الصورة لشخصي مع الدكتور صديق عمر الصديق
دكتور الصديق عمر الصديق هو مدير معهد العلامة السوداني البروفسير عبد الله الطيب للغة العربية بجامعة الخرطوم، وأستاذ الأدب العربي والنقد واللغة العربية بكلية الآداب فيها، وهو عضو مجمع اللغة العربية في السودان (أصغر عضو)، وهو مدير بيت الشعر السوداني الذي يرعاه حاكم إمارة الشارقة الشيخ الدكتور سلطان القاسمي، كما أنه أيضا عضو لجنة التحكيم ببرنامج "سحر القوافي" على شاشة التلفزيون القومي السوداني قبل توقفه حاليا، وهو شاعر وناقد لوذعي، ولكنه قبل كل ذلك رجل سوداني أصيل معتق بالبساطة والأناقة الداخلية النادرة، كيف لا وهو قد نبت كنخلة شماء في ضفاف النيل الخالد بجزيرة "توتي" الخرطومية.
التقيته مجددا على هامش مهرجان الشارقة للشعر العربي 2017م بفندق الهوليدي إنترناشيونال بكورنيش الشارقة حيث مقر إقامته، فاستقبلني بكل حفاوة وتواضع وهو يتزين بابتسامة مضيافة وودودة، ثم دعاني لاحتساء كوب من الشاي معه، وتجاذبنا أطراف الحديث حول الواقع الشعري الحالي في السودان، وأنشطة المؤسسات المعنية باللغة العربية وفنونها فيه، فكان أن حظيت بمجموعة من المعلومات الثرة والقيمة اختزنت أغلبها في ذاكرتي ولعلني سألخصها في مقام آخر بإذن الله تعالى.
وفي هذه السانحة قمت بتلخيص مجموعة من أقوال هذا الرجل الفذ تحت عنوان: هكذا تحدث: "دكتور الصديق"!، لعلها تبرز شيئا من عظمة شخصيته وتفوقها العلمي والإنساني، جمعتها من مصادر متفرقة من خلال الشبكة العنكبوتية للمعلومات كالحوارات الصحفية واللقاءات المتلفزة والمحاضرات الملقاة، وهي كالآتي:
1- لا أظنني وصلت إلى درجة يبلغ بها المرء غاية المعرفة، وأرى نفسي أنني ما زلت طالبا فكلما بلغ الإنسان شأوا بعيدا في العلم كما يراه الناس، يرى نفسه هو أنه ما يزال ينقصه الكثير.
2- والدي وجدي كانا من العلماء الذين تشد إليهم الرحال، هذه البيئة وفرت لي فرصة الحصول على العلوم والمعرفة بمساحات واسعة وفضاءات مشرقة، حتى وصلنا إلى جامعة الخرطوم وتتلمذنا على علمائها الأفذاذ.
3- تعريف الثقافة أمرٌ مربكٌ جدا لأنه لا نستطيع أن نحصر معنى الثقافة حسب حدود اللغة، فمعنى ثقافة في اللغة الإنجليزية (CULURE) يختلف عن المعنى اللغوي في العربية، فمعنى ثقافة في اللغة العربية يأتي بمعنى التقويم، وهو مأخوذ من كلمة ثِقاف والثِقاف آلة تُقوَّم بها الرماح وعلى هذا المعنى نقول: إن المثقف هو الذي يحمل المعارف الضرورية بمسؤولية كالمعارف المحلية والبيئية والكونية وهنا تتبدى بوضوح ظلال المعنى العربي للثقافة.
4- جدل العلاقة بين المثقف والسلطة جدل قديم، فابن خلدون كان أكبر مثقفي عصره وكان لا يرى ضيرا في تواثق المثقف مع السلطة والتعامل معها والعمل في إطارها، بينما الخليل نأى بنفسه حتى في مجرد التعامل مع السلطة وذلك في قصته عندما دعاه سليمان ليقوم بتعليم ابنه علوم اللغة والشعر، حيث قال:
بلِّغ سليمان أني عنك في ثقةٍ
وفي غِنًى غير أني غير ذا مالِ
بينما هنالك من بهم ضعف فرضوا أن يسخَروا معارفهم للسلطة إما طلبا للمال أو الجاه، ومنهم مَن سعى سعيا حثيثا للحصول على السلطة نفسها كأبي الطيب المتنبئ حيث كان يتودد للملوك بشعره لكنه يجاهر بطموحاته للحصول على السلطة حيث يقول:
وفؤادي من الملوك وإن كـــ
ــان لساني يُرى من الشعراءِ
فالثقافة هي اشتغال بالفكر، والسياسة اشتغالٌ باليوميات والشعارات فهي متبدلة، ومن هنا يأتي الإلتباس فلا قانون محدد يحكم المسألة وإنما هي مسائل تقديرية.
5- الفن لا يُنظر للإجابات التي يقدمها وإنما يُنظر أثر الفكر الذي يتركه.
6- أبو الطيب عندي هو الفائز بين الشعراء بالضالة التي طلبوها ولم يجدوها، لأنه قد أوتي من الموهبة أولا في الغوص الإنساني العميق في جوف التجربة الإنسانية بتأملٍ مدهش، وثانيا بدفقٍ عاطفيٍ حيويٍ يرد إلى الشعر كثيرا من الحيوية التي فقدها والحرارة التي ذهبت مع برودة العواطف التي أفضت إلى برودة القول، وهو من هذه الجهة شخصية خاصة تطلب مدح الأمراء والكبراء ولكنها تتغنى في مجالسهم بأحلامها الخاصة، وهو صاحب نفس طموحٍ تثب إلى المعالي وثبا، ثم إن الحقيقة المهمة عنده هي قدرته على صياغة كل هذا الذي ذكرنا في قولٍ جامعٍ مانعٍ، ولعله هو نفسه كان يعلم هذا بآية ما قال لسيف الدولة:
وعندي لك الشُرَّدُ السائراتُ
لا تحصيهنَّ في الأرض دارا
قوافٍ إذا سرنا عن مِقوَلٍ
وثبنا الجبال وخُضنَ البحارا
وبآية ما قال مادحا شعره:
ما نال أهل الجاهلية كلهم شعري
ولا سمعت بسحري بابلُ
وقد تنبَّه أستاذنا عبدالله الطيب إلى أن الناس انشغلوا بشخص المتنبئ عن أدبه، فأديبٌ مثل طه حسين يقول عن أبي الطيب: أكره شخصه، وأحب فنه، ولأن طه حسين قد ذهب مذهبا بعيدا في حب أبي العلاء المعري، فإن أبا العلاء نفسه كان يعد أبا الطيب أستاذا له، وقد شرح شعره في كتابين الأول معجز أحمد، ومن الإسم يعني أحمد بن الحسين فهو يعد شعره معجزا، والثاني اللامع العزيز وقد شرح فيه بعض قصائد ديوان المتنبئ اختيارًا، وهذا دليل على انبهاره بأبي الطيب.
7- الشعر السوداني له تميز وخصوصية في سياق الشعر العربي كلهِ، وقد تحدث كثير من النقاد عن هذا التميُّز، فمثلا الأُستاذ الفلسطيني الكبير إحسان عباس وهو قد طاف البلدان العربية ذهب إلى أن الجزالة شيء يميز الشعر السوداني، وتنبه بعض النقاد إلى سطوع الصورة الشعرية في الشعر السوداني، وأذكر أن أستاذي الدكتور تاج السر الحسن -عليه رحمة الله- حدثني مرةً أنَّ أقرانهم من الشعراء العرب كانوا معجبين بسطوع الصورة الشعرية عندهم، وكان يعني نفسه والجيلي عبد الرحمن ومحيي الدين فارس، وقال: كانوا يناقشون ذلك في حضرتنا ثم يقولون إن شمس السودان الساطعة ربما كانت سببا في هذا السطوع الشعري.
وحينما ننظر إلى شعر الفيتوري ألا ترى معي في دواوينه عاشق من أفريقيا واذكريني يا أفريقيا وغيرها شيئا ذا طابع خاص وغريب بالنسبة للشعر العربي فولى زمانه؟ عنفوانٌ وغضبٌ وثورةٌ تستمد نضالها من الشعور بالسواد، سواد اللون كما عبَّر عنه الفيتوري، ثم أن الفيتوري نفسه تفوَّق على كثير من الشعراء حينما استراح في ظل دوحة التجربة الصوفية، إذ كانت قصيدته في هذا الباب شيئا من الغنائية وشيئا من الفكر في صور ومضات وإلماعا من الحكمة الموجزة المصوغة صياغة محكمة فيقول مثلا:
دنيا لا يملكها من يملكها
أغنى أهليها سادتها الفقراء
العاقل من يأخذ منها ما تعطيه على استحياءْ
والغافل من ظنَّ الأشياء هي الأشياءْ
8- عندي في حياتي أماكن أثيرة هي كموحَى التجاني يوسف بشير أستطيع أن أستجمع فيها قواي، وأن أفكر فيها بعمق، وأحيانا ألوذ بمصاقبة الحياة المختلفة عند من سميناهم «البسطاء» غير أنهم تنطوي نفوسهم على فهم عميق للحياة والوجود فأجد عندهم المتعة والتجدد.
9- في ظني أنه ليس هناك كتاب في الأدب يجمع بين الفائدة والإمتاع أفضل من «المرشد الى فهم أشعار العرب»، للعلامة عبد الله الطيب.
10- لئن رسم الخيال (الجمعي) في بلادنا لعبد الله الطيب صورة أعرابي في شملته، فقد كان يتحدث العامية الجزلة بلا تكلف، وقد آنست فيه إشفاقا على تهجين العامية أوضار المدنية الحديثة، فيتحدث عن أن أهل المدن مالوا إلى الحذلقة واللين حين قالوا: (مين) بدلا من (منو)، وله من جنس الفكاهات في هذا الباب ذخائر، إذا روى طرفة منها ضحك ضحكا عميقا:
في راجل قال لولدو: يا ولدي أولاد الزمن عندهم كليمات بالحيل مزعلاتني.
رد الولد: إزاى يا أبوي؟!
قال الوالد: طَلَّق دي واحدة منهن.
11- فشوّ اللفظة الأجنبية وسيادتها بسبب تقدم الأجانب التقني جعل من عالم العربية نفسه لا يستطيع مثلا أن يسمي كل جزء في سيارته مع خمول المصطلح، وبعده عن الفاعليّة والحركيّة، ولذلك لا يبعد الأمر عن الذي ذكره ابن خلدون في شأن المغلوب المولع أبدا بتقليد الغالب، فرغبة الشَّباب العرب تصلُ بين تقدير التقانة والإعجاب بها وبين الفتنة بلغة مُنتجها.
12- هجوت توتي فخذها اليوم قافية
أوحى إلي بها شيخ العفاريت
فأعلم بأن قتال النيل مأثرة
أعيت رجالا وجوما كالمباهيت
ثر أيها النيل إن الوعد منتظر
لن يخزي الله في يوم الوغى توتي
إن أزبد النيل أو جاشت غواربه
ذاق الهزيمة من صد وتشتيتِ
قد حاز الشرف العالي أوائلنا
فليس حبلهم منا بمبتوتِ
وبات يحسدنا قوم لأن لنا
فخرا عظيما ومجدا ذائع الصيت
أما التجاني لما قال قافية
تحكي شعور فؤاد منه مبهوت
شاقته توتي بحسن لا نظير له
كأنما اشتق منه سحر هاروت
شتان بين بلاد في قرنفلها
لم ينجها حسنها من بطش طاغوت
وبين توتي وقد صانت محارمها
رجال صدق من الصيد المصاليت
لم تبلغ النية الشوهاء مبلغها
حتى وإن غنمت أسلاب جالوت
إن الجزائر لا ترقي لهامتنا
ولا صير الله توتي مثل هاييتي
وللحديث بقية بإذن الله تعالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق