثيراً حتى في موتي ..
فتحت خزانتي .. كانت كما تركتها ..
حشرت يدي بين الثياب أستكشف ما إذا كانت علبة الكاكاو بمكانها أم أن أحداً سرقها ؟
لم أتفاجأ حين وجدتها .. من بأي حال سيسرق مدخرات أخته الميتة ؟؟
راجعت تاريخ الصلاحية في قعر العلبة ، كانت منتهية منذ عامين ماضيين
قلت له : يمكنك الجلوس على مكتبتي حالما أعد لنا كوبي شوكولا ..
و لكن حذار من أن تعبث بدفاتري و حاجياتي الخاصة !
قال لي حسن .. لن أفعل ..
غادرت و أنا لست واثقة تماماً بوعده ، لكن ليس ثمة ما أخشاه
أعددت إبريق الحليب الساخن و بحثت عن السكر فأضفت ملعقتين في كل كوب
و الكثير من الكاكاو الفاسد و كنت أضحك إذ أن أقصى ما يمكنه أن يصنع بنا هو أن يقتلنا
و الموتى لا يموتون ..
في تلك الأثناء ..
أحسست بوقع أقدام يقترب مني ، كانت أختي الصغرى ..
حملت الكوب خاصتي ، و نظرت إليه فوجدت به السكر و الكاكاو ..
وضعته و حملت كوب آخر و سكبت عليه القليل من الماء .. شربتها دفعه واحده ثم همت بالخروج
لكنها توقفت عند الباب قليﻵ و نظرت إلي في عيني مباشرة ، كأنها تراني
فركت عينيها و ذهبت .. حملت أكواب الشوكولا و تبعتها .. كانت قد عادت لفراشها و تغطت جيدآ
و أغلقت عينيها لتنام من جديد ..
عدت لغرفتي ..
كان ممسكاً بإحدى مجلات الموضة حيث كنت مولعة بها ..
ناولته كوبه ، فقال لي ممازحاً : أﻻ توجد أكفان على الموضة ؟
قلت له : سيبدو شكلك مريعاً لو انك في كفن كاروهات مثلاً
و ضحكنا معاً .. قرأت له العديد من قصصي
كان ينصت بإهتمام و علق لي بأني مهووسة بالموت منذ الحياة
قلت له هو الشيء الأجدر بالإكتشاف ، و الأكثر إثارة لنكتب عنه
و مع ذلك ، لا يمكنني اﻵن أن أكتب عن مغامرتنا هذه
هز كتفيه تأييداً و إستغرابآ ..
ثم وضع الكوب الفارغ على سطح مكتبتي .. و شكرني قائﻵ :
هذا أسوا كوب شوكولا أشربه على الإطلاق في حياتي و مماتي
حملت الأكواب لأغسلها و أنا أقول : أعرف هذا
كان الفجر يوشك على الطلوع .. و كان علينا أن نسرع في العودة
كنا نركض في الطرقات الخالية و الكلاب تركض خلفنا
و من فرط إسراعنا و عجلتنا .. دخل كل منا في قبر اﻵخر
اكتشفت ذلك عندما كنت أحدق في صورتي المنقوشة على جدار قبره
و سألني .. مذ متى و أنت ترعين هذه الزهرة في قبرك ؟
أجبت مذ بدأت أنت برسمي على قبرك !
قال لي أنت أجمل الموتى .. ربما لو دخلنا الجنة سوياً
أطلبك للزواج ..
صمت كثيراً و على وجهي ابتسامة ..
قال قاطعاً الصمت : السكوت علامة الرضا ..
قلت له :
رائحة قبرك سيئة .. و لكني أملك من الوقت ما يكفي لأفكر في الأمر .
و أكملنا موتنا بسلام ..

"الثورة السودانية" حاضرة وبقوة في الموسم الثامن من برنامج: "أمير الشعراء"

في الموسم الحالي – الموسم الثامن - من برنامج أمير الشعراء تأهلت شاعرتين سودانيتين للمشاركة فيه هما الشاعرة دينا الشيخ والشاعرة إبتهال تريتر..
.
.
وبما أن الشعراء الحقيقيون هم لسان حال أمتهم وأوطانهم فقد كان لزاما على شاعرتينا التحدث بلسان حال الثورة السودانية التي انفعلتا بها صادقتين وتفاعلتا معها شعرا وإحساسا..
.
.
ترحمت الشاعرة دينا الشيخ والتي تقيم في كندا وتحمل جنسيتها في أولى حلقاتها المباشرة من البرنامج على أرواح شهداء الثورة السودانية الحالية وعزت الوطن وأهاليهم في فقدهم ورحيلهم..
.
.
أما الشاعرة إبتهال تريتر فقد قالت على صفحتها في الفيسبوك عند تأهلها لحلقات البث المباشر من برنامج أمير الشعراء في نسخته الثامنة:
.
.
مع كل الجراح النازفة في بلادي..
والشهداء الذين يصعدون كل يوم..
والبلاد التي ترقد على نيلين من الحزن..
أحمد الله كثيرا بتفضله علي باجتياز المراحل والوصول لقائمة العشرين ببرنامج أمير الشعراء..
دعواتكم تسندني دوما..
شكرا لكل من وقف معي..
.
.
قالت عن شهداء الثورة السودانية في قصيدتها التي شاركت بها في أولى حلقات البث المباشر لبرنامج أمير الشعراء في هذا الموسم:
.
.
ﻣﺎ ﻋﺪﺕُ ﺃﺭﺟﻮ ﺳُﻴُﻮﻓﺎ ﻛﻲ ﺗُﻨَﺒِﺌﻨﻲ
ﺃﻧﺎ ﺍﻟﺘﻲ ﺑﺒﻘَﺎﻳﺎ ﻧﺼْﻠِﻬﺎ ﺃَﺩْﺭَﻯ
ﻻ ﺃﺳْﺘَﻌﻴﺪُ ﺧُﻨﺎﺳًﺎ ﺇﻧَّﻤﺎ ﺑَﻠَﺪِﻱ
ﻓﻲ ﻛﻞِّ ﺟَﺒْﻬﺔ ﺻُﺒْﺢٍ ﻛَﻔَّﻨﺖْ ﺻَﺨْﺮﺍ
.
.
وقالت عن الثورة السودانية نفسها في مناسبة أخرى:
.
.
تركت على "الخرطوم" أوجاع أمة
تربت على كفِّ النضالات ماطرهْ
وفي كلِّ بيت تكتب الآن ثورة
وفي كلِّ سطر ثائر قرب ثائرهْ
ويخرج رحم الأرض حرًّا وحرًّة
ولا طلق يثنيهم وأشباح قاهرهْ
يغنون للدنيا سلامًا عدالةً
وحرَّية كبرى وروحًا مسافرهْ
.
.
وقالت في آخر حلقة شاركت فيها في البرنامج:
.
.
أنثى وفي مطر النضال وضعت أطهر كلمة
شقت بمقدمها الظلام وباركتها اﻷزمنه
وطني محاريب الخلاص توضأت بترابه
أسماؤه الأولى وصلت فرضه متيقنه
كحلي دم الشهداء والنيلان خمرة أحرفي
صوتي يعمق في تراتيل النداء الأنسنه
.
.
يذكر أن الشاعرة إبتهال تريتر كانت من ضمن عضوية حزب المؤتمر الوطني الحاكم في السودان ومن الناشطين فيه إلا أنها تخلت عن هذه العضوية كما ذكرت وطلقت السياسة تماما منذ العام 2015م لأسباب منطقية وهي بذلك تعلن انتماءها الصادق للوطن وولاءه له فقط دون أي تأثير حزبي أو سياسي أو جهوي فهي ابنة القومية السودانية وابنة الشعب السوداني لا غير..
.
.
وبرغم كل ما في الوطن من جراح ومن أحزان ومن آلام، وبرغم جميع ما في قلوب السودانيين من الأسى والفقد على شهداؤهم الأبرار بإذن الله تعالى في ثورتهم ضد الظلم والطغيان والإستبداد، دعونا ننظر للحياة بعين جميلة وروح متفائلة من خلال مشاركة شاعرتي السودان في النسخة الثامنة من برنامج أمير الشعراء الغني عن التعريف، واللتين تكبدتا عناء حمل عبء الشعر السوداني الحديث على كاهليهما المثقلان بالجمال..
.
.
عبرت دينا بفضل دعم جمهورها العريض من المحيط إلى الخليج وبفضل دعمكم وتصويتكم إلى المرحلة القادمة، والآن تحتاج شاعرتنا إبتهال لدعمكم ومؤازرتكم وتصويتكم..
.
.
تحصلت الشاعرة إبتهال تريتر على البطاقة الذهبية من قبل لجنة التحكيم في اختبارات الأداء الأولية والتي أهلتها لبلوغ مرحلة الأربعين شاعرا ومن هناك فقد تم اختيارها لمرحلة العشرين شاعرا والمشاركة في الحلقات المباشرة من البرنامج ثم نالت بطاقة التأهل لمرحلة الـ 15 من قبل لجنة التحكيم أيضا..
.
.
يرجى التصويت لشاعرتنا على الرابط التالي :
أو من خلال تحميل تطبيق برنامج أمير الشعراء في هواتفكم الذكية عبر الرابط:
وبما أن يوم غد الخميس الوافق لـ 7 مارس 2019م هو يوم موكب المرأة السودانية وفقا لأجندة مواكب الثورة السودانية فإن تصويتكم للشاعرة يعتبر تصويتا للشعر وللجمال وللوطن وللمرأة السودانية..
.
.
#مجدي_الحاج
#الثورة_السودانية
‏‫#أمير_الشعراء_النسخة_الثامنة

الأحد، 10 مارس 2019

من روائع الفكر السياسي عند الكاتبة السودانية الثائرة نائلة فزع

(1)
سوف أكتب إلى أن يجف المداد... ويفنى عمري... وإياكم أعني... 
فهلا أعرتموني آذانا صاغية؟!... 



(2)  
في انتظار الفجر... وانبثاق أنهار الحرية... لترافق النيل... وتروي النفوس... وتخضر الجروف... ويثمر النخيل رطبا بحجم السلام والعدالة... 



(3) 
الثورة في فرنسا حدثت بسبب الجوع... وبسبب تباين الطبقات إذ كان الملك وحاشيته ينعمون بالرفاهية في مأكلهم ومشربهم... ويسكنون القصور التي أصبحت الآن أماكن سياحية تدر الربح الوفير على الدولة... أما حكامنا هؤلاء فإنهم لو غادروا القصر فلا شيء فيه يجذب... لأنهم لا يعمرون للدولة... إنما يهملون المرافق العامة ويركزون على الإهتمام بممتلكاتهم الخاصة التي انتشرت في كل أنحاء العالم... وهي من مال الشعب... 



(4) 
عادت روحي مبقعة بأوحال الدروب... وملوثة بأدران الحروب... ولكن برغم ذلك سوف أتجاوز انكسارها... وأنفذ إلى خلايا الأرض... وأغوص في أعماق النيل على صهوات حروفي لأنشر التفاؤل من خلال نور سرمدي استمدته روحي من قوة وصمود أسلافي في البجراوية والنقعة والمصورات... وكانت الملكة (أماني تيري) بسطوتها وجبروتها تحفزني قائلة لي:
"أنت لست بأنثى... بل إنسان يعشق تراب الوطن... فهيا انهضي وعلميهم كيف نحكم أنفسنا... وننال ما نريد..."... 


(5) 
تجاهلوا القبلية والحزبية... أنتم سودانيون تحاربون الفساد وتنبذون كل خائن... 



(6)
علينا ألا ننسى بأن الدول العظمى هي من تدس السم
وسط الكيك... ولنا العبرة في حرب اليمن وليبيا... وفتنة ترامب بين دول الخليج... أمريكا تهدد التعايش السلمي بين العرب لأنها ترتزق من خلافاتهم كما يحدث الآن من قطيعة بين قطر وبعض دول الخليج...
نحن شعب مسالم والبعض منا سطحي لا يتعمق في الأمور... 


(7)
يا شعب السودان الذي كنت جبارا... قويا لا تهاب النار... ولا ترضى بالظلم والإحتقار... ماذا دهاكم أيها السودانيون حتى صرتم تطبقون المثل القائل: (الخواف ربى عياله) و(أمشي جنب الحيط) و(خليها تجي من غيرنا)... هذا كلام سالب محبط لا ترهفوا له السمع... 



(8) 
أبسط حقوق الإنسان غير موجودة في السودان... وما زال السجن... وتكميم الأفواه... ومصادرة الحرية كلها تجري على قدم وساق... ونحن نستمع لبرامج من شاكلة (أغاني وأغاني- يلا نغني- والمايسترو) وغيرها من البرامج التي تخدر الشعب... صدقوني هذه البرامج مثل الأفيون والبنقو والهيروين... تصرف انتباهكم عن القضايا المحورية المهمة في حياتنا... 



(9) 
لقد كان حسني مبارك شجاعا عندما غادر... وطالما أنك تابع لخطاه... تنحى... واحفظ ما تبقى من ماء وجه الحكومة لو كان لها كرامة أو ذرة إنسانية... 

في رسالة واضحة للرئيس السوداني عمر البشير 



(10) 
لماذا لم يعد لقطاعات عديدة من الشعب السوداني رغبة في التغيير؟!... 

لماذا وبعد الخروج إلى الشارع والإعتصام عن العمل تراجعت جموع الشعب ونكصوا على أعقابهم وكل لزم منزله... وأطبق الشفة العليا على السفلى ونام؟!... 

هل الخوف من كلاب الأمن... ومن الغاز المسيل للدموع يجعل من الثوار وأصحاب الحق متخاذلين ومستسلمين؟!...
هل هناك فئة مندسة وسط الشرفاء تمارس عليهم نوعا من الضغوط وتثبط عزمهم؟!... 

هل يعتبر المواطن روحه أغلى من أن يفدي بها تراب الوطن؟!... 
ألم نتغنى أو نسمع الأناشيد الوطنية التي تمجد الشهداء وتخلد ذكراهم... وتجعلهم أنموذجا للفداء والتضحية من أجل الوطن الغالي والمواطن المقهور معا؟!... 

أتعجب كل التعجب لما آل إليه الحال في السودان...

في حديث بعد انتقاضة 2013م

نائلة فزع ترثي والدتها - قصيدة بالعامية

يا حليلها (زينب) أمنا
الكان هواها بلمنا
والكان جناحها بضمنا
والكان حديثها بسرنا
والكان حنانها بهزنا
والكان دعاها بهمنا 
ويمسح دموعنا وهمنا
*** *** *** ***


السمحه ما بتلقالها زي
مليانه حب مليانه ضي
إحساسها كان باقيلنا في
والريده تغمر كل حي
*** *** *** ***

أمي ملكة وبت ملوك
لا ريبه فيها ولا شكوك
إن جيت ديارهم بكرموك
وإن فت غادي بيحشموك
*** *** *** ***

رباها جدها (ود فزع)
الكان مشبع بالورع
والياما علمه الناس نفع
في (الخلوة) زينة المجتمع
*** *** *** ***

ربتنا بي إحساس فريد
وسقتنا من موية (المسيد)
ما بتعرف الطبع العنيد
وكستنا توب العز جديد
*** *** *** ***

أمي كانت ملكة جد
ما بتعرف الهم والنكد
متفاءله ديما تدينا ود
ومهما طال هم السنين،
بتزيد جلد
*** *** *** ***

أمي كانت مفخره
والله قطعة سكره
كل العقول متحيره
في السمحه ست المقدره
*** *** *** ***

الريده تنبع منها
والنيل بيشرب حنها
والقمري عاشق فنها 
واللولي بحسد سنها
*** *** *** ***

أمي نخله وتوب عفاف
أمي ما بتعرف خلاف
متسامحه زي شمس الصباح
بنورها تغرق في الضفاف
*** *** *** ***

أمي فعلا مدرسه
بالريده ديما مؤسسه
لا كبر لا إحساس غرور
ما فيها حس للغطرسه
*** *** *** ***

أمي أم (ست النفر)
ست البدو وست الحضر
أم (البشير) أم الفقير
و(بثينه) فيها الحب حضر
*** *** *** ***
أمي ربت لي جناي
قالت له إنت حبيب قساي
وبكره تكبر يا عشاي
أمي أجمل حب وريد 
أمي رفعت مستواي
*** *** *** ***

أمي للضيفان عشا
أمي للعريان كسا
أمي للمظلوم ملاذ
أمي للعيان شفا
أمي بلسم للأسى
*** *** *** ***

أنا مهما قلت من الكلام
ببقى عاجزه عن احترام
الشامخة زي عز الجدود
العالية زي طبع الغمام
*** *** *** ***

أنا قدر أحاول أوصفها
في معجم العز والمعرفه
لكن محال أقدر أكون
بالوصف قطعا منصفه
أمي تاج الأمهات
ولكل أمومه مشرفه
*** *** *** ***

أمي (زينب) أغلى أم
أمي زي نور الحرم
ولسواها الريد علي حرم
أنا بتها المكتوله شوق
أنا (نايله) بت أم الأمم
*** *** *** ***

الوطن فردوس الغريبة - للكاتبة السودانية إشراقة مصطفى

الوطن، الحنين، شجرة العمر الأولى، الشجرة التي أنزلتني بإغواء من حضنه الشاهق، الوطن الذاكرة، الأزقة والشوارع ودندنة الأمهات وصوت الإيمان العالي عند أصابع جدي وهو يسبّح بحمد الله كما طيور “أم بيوض” التي أحبّها منذ صغري وأبحث عنها في كل البلاد. الوطنُ اللغةُ الأولى، الحبّ الأولُ والقبلةُ الأولى ورائحةُ الحناء وزيت الكركار والأخاديد على وجه جدتي الجميلة وصوتٌ إذاعيّ جهور لوّن المدينة بنبضات العاشقات، والحمام الزاجل يشجيه بسيرة دمعاتهن وليالي الانتظار.

الوطن كوني امرأة منذ ولادة الحبل ومعاناة النساء، منذ فرز الأدوار، منذ أول انقلاب على الحياة بدأ بسيرة الموسى الصدئة وليلة الختان. صوت الحقوق وطريق النضال الطويل، الحرب الضروس وسيرة السلطة والثروة وأول قطرة حبر سرية كتبتها امرأة سودانية.. قطرة حبر هي التي تكتبني وسيرة الوطن الآن.. وطني جسدي المفصَّد بالقوانين الظالمة، بسياط من يدٍ مقهور بسيرة الخبز والحرية.

الوطن هو لحظات المخاض في البلاد “الغريبة” حين أنجبت ولم أصرخ كما كانت غرف الولادة بالقرب مني، لم أصرخ ولكن أصوات الجارات في “كوستي” كانت تهدج في داخلي: “يا الله لي”.

سمعتهن يندهن الله وأولياءه الصالحين ليفكّ حملي، يقمن بسحن المحلب والصندل يفوح، (ويا الله تحِلْها وتحْسِن خلاصها)… الوطن هو حيث الفقد الكبير، فقد العناق والدمعات الحنونة، دمعات الفرح. يد حنونة انفكت عن أصابعي في أزمنة الحسرات والفجيعة الفادحة، اليد التي أحببت بعنفوان مخاضي في غربة طولها وعرضها السماء، والجليد ينهال ناقراً على نافذة المستشفى الأنيق ونسمة من الجنة تطرب قلبي بالإيمان، وباكورة حياتي يفتح فمه الصغير يبحث عن ثدي الحنان.. الوطن، حليب أمومتي الأولى!

الوطن هو الزغرودة المفقودة في ليالي الشتاء وفي كل فرحة. هو الغيمة التي هشّت دندناتها في زغاريد الحاجة زهرات الأشقر وهي تطلق عنانها في نجاحات البنات والأولاد في جامعة “فيينّا” مثلما شددتُ بها حيلي يوم تخرُّجي.

الوطن في حضن الخالات، نساء “كوستي” التي لا أحس أنني في وطنٍ إلا حين أدخلها بكل كياني وينهض انكساري وتقوم قيامة أناشيدي و(يا ترى ماذا أصير حينما أغدو كبيراً). هو رصّة الكبابي وفناجين الشوق وروائح القهوة البعيدة تسوقني كلَّ عصريةٍ من “فيينّا” لـ”كوستي”، لحيّ الرديف، للسوق الصغير، ذاكرتنا التي لن تنمحي حتى لو قامت عمارات شائهة وتشرّد أصحابها.

لمّةُ الجيران والفوانيس ورائحة البن والهبهان وحبال العنقريب المبلولة برائحة المطر.

(أنا في المدائن الضّائعة ضايع ليْ زمن

سرحان على الأرض الغريبة وبسأل الشوق عن وطن).

الوطن، جسارةُ الحب والثورة، الحلم المجهض في “القصر”، الحلم الناهض على أكتاف الناس. الذي قضم كعكة قلبي هو ذاته مَن قسمَ التعب للعالمين. الحب وجدلية الثورة والوطن.. لذا لم ينعتق الوطن ولم يكن الحبّ إلّا وهماً جميلاً أزهر في مارس/ إبريل.

شجرة النيمة والتبلدية وصحراء بيوضة وجبل موية.. الوطن!

لي أوطان..

والوطن.. جنة منفاي الأبديّ!

لغتي، لكنةُ لساني وأنا أنطق الألمانية، خلفياتي الثقافية، لوني وضجيج الحنين في دمي، مشاطي وهدير النيل في خطواتي، والمظاهرات والانتفاضات والحقوق.

الوطن حين يقفز سؤالٌ تكرر كثيراً في سنواتي الأولى: متى تعودين إلى بلدك؟ وبلدي يفتح أحضانه للضيوف ولا يسألهم إلا البقاء طويلاً رغم ضيق الحال. لم يعد السؤال يُطرح عليّ، وربما كان سؤالاً طبيعياً، ولكني معبأة بابتسامة من استضافوني وجدّتي حين يتعطل القطار بسبب الخريف فنضطر إلى البقاء يوماً أو يومين حتى يأذن الله، هو وقت توثقت فيه عرى المحبة، فكيف يسألك أحد على أساس أنك ضيف: متي تعود إلى بلدك؟ أرعبني السؤال، أرعبني!

الوطن؟ الذي أرادت ناشطة ألمانية أن تنزلني على أرضه وهي تقول: “أنت بين السماء والأرض، انزلي في الوطن الذي يوفر لك ما ترغبين!”. هنا الوطن الذي يوفر لي كل ما هو مدعوم بالحقوق، ولكن النظام المسنود بالقانون هنا يجعلني واقفة مكتوفة الأيدي حين تناديني جارتي العجور النمساوية أن أساعدها بعد أن وقعتْ على الأرض! قلت لها كثيراً: “لو كنتِ في كوستي حيث أعلنتُ محبتي للكون ولك، لرفعتُك عن الأرض، لجاءت نجاة عبدالله راكضةً بحنينِ حقولِ السمسم، لوقفَ العشراتُ أمامك بحنان أمهاتهم وجدّاتهم،ولكن هذا ممنوع هنا، لا بد أن نتصل بالإسعاف”.

حدث مرة حين نادت عليّ جارتي الممرضة من بلاد كان اسمها يوغسلافيا، طالبةً أن أساعدها لنرفع جارتنا العجوز النمساوية، وبعاطفة نبيلة اقتمستها معي قلتُ لها: “ولكنك تعرفين أن هذا غير مسموح، إذا حدث لها أيّ مكروه سنكون مسؤولتَين عن ذلك!”. وبالفعل اتصلنا بسيارة الإسعاف التي جاءت قبل أن أكمل مع جارتي النمساوية الحكاية وأنا أجلس بالقرب منها على الأرض، رأيت فيها أمي حليمة وجارتنا حبوبة الكريم يدي، رأيت فيها جدات جميلات ومنسيات وحكيت لها ثم سألتها عن عمرها.. ابتسمتْ وقالت: “بعد 43 يوماً أكمل 92 عاماً!”. ابتسمتُ بمرارة وفي الخاطر سنوات تنسرب كالرمل في السودان.. جدتي ماتت صغيرة، مثل الأمهات اللواتي يمتن في الولادة والشباب الذين يُقتلون في حروب البلاد. معضلة الوطن هي معضلة هوياتي، وأنا لا أجد مخرجاً من نهر الدموع الذي يغلي ويفور والفنان محمد وردي يغنّي “الطير المهاجر”، مثلما يحدث حين أرى وجه أمي المفصَّد بتواريخ الألم والحنين وبلاد اسمها السودان. أمي وطنها السودان، وأنا وطني أمي وشجرة رمتني ظلالاً تمشي بين العالمين…

الوطن؟ وطني الناسُ أينما كانوا وكيفما وُجدوا…. هل يجنّبني هذا ورطةً الحنين؟ لا أعتقد!

الوطن هو طفولتي وسنواتي الغضّة، قصب سكّر الماضي والحاضر… وحقول عباد الشمس تعرفني؟ ألستُ ابنةَ الشموس التي لوّحت لوني بالإرادة والصمود، ولا صمود حين تقطر الأغنية من دمعاتي:

(وأنا حالي في بعد الوطن

دفعني ضيّ العين تمن).

تسيل الأغنية بصوت محمد وردي، وعصافير الخريف ترحل، ترحل بعيداً، ولكنها تعود.. فهل تعود عصافيري ولو على كفن؟ أدندن بالأغنية، بل تدندن الأغنية مع وقع خطواتي في دروب الدانوب الذي يعرفني، الدانوب الذي حفظ أغنياتنا، يعرف مني الخير وعائشة الفلاتية، يعرف ملكة الدار وصوت الحلم في “هنا إذاعة أم درمان”، إذاعة السودان و(الشارع اللي شاقي الترام) و…. وآهاتي وحنيني أن أرى بلاد النيل بمستوى النمسا، ولا مستحيل! إذ كيف نهضت النمسا من دمار الحروب والنازية؟ كيف لولا نعمة الديمقراطية والتنمية التي تستهدف الإنسان؟

هي حالي حين أختنق وأنا أبحث عن دروبي الأولى وأحاول أن أرتب ضجيج الغربة الذي يسكنني، الغربة التي أحسها في شوارع ألفتي وأغنياتي الأولى؟ الغربة لا ترتبط بالأمكنة المرئية.. الغربة في مكانٍ لامرئي، تملأ جوانجي حتى تكاد عصافير الخريف تختنق.

(ليه يـا عـصافير ليه الأسف مين علّمك أسف الوداع

وعارف ده ما أول سفر لبلاد بـعيدة بـدون مـتاع

زي ما بتخافي مـن الرياح بنخاف كمان نحنا الضياع

ليه يا عصافير ليه الضنى

صفقة جناحك أحزنها

غـايـب الـسنين الـليلة مالو غنا العصافير غـلبو).

الوطن خيباتي وانكساراتي وأحزاني الكبيرة… هو روح المقاومة التي تسكنني لأجل أوطان جدير بها الإنسان، إنسان الريف والمدن القصيّة.

الوطن التفافُنا حول وجبات الطعام، اليقينُ حين نأكل معاً، حين تمسك بنت الجيران بتلابيبك لتتناول الطعام معهم، أن يقف أهل النيل الأبيض عند الغروب لإنزال الركاب المسافرين لتناول الإفطار في رمضان. مشاهد ما زالت ماثلةً في الذاكرة رغم أننا لم نعد “نأكل مما نزرع”! الوطن هو ألّا تأكل وحيداً حتى لا تموت وحيداً..

الوطن، الأغنياتُ الشجية ورقصات “التم تم” و”السمبلا”، رقصة السيف و”الكمبلا”، “النقارة” و”كليمبو”. ورقصة جسد مجنون بالحياة الطليقة يرقص في ليالي الحب على ضفاف الدانوب (فرنقبية).

هو أن أشعل كل الأغنيات دفعة واحدة ليكون الشتاء حلواً في قسوته وعذباً في شراسته.

أن تفوح رائحة عود الصندل، وأن تقرع جارتي البابَ محتجّةً على قسوة الرائحة التي سببتْ لها أزمة من عويل الدخان.. والوطن هو احتجاج شقيقتي الزائرة على اعتراض جارتي على روائح صندلنا وبعض هويتنا. هو ضحكتي العالية الممدودة نحو استيعاب الآخر وقبول رأيه وغضب أختي التي كانت أقرب إلى الانفجار وهي تواجه للمرة الأولى فكرة أن رائحة الصندل “مزعجة”.

الوطن هو عصام زيادة يومَ أقسم حين رآني أحمل أدوات النظافة، طالبة الماجستير التي ستقوم بتنظيف المبنى والمراحيض لأجل الحلم. هو “بطرس كوني” صاحب الهمّة العظيمة والحلم الكبير أن يظل الوطن واحد، إلهام عبدالرازق في ليالي “فيينّا” وهي تسمع باهتمام ما كتبته وتشدو حين أكرر بعض المقاطع التي طلبتْ تكرارها. دفء سناء الصادق، صديقة أيام البدايات.. والتفاف صديقات الدمعات والآهات والشجن حولي.

الوطن هو الشاعرة “دوريز كلومشتاين” التي أجدها حين يصرخ المنادي: “يا أهل المروءة” عندما فاجأني سيل الموت وهو يجرف بنت خالتي وأحبّ الناس إليّ.. دارت بي الأرض وكانت هي بوصلة الارتكاز، لم تتردد وهي تسألني: “على متن أي خطّ طيران ترغبين بالسفر؟”. الوطن هو أن أعود ولا أجد أحضانه في بنت خالتي التي لملمت مواجع روحها ورحلت، ومن يومها وجناحي مكسور في الوطن.

الوطن هو “هنا غولدا”، النمساوية الجميلة وهي تساندني في أيام الضيق، هو جارتي فاطمة وهي تأتيني محمّلة بالأطعمة التركية في ليالي رمضان الطويلة، وبالأطباق وفناجين القهوة ولوحات عليها آيات من القرآن الكريم، هديتها لي كلما عادت من إجازتها من تركيا. هو “هيلموت نيدرلا”، الإنسان الذي قال فعلياً: “تباً للحدود!”. هو “كورت ستلافيك” الذي راجع ترجماتي لأجل الأدب هنا وهناك دون كلل أو ملل وكنا نخلق لنا وطناً من المعاني والبلاد، كل بلاد السودان.

الوطن.. الوطن هو “شيرين سباهي” تبحث في دجلة عن فراتها.. فراتُها في نيلي. الوطن في “فالاتكا” و”بيرسون” وتضامن حقيقي في أزمنة أزماتي، “بيرسون” الذي قام بتصحيح رسالتي للدكتوراه بمحبة يندر مثيلها، و”فالاتكا” التي لم تتردد يوماً في تقديم الدعم لي في أزمنة الكفاف.. هو الوطن الجميل في “هيلغا امسبيرغر” التي أبدت التضامن نفسه، و”هيلغا نيوماير” وجمال سنوات من الرفقة والتضامن الحقيقي.

هو امرأةٌ عابرة ابتسمت لي في الطريق العامة دون أن تعرفني لولا هدير النيل معانقاً الدانوب.

وطنٌ هي “ريناتا”، و”مارياما”، و”كينان”، و”مرياما”، و”سيغلندا” و”ماغدلنيا”. ووطنٌ هو “حبيب”.

الأمكنة توشّحني بلون الأبنوس حالما ألتقي أحد أبناء إفريقيا، وأرى انتظارهم في مكاتب العمل واللون.. ألون حكايات أوطان تشدو حالما أسمع كلمة باللغة العربية، حالما تفوح الأطعمة وصديقتي من أمريكا اللاتينية تحكي لي عن شرائح اللحم نفسها التي نعلّقها على الحبال. الوطن هو أن يقول لي كثير من السوريين والسوريات إن السودان هو البلد الوحيد الذى فتح أبوابه دون شروط للسوريين، وإن إنسان السودان إنسان حقاً. (وبلدا هيلي أنا).

الوطن عصارةُ شجني حين قلت لنمساويٍّ تعلّق بحبال الوهم في قلبي، إن عينيه جميلتان وتغريان بالإبحار والركض، ولكن لا وطن لي فيهما!

الوطن هو الرجلُ السوداني، بكل انقلاباته وعنفوانه وصلده ونسائمه.

الوطن.. حالةٌ وجدانية، ماء الروح التي تجري في القلب، القلب هو دفق الوطن حين تفوح رائحة المحلبّية والحنّة ويعلو صوت مبارك حسن بخيت: (ست البيت بريدها براها.. ترتاح روحي كلما اطراها).

أن تمنحني الروايات التي أقرأها وتزين غرفتي وأركان البيت.. الكتب أوطان، أوطانٌ الإنسانُ فيها هو حبر الوجود.. حين أسافر كل ليل لأطراف المدن البعيدة في البرازيل، إلى جاكارتا، والسنغال، و”أوستيرول” والرقصات الشعبية. حين أعود من رحلة عمل وصوت “حميد” يشقّ جبال الألب، محجوب شريف والقدال وأزهري محمد علي، تحتويهم ملكة الدار في حضن فراغها الدفيء.. أناشيد هادرة عرفتْ جلالَ قدرها هذه الجبالُ التي تحيط بي والقطار يدندن: (كلما تباعد بينا عوارض ألقى هواك يا سمحة ملكني)

رائحة الإنسان السوداني في “فيينّا”، (قلدة) نساء الحنوّ والحنان حين تشدّ الدنيا خيوط روحك وتجدهن: الحاجة زهرات، إخلاص، صفاء، سناء، فاطمة موسى، ليلى ونوال، زينت، مشاعر ومشاعر، عفاف وبثينة، منار وريم، هاجر، حنان، مشاعر، رقية، سهير وسهير و…… و… و…. و…. رائحة البيوت والناس. لمّة السودانيين في المناسبات السودانية وقدرة حضورهم لتحويل المكان إلى بهجة وألفة حميمة… هو الوطن الذي جعل دعوات الأمهات مقبولة في السماء (خلّي لينا في كل بلد ولد)، ومرت الأيام ومنذ ليلة الانقلاب والصحارى والبحار تشهد أن سيرة الحلم بالخلاص.

في أحلام الناس المشروعة، في رماد الحروب وقبحها، في حنين الأرض للسلام، فيروز في ليل “فيينّا” الصامت، في صباحاتها.. “راجِعون”، و”راجْعين يا هوى”.

“أنت من ديارنا من شذاها

يا نسيم الليل تخطر

حاملاً عبير أرض هواها

في حنين القلب يزهر

أنت من حقولنا يا رسول

من ربوع الخير عندنا

كيف حال بيتنا؟”.

تخرج كل كائنات الله من روحي حين تهدج فيروز: “كيف حال بيتنا؟”. والإجابة المشرعة حنانها في حضن نساء النيل؛ نعمات خيري، أماني صيام وسناء عبدالله عمر.. النساء اللاتي وجدتهُنّ سنداً حين كشّرت الدنيا عن أنيابها فقلنَ لي إن الوطن، الوطن المشتهى، متمدِّدٌ فيهن نيلاً ونخيلاً ورطباً تعرف سرَّه تماضر الخنساء وهي تفسح لي في القلب كلَّ الغرف والفضاءات. الرفيقات اللاتي أعدنَ معي خريطة الطريق نحو جدلية الوطن والحبيب.

كيف حال بيتنا؟حال بيتنا يوم مات جدي، يوم ناحت البلاد التي تسكن مسامي ونبضاتي، يوم امتدت أيادٍ نبيلة، يد صفاء ونجيب بمائتي دولار لأرسلها للسودان كمساهمةٍ في مصاريف العزاء، فكانا العزاء النبيل. والوطن حين تطربني الحكايات عن خبرات وتجارب في دورب الحياة الإنسانية، يحكيها بكل الأشواق لتلك الدروب كمال حسين.

الوطن؟ أن يحتوينا البيت السوداني الحميم في الحيّ الثاني والعشرين، بيت الألفة الذي أشرعه العم فؤاد العجباني ورفقة عمره الجميلة الحاجة زهرات، حيث يفوح السودان الجميل الذي يستوعب تنوّعنا وتعدّدنا واختلافاتنا الفكرية والسياسية. الوطن هو أن يضيءَ المكانَ أخَواي عبدالله الشريف وأحمد بحيري بحضورهما حين يضج المكان بالنمساويين احتفاءً بإصدارٍ لي، حضور ظل يشاركني دوماً هدير النيل وحنان التبلدي وشجو النيل الأبيض.

الوطن؟

الوطن حيث يكون لجسدك مطرحُ شبرٍ يتساوى في مرقده الجميع..

حيث تجد فيه قبراً يستريح فيه الجسد من عنت الحياة مفعماً بالراحة الأبدية وروح تسعد بخلودها، هناك حيث القبور المجانية التي يتبول عليها المارة والسكارى ومن لم توفر لهم الدولة أبسط الاحتياجات الإنسانية. هناك حيث أُدفَن فيها وأعود مثل “درويش في كفن”، هنا لا أستطيع أن أدبر مبلغاً لمقبرتي، ولا أريد تابوتاً مهما أدمعت فيه الورود، إذ إن الوطن أن أُحْمَل على عنقريب، وأن تبكي روحي وتعود لجسدي الحياة وهناك من يبكي عليّ! من يتيقن لحظتها أنني أحببته، فقط حين أموت. أن أسمع هديل البكاء و”قوقاي” الدموع (وحي وووب.. حي ووب)…. هناك حيث لا يؤجَّل البكاء…. و(البكاء بيحرّرو أهلو)! و(بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ).

أم إنّ الوطن هو أن أوصي بمنح جثتي لطلبة العلم، لتشريح هوياتي! فهل يحتملون ركض الأفراس وعويل الوعول وعواء الذئاب التي ستنبت من جسدي مثل الأشجار، مثل شجرةٍ كان وجهي غيمة تسيل في حضن الربابة ولحاؤها يغلي في ساقي؟ أم يوارى جسدي ثراها ويزلق روحي زغباً، يزلقها من رمادها فينيقاً وأعود “أفردويت” مجنونة بسيرة الأبخرة والأحاجي والبهارات وسيرة السفن المحمّلة بريش النعام والأبنوس والجزور؟

الوطن؟

الوطن في الناس

وكل الأرض وطن..

والمنفى؟

المنفى يسكنني… وكُلّي تصالُح!

د.إشراقة مصطفى حامد

*فصل من: الدانوب يعرفني، الوجه الآخر لسيرة الانهار