البداية كانت في ذات فراغ عندما ذهبت مساءا إلى استديو التصوير الفوتوغرافي القريب من منطقة سكني وأنا بكامل هندامي كرجل سوداني، حيث كنت أرتدي زي عامة السودانيين الوطني المتمثل في الجلباب "الجلابيه" والعمامة "العمه" والوشاح "الشال" الطويل والمنمنم بشكل يدوي، وقد تعمدت نعت الزي بلفظة "الوطني" بدل "القومي" لأن البعض من السودانيين يرى في مصطلح "قومي" إلغاء لقوميات السودان المختلفة والمتعددة ومجموعاته العرقية التي لا تتداخل مع الجنس العربي وثقافته إلا قليلا، على الرغم من كون هذا الزي يعتبر زيا إسلاميا في المقام الأول ولا يعبر عن القومية العربية على وجه التحديد في بلد كالسودان، ومعلوم أن غالبية أهل السودان هم من المسلمين السنة، وهذا موضوع طويل ومتشعب وذو شجون شتى قد لا يسع المجال لذكرها هنا.
كان المصور الهندي صديقا لطيفا تربطني به علاقة جيدة، فقام باقتراح زوايا معينة لالتقاط الصور خاصتي في فسحة مقدرة من الوقت، ورغم أن هذا الأمر يعتبر من صميم عمله فإنني أشعر بالإمتنان الكبير له وأحس أنه قد أولاني معاملة خاصة ومميزة، فشكرا له من القلب رغم أنه قد أخذ أجره المرتفع نسبيا بشكل كامل.
وكقاعدة عامة فإن التصوير الفوتوغرافي يعتبر فنا أكثر من كونه مهنة، وعليه ووفقا لتقديري الذاتي فقد برزت مهارة صديقي المصور الفنية العالية قبل مهنيته عند استلامي لبطاقات الصور خاصتي بعد تحميضها وطباعتها، ولا أخفيكم أمرا فإنني قد ذهلت وأعجبت بها كثيرا.
وكان من فرط سعادتي قيامي بنشرها في صفحتي الشخصية في الفيسبوك لأنال حظا من إعجابات الأصدقاء وتعليقاتهم الجميلة وقد كان، ثم قمت بنشرها أيضا في مدونتي الشخصية في محرك البحث جوجل مع موضوع ذي صلة، وبعد مرور فترة ليست بالطويلة صارت تصلني رسائل من مجموعة من الأصدقاء تحتوي على صور يافطات إعلانية لمحلات خياطة رجالية وبوتيكات لبيع الملابس الرجالية في مدينتي الخرطوم وأمدرمان تحتوي على بعض من تلك الصور التي حدثتكم عنها أعلاه، وبعضهم كان يسألني إن كنت أنا هو نفس الشخص في هذه اليافطات أم أنه مجرد شبيه؟!.
وعلى ما يبدو فإن بعضا من مصممي اللوحات الإعلانية قد أدار محرك البحث جوجل في بحثه عن صورة رجل سوداني يرتدي الزي الوطني حتى يستخدمها في تصميم يافطته الإعلانية، فإذا بصوري تروق له ويفعل.
أحد الأصدقاء طالبني برفع قضية على هؤلاء المصممين أو أصحاب المحلات المصمم لهم أسوة بالرجل السوداني البدوي على ظهر بعيره والذي استخدمت صورته شركة "موبيتل" للإتصالات اللاسلكية قبل فترة في إعلان لها دون علمه، فقيض الله له محاميا من الأفذاذ، تابع القضية وجعلها قضية رأي عام تحدثت عنها الصحف بكثافة، وخرج بتعويض مادي كبير جدا لم يحلم به هذا البدوي أبدا، وقد أحسن القضاء السوداني حينها في الإنتصاف لهذا الرجل، وأتمنى أن يكون هذا ديدنه في كل القضايا المعلقة خصوصا قضايا الملكية الفكرية والتي من ضمنها استعمال صور الغير الشخصية دون علمهم أو معرفتهم في أغراض إعلانية، وهو ما يخالف القانون قلبا وقالبا.
جعلني صديقي هذا أضحك وربما سيقرأ سطوري هذه فأخبرته أن العشوائية والعفوية هي من سماتنا كسودانيين، وغالبيتنا لا ينظر للأمور بنفس منظاره الثاقب والدقيق، فقال لي: لا تستهون بالموضوع وأنه يعرف محاميا "شاطرا" على حد قوله له باع في قضايا كهذه، وأنه سيتابع القضية بشكل شخصي بعد إعطائه الضوء الأخضر.
وقبل يومين بالضبط وصلتني رسالة من صديقة أعزها قالت لي بالحرف الواحد: "ما شاء الله بقيت تتاجر في صورك"، وقد كانت تعني أني أعمل كموديل إعلاني يتقاضى أجرا جراء تصويري بالصورة التي يريدها المعلن، وحقيقة فقد أغضبني كلامها هذا رغم تبريرها له بالمزاح، فقناعاتي عموما ولهذه اللحظة لا تجيز لي هذا الأمر مع احترامي الكبير لمن يمتهن هذه المهنة، وذلك بغض النظر عن وضعي ومنزلتي وطبيعتي الحياتية.
وفي الأخير أحب فقط أن أذكر المصممين عموما وبالأخص جيل الشباب بضرورة توخي الحذر في تصميماتهم وابتكاراتهم الإبداعية، وضرورة اتباع الإجراءات المطلوبة التي تحميهم من المساءلة القانونية وتحترم خصوصية الناس فالتصميم أمانة والمصممون مؤتمنون عليها، وكذلك ينبغي على عملاء المصممين الإهتمام بهذا الأمر فهم أيضا قد تنالهم مساءلة قانونية من محاكم الملكية الفكرية حال تصعيد المعنيين لقضية انتهاك خصوصياتهم.
أدخل تعليقك...سلمت اخي مجدي لك كل الود
ردحذف