الثلاثاء، 12 مارس 2019

حب في القبر - للكاتبة السودانية الشابة تغريد أبو قصيصة

إلتفت إليه .. ملصقة عيني في الثقب الصغير على الفاصل الصخري بين قبرينا كان يدخن عوداً ما .. و رائحة الموت الكريهة تعب في المكان
تنحنحت قليﻵ ليعرف أني مستيقظة ، ثم سألته بصوت جاف :
كم التاريخ اليوم ؟
أجابني بعد برهة : قبل الموت أم بعد الموت ؟
فأضفت بضيق واضح : من يهتم لبعد الموت أيها الأحمق !
بالتأكيد أسأل عن التاريخ بتوقيت الحياة ، هل تظن أن القمر مكتمل اليوم ؟
جائني صوته من بعيد كأنه من عمق متاهة في قلب كهف :
بم تفكرين ؟
ابتسمت بفرح ، و أنا أمسد بيدي تعرجات الكفن كي يبدو أكثر إستواءاً ..
ما رأيك أن نقوم بجولة صغيرة ؟
هكذا أجبته ، ثم عم صمت طويل .. قبل أن أقول : اشتقت لغرفتي
و لدفتر قصاصاتي .. دعنا نذهب و نتسكع في الشوارع قليﻵ
اليوم القمر مكتمل ، إنه يومنا ..
على أية حال لن يرانا أحد .. و يمكننا حمل بعض العظام و الحجارة الصغيرة
نخيف بها كلاب الطرقات إن حاولت أن تزعجنا بنباحها .
ها .. ما رأيك ؟؟
تنهد تنهيدة مصحوبة بقليل من الضجر ..
ثم راح يقول :
قالت أمك يوماً أنك لن تعقلي حتى تشيخي ،
أود أن أعثر عليها فأخبرها بأنه حتى الموت لم يشفيك من جنونك !
أووففف ، هذا دأبك دائماً ..
تحب أن تنزع عني فرحة المغامرة ، سأذهب وحدي
أزلت بعض الحجارة التي تسد علي طريقي .. و خرجت
كان الطقس شديد البرودة ، و ثمة رطوبة عالية بالجو
نفضت الغبار عن شعري ، و لففت كفني على جسدي جيداً و أخذت أعدو بين الشواهد
و صوته يتبعني من بعيد .. توقفي يا خرقاء .. توووقفي !
سأذهب معك ..
توقفت للحظة و أدرت وجهي له ، كان يبدو لي متعباً بعض الشيء
فتقدمت نحوه ، و سألته بصوت خفيض قلق :
هل يؤلمك الموت ؟
فأجابني بلا ، إنما تؤلمني الحياة
ستذهبين لغرفتك و دفترك .. لكن ليس لي مكان لأذهب إليه !
كان يبدو عليه الأسى .. فأمسكت بيده و قلت له :
لا بأس ستذهب معي ، و أضفت بمرح :
كنت أحتفظ بعلبة كاكاو في خزانة ثيابي أسفل ملابسي ، أخبؤها من إخوتي ..
لو أنها ﻻتزال حيث هي سأدعوك لكوب شوكولا دافئة ، و رجاءاً لا تقل لي بأنك لا تحبها ؟؟
أبتسم و أزداد تشبثه بيدي و قال لي : إذن فلنمض .
كانت الطرفات قد تغيرت كثيراً ، قامت الكثير من المباني .. و الطرقات التي لا أعرفها
و عيني لا تقرأ بوضوح اللافتات فغشاوة الموت تضعف بصري .
لكني كنت أتبع حدسي و رائحة أمي ..

كان منزلنا على حاله ، لم يتغير كثيراً
غير أنهم طلوا جدرانه باللون الأبيض الذي طالما كنت أرجوهم أن يطلوا به المنزل
و كانت أمي تقول بأنه لا يحتمل و سيتسخ سريعاً !
كما أن هناك سيارة جديدة يبدو أن أخي أشتراها مؤخراً
و شجرتي التي زرعتها منذ سنوات كبرت كثيراً و أينعت .. شعرت بفرح غامر
و أخذت أقفز و أقول له ، ها قد وصلنا .. أﻻ يبدو هذا رائعاً !!!
كان يرقبني بابتسامة هادئة ، و على عينيه تلك النظرة التي تعني :
لا فائدة .. لن يجدي شيء معك فأنت لا تتغيرين .
حاولت فتح الباب لكنه مؤصد بقوة ، قال لي :
دعي سخافتك هذه و استخدمي طاقتك الداخلية ، لست بحاجة إلى فتح الباب
للموت بعض الفوائد كما تعلمين ! .. قال هذا و هو يعبر من الحائط ضاحكاً
و أنا أصرخ : انتظرني ، فأنا حديثة عهد بالموت و لا أجيد استخدام هذه الحيلة !!
أخرج رأسه من الحائط و قال لي :
أشحذي طاقتك جميعها لتلجي من الجدار .. الأمور تسير كما تريدين
إن كنت تودين الدخول فستدخلين ، الأمر بهذه البساطة صدقيني .
كدت لا أصدق و أنا أعبر من الجدار ، كأنه بوابة سحرية ..
بذات الطريقة نفذت لغرفة أمي ، كانت توليني ظهرها و تغط في سبات عميق
تأملت وجهها و ابتسمت معه قائلة : تبدو بصحة جيدة أليس كذلك ؟
هذه العجوز ماهرة في أن تبقى جميلة للأبد ، ثم قبلتها في جبينها
و ابتعدت لبرهة ..
تحركت قليﻵ و غيرت من وضعية نومها كأنها تحلم ، فقلت له دعنا نمضي
لا أود إزعاجها .. أقترب مني و مسح على خدي ثم وضع أصبعه في فمه
قال لي إنها دموع حقيقية و مالحة ، هل تبكين ؟
أنت مقرف ، كيف تلعق دموعي ! هكذا قلت و ابتعدت منه
و أخذت أعدو صوب غرفتي ..
كانت مرتبة على غير حالها في حياتي ، قلت بأن أمي مسكينة
إني أتعبها و أكلفها كثيراً حتى في موتي ..
فتحت خزانتي .. كانت كما تركتها ..
حشرت يدي بين الثياب أستكشف ما إذا كانت علبة الكاكاو بمكانها أم أن أحداً سرقها ؟
لم أتفاجأ حين وجدتها .. من بأي حال سيسرق مدخرات أخته الميتة ؟؟
راجعت تاريخ الصلاحية في قعر العلبة ، كانت منتهية منذ عامين ماضيين
قلت له : يمكنك الجلوس على مكتبتي حالما أعد لنا كوبي شوكولا ..
و لكن حذار من أن تعبث بدفاتري و حاجياتي الخاصة !
قال لي حسن .. لن أفعل ..
غادرت و أنا لست واثقة تماماً بوعده ، لكن ليس ثمة ما أخشاه
أعددت إبريق الحليب الساخن و بحثت عن السكر فأضفت ملعقتين في كل كوب
و الكثير من الكاكاو الفاسد و كنت أضحك إذ أن أقصى ما يمكنه أن يصنع بنا هو أن يقتلنا
و الموتى لا يموتون ..
في تلك الأثناء ..
أحسست بوقع أقدام يقترب مني ، كانت أختي الصغرى ..
حملت الكوب خاصتي ، و نظرت إليه فوجدت به السكر و الكاكاو ..
وضعته و حملت كوب آخر و سكبت عليه القليل من الماء .. شربتها دفعه واحده ثم همت بالخروج
لكنها توقفت عند الباب قليﻵ و نظرت إلي في عيني مباشرة ، كأنها تراني
فركت عينيها و ذهبت .. حملت أكواب الشوكولا و تبعتها .. كانت قد عادت لفراشها و تغطت جيدآ
و أغلقت عينيها لتنام من جديد ..
عدت لغرفتي ..
كان ممسكاً بإحدى مجلات الموضة حيث كنت مولعة بها ..
ناولته كوبه ، فقال لي ممازحاً : أﻻ توجد أكفان على الموضة ؟
قلت له : سيبدو شكلك مريعاً لو انك في كفن كاروهات مثلاً
و ضحكنا معاً .. قرأت له العديد من قصصي
كان ينصت بإهتمام و علق لي بأني مهووسة بالموت منذ الحياة
قلت له هو الشيء الأجدر بالإكتشاف ، و الأكثر إثارة لنكتب عنه
و مع ذلك ، لا يمكنني اﻵن أن أكتب عن مغامرتنا هذه
هز كتفيه تأييداً و إستغرابآ ..
ثم وضع الكوب الفارغ على سطح مكتبتي .. و شكرني قائﻵ :
هذا أسوا كوب شوكولا أشربه على الإطلاق في حياتي و مماتي
حملت الأكواب لأغسلها و أنا أقول : أعرف هذا
كان الفجر يوشك على الطلوع .. و كان علينا أن نسرع في العودة
كنا نركض في الطرقات الخالية و الكلاب تركض خلفنا
و من فرط إسراعنا و عجلتنا .. دخل كل منا في قبر اﻵخر
اكتشفت ذلك عندما كنت أحدق في صورتي المنقوشة على جدار قبره
و سألني .. مذ متى و أنت ترعين هذه الزهرة في قبرك ؟
أجبت مذ بدأت أنت برسمي على قبرك !
قال لي أنت أجمل الموتى .. ربما لو دخلنا الجنة سوياً
أطلبك للزواج ..
صمت كثيراً و على وجهي ابتسامة ..
قال قاطعاً الصمت : السكوت علامة الرضا ..
قلت له :
رائحة قبرك سيئة .. و لكني أملك من الوقت ما يكفي لأفكر في الأمر .
و أكملنا موتنا بسلام ..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق