الخلوة
في السودان مفرد جمعه خلاوى وخلاوي، وهي المكان الذي يخلو فيه طالب العلم عن
الدنيا ومشاغلها لحفظ القرآن الكريم وتعلمه، وفي الخلوة تشعل نار القرآن ليلا، وهي
كلمة محببة في نفوس السودانيين فإذا قيل أن ذلك الشخص أو أولئك الجماعة قد أوقدو
نارا للقرآن في القرية أو المدينة أو في البادية كيفما اتفق الحال، فإن هذه
الإشارة تكسبهم حمدا وثناء عظيمين وتحببهم للناس وتجعل لهم القبول بينهم، فهي عند
السودانيين بمعنى إحياء الدين وتتمثل في تقليد قديم أخذ به قبل انتشار الكهرباء.
وكان طلبة الخلوة يذهبون إلى
الغابة بل إن بعضهم يفعل ذلك في أيامنا الحاضرة فيحضرون كمية ضخمة من الأخشاب
ويشعلون فيها النار في المساء أمام مبنى الخلوة ويتحلقون حولها ليقرأوا ألواحهم في
ضوئها حتى يحفظونها استعدادا لعرضها أو تسميعها للشيخ غدا في الصباح الباكر، وهم
في ليالي الشتاء بصفة خاصة يفيدون من نار القرآن لأنها تمدهم بالدفء الكافي.
وعليه فإن الخلوة هي
مدارس قرآنية في السودان أشبه بمدارس الكتاتيب في مصر، ولها دور مهم وأساسي في
تاريخ التعليم في السودان.
وحول
نشأة الخلاوي في السودان كان أول ظهور لها أثناء حكم الشيخ عجيب المانجلك 1570م -1611م وقيل قبل ذلك
إلا أن الثابت أنها توسعت في عهده، وبدأت كحل وسط لسيطرة تيارين دينيين على
السودان في هذا الوقت، وهما علماء المذهب المالكي الذين يرفضون تعليم أو صلاة
الصبية في المساجد، وشيوخ الصوفية الذين ينزعون إلى الإختلاء بالنفس بعيدًا عن الناس.
فكان أن بنيت الخلاوي كبيوت ملحقة بالمساجد،
وتعرف الخلوة بأسماء عديدة مثل القرآنية أو الجامعة أو المسيد ويستخدم اسم المسيد
أيضا للمسجد، فيما تعرف واحدتها باسم شيخها فيقال خلوة الشيخ فلان، وقد طغت أسماء
بعض الخلاوي المشهورة على عموم منطقتها كود الفادني وود كنان في الجزيرة وغيرها.
وحول أسلوب التعليم في الخلوة فلا ينقسم الطلاب فيها إلى
فصول دراسية كالمعهود في المدارس الحديثة وإنما تتبع الخلوة منهجا فرديا يعتمد على
تلقي الطالب للعلم مباشرة من شيخه واحدا لواحد حيث يتابع الشيخ طلابه ويعلم كلا
منهم حسب مقدرته ومستواه فلا يحتاج الطالب عددا معينا من السنين للتخرج بل يتقدم
حسب قدرته. ويمكن للشيخ الواحد - بمعاونة الطلاب المتقدمين - أن يشرف على نحو مائة
من الطلاب كل منهم في مستوى تعليمي مختلف عن أقرانه.
ومن وسائل التعليم في الخلوة يبدأ طالب الخلوة بالكتابة
"رسم الحروف والشكل وضبط الكلمات" على التراب برؤوس أنامل اليد من غير
احتياج لوسائل مساعدة حتى يتقن الطالب الحروف والقراءة.
ثم يستخدم قلم البوص للكتابة
على اللوح وقد يستخدم الشيخ نواة بلحة لرسم الحروف على لوح التلميذ الذي يتتبعها
بقلمه وما زالت نفس الأدوات تستخدم منذ القدم دون تغيير وجميعها من المواد المحلية
التي يصنعها الطلاب بأنفسهم.
ويستمراليوم الدراسي في الخلوة
منذ الثالثة والنصف صباحا وحتي العاشرة مساء، ويبدأ اليوم بفترة تسمى بالدغيشة من
ما قبل صلاة الفجر ويحفظ فيها الطلاب المقرر اليومي الذي يحدده الشيخ لكل طالب على
حدة على حسب همته وذكائه.
والفترة عقب صلاة الفجر تكون
فيها "الرَّمية" وعند الرمي يأخذ الشيخ مكانه ساعة الشروق، ويتحلق
الطلاب حوله جلوسا على هيئة جلوس التشهد في الصلاة.
ولكي يرمي الشيخ على الطالب
لا بد أولا من أن يسمعه الطالب آخر ما وقف عليه مما رماه عليه البارحة، كأن يكون
مثلا قوله تعالى: (ولهم فيها أزواج مطهرة، وهم فيها خالدون) فيرمي عليه ما بعد تلك
الآية مثلا وهو قوله تعالى: (إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما بعوضة فما فوقها)، ويلتقط
الطالب من فم الشيخ ما سمعه، فيبدأ في كتابته على لوحه، ويرمي الشيخ لمن بعده
وبعده في هذه الأثناء حتى ينتهي الطالب من الكتابة فيعيده عليه، فيرمي عليه الشيخ
الذي بعده، وهكذا، حتى يأمره الشيخ فيقوم ليتنحى إلى جانب من جوانب الخلوة، ويشرع
في حفظ ما كتب، وترى الشيخ يرمي من حفظه أو من المصحف في لحظات متقاربة من ساعة
الرمي، على أكثر من طالب، في أكثر من سورة قرآنية، وغالبا ما يكون هؤلاء الطلاب من
خيرة وأكفأ من عنده، ثم بعد ذلك يوكل إليهم الرمي على من هم دونهم في السن والحفظ.
والفترة من بعد شروق الشمس
حتى العاشرة والنصف وتُسمى "بالضَّحَوَة" وفيها يُراجع الطالب ما حفظ
بالأمس منفردا ثم بعد ذلك يعرض ما كتبه صباح اليوم في "الرَّمية" على
الشيخ ليصحح له أخطاءه، ويُعرف هذا التصحيح باسم "صحة القلم".
ثم يقيل الطالب من الحادية
عشر حتى الثانية وفيها يتناول الطالب إفطاره ويتناول قسطا من الراحة حتى صلاة
الظهر التي تبدأ بعدها فترة "الظهرية"، وفيها يقرأ الطالب على الشيخ ما كتب
في اللوح في الرَّمية تصحيحا لقراءته ونطقا وتحويدا ويُعرف هذا التصحيح
"بصحة الفم أو صحة الخشم"، وتنتهي الظهرية بصلاة العصر، وتبدأ بعدها
فترة "المطالعة" وفيها يقرأ الشيخ ويتابع الطالب من لوحه وتنتهي قُبيل
المغرب، ثم بعد الصلاة يعرض على الشيخ ما حفظه بالأمس وتُسمى "بالعرضة"
وبعد العشاء حتى العاشرة يقرأ الطالب فيها سبعة أجزاء من حفظه وتُسمى "السُّبُع"
وهو يدور في محيط مساحة منبسطة كان في القديم توقد فيها نار تُسمى
"التُّقابة" والفترتين من المغرب حتى العشاء ثم العشاء حتى العاشرة
تسميان المغربية الأولى والمغربية الثانية، وهذا البرنامج لا يتوقف إلا في إجازة
العيدين، وهي الإجازة الوحيدة التي تعرفها الخلوة.
وتجدر الإشارة إلى أنه ليست
في الخلوة حفلات تخرج ونظام للإنتقال من فصل إلى آخر أو من مرحلة إلى أخرى كما
يوجد في المدارس النظامية ولكن في الخلوة ما يعرف بالشرافة وهي احتفال
بإكمال الطالب لجزء معين من القرآن الكريم. مثلا الشرافة الأولى هي "شرافة
عم" وتكون عند وصول الطالب أو الطالبة إلى سورة النبأ والشرافة الثانية وهي
"شرافة تبارك" عند الوصول إلى سورة الملك وهكذا إلى أن يصل الطالب أو
الطالبة إلى الشرافة الكبرى والأخيرة وهي "شرافة الختمة" عند
الوصول إلى سورة البقرة.
ويمكن مقارنة حفلة الشرافة في
الخلوة بالإنتقال من صف واحد إلى الذي يليه في المدارس النظامية إلا أن تقدم
الطالب في الخلوة ليس مرهونا بفترة زمنية معينة وكل طالب كان يتقدم من سورة إلى
التي تليها ومن جزء إلى الذي يليه حسب مقدرته.
ومن عادات الشرافة زخرفة لوح
الطالب برسم قبة ومنارة مسجد وتلوينها بألوان زاهية ويكتب عليها بخط جميل الآيات
الأولى من السورة التي وصلها، وقد تولم أسرة الطالب لطلاب الخلوة، وفى اليوم
التالي للشرافة كان هناك من يحمل لوحه المزخرف ويذهب به إلى السوق يعرضه على الناس
وهو ينتقل من دكان إلى آخر والناس تعطيه العطايا ولكنها ليست عادة شائعة. وقد
تصاحب وليمة الشرافة هدية من اسرة الطالب للشيخ وتعتمد قيمة الهدية على عدة عوامل
من بينها الوضع الإقتصادي لأسرة الطالب والدرجة التي وصل إليها الطالب في حفظ
القرآن، وتزيد قيمة الهدية كلما تقدم الطالب في حفظ القرآن وقد تكون هذه الهدية
كبيرة إذا كان الطالب يحتفل بشرافة ختم القرآن.
والواقع أنه على مدى تاريخ
الإسلام الطويل في السودان اكتسبت الخلاوي المنتشرة في الحضر والبوادي فيه أهمية
كبرى في نفوس السودانيين حتى امتد هذا التقدير إلى إسناد الوظائف الإدارية المهمة
لخريجيها، حيث كانت هذه الخلاوي في الفترة التي سبقت إنشاء المدارس النظامية هي
جهة التعليم الأساسية كما عرفنا.
ويرجع اهتمام المجتمع السوداني
بدراسة القرآن كون السودان يحتل رأس الرمح للعروبة والإسلام في أفريقيا السوداء
منذ أقدم العصور، واهتمام الفرد غالبا ما يتركز في انتمائه القبلي العربي،
وارتباطه بالإسلام، وكثيرا ما يزعم السوداني بأن قبيلته تنحدر من صلب صحابي جليل،
وهو بذلك يجمع بين الإنتماء العربي والإسلامي، ولإثبات ذلك يتداولون روايات تختلط
فيها الحقائق بالأمنيات.
وقد أطلق السودانيون على
المدارس القرآنية أسماء خاصة ذات دلالة عندهم استوحوها من البيئة البدوية والريفية
التي تكثر فيها هذه المدارس مثل: المسيد، أو الخلوة، وهذين الأكثر تداولا من بين
الأسماء الأخرى.
وكلمة (مسيد) مترادفة مع كلمة
مسجد؛ لأن الغالب في المسجد في السودان أن يكون فيه أماكن مخصصة لتدريس القرآن،
ومن ثم تسمى مسيدا، فإذا أطلق المسجد فهو يعني المسيد، ويقال أن كلمة مسجد لحقها الإبدال
بإبدال الجيم ياء، وكلمة مسيد تلقفها أهل السودان من أفواه المشايخ الذين توافدوا
على السودان في وقت مبكر، وأغلبهم قادم من الحجاز والمغرب، غير أن كلمة المسيد
(خلوة) لا تطلق على النحو الدقيق إلا إذا اجتمع في المسجد مكان المصلي ولدراسة
القرآن الكريم والسكن، والغالب في المسجد أن توجد فيه هذه المناشط الثلاث.
للمسيد أو الخلوة نظام قبول
وتسجيل خاص ميزها فيما بعد عن القبول في المدارس النظامية، فنظامها يقبل فيه كل
الأعمار، تجد فيها الغلام ابن الخمس والصبي ابن العاشرة والشاب ابن العشرين والكهل
الذي تجاوز الخمسين، ويصنفون على قسمين حوار وطالب، والحوار هو الطالب من داخل
القرية (ابن القرية)، أما اسم الطالب فيطلق على من يأتي من خارج القرية أو
المدينة، ويوم دخول الخلوة يأتي ولي أمر الحوار (أبوه أو أمه) فيجلس أمام الشيخ
(مدرس القرآن) ويقدم ابنه ويشفع تقديمه بكلمات تقليدية يخاطب بها الشيخ من نحو: (لك
اللحم ولنا العظم).
فيرد عليه الشيخ: ربنا يعلمه
ويحفظه، ثم يدعو له فيرد ولي الأمر الحوار بعبارات محفوظة ومسجوعة: دقه (بمعنى
اضربه) إن كضب (إن كذب) وعلمه الأدب.
وهذه العبارات من جانب آخر
تبرز ما كان يحظى به الشيخ (معلم القرآن) من مكانة في القرية أو المدينة، إذ يترك
التلاميذ عنده كوديعة يعلمهم بجانب القرآن مكارم الأخلاق والأدب.
وعند اكتمال قبول الحوار في
الخلوة يقدم ولي أمره هدية لمعلم القرآن من نقود أو شاه أو ثور حسب طاقته
وإمكانياته، وجري العرف أن يتم قبول الحيران (جمع حوار) الجدد كل يوم أربعاء من كل
أسبوع، والدخول بالأربعاء تطبقه كل المدارس القرآنية في أفريقيا، وبعد الإنتهاء من
عملية القبول يوكل أمر الحوار لطالب كبير متمكن يسمي (العريف)وجمعه عرفاء، وهو
نظام معروف في كثير من الدول الأوروبية، ويحقق العديد من المزايا الإقتصادية،
فالعريف يكون بمثابة الشيخ الأول للطالب الجديد يبدأ معه كتابة الحروف على الأرض
ويظل يكررها في كل يوم إلى أن يستقر رسمها في ذهنه، وهنا يستحق الغلام حمل (لوح)
وهو عبارة عن قطعة مستطيلة من الخشب تصنع من أشجار خاصة تمتاز باللدانة والقوة مثل
شجرة الهجليج الواسعة الإنتشار في السودان وفي الخلاوي الكبيرة ألواح مشهورة
اكتسبت شهرتها من كثرة عدد الطلبة الذين حفظوا عليها فيتنافس عليها الطلبة
ويتفاءلون بها، وتجري عملية التعليم الأولى في اللوح بأن يكتب الشيخ للطالب في
البداية بنواة التمر على اللوح ثم يمرر الحوار القلم عليها إلى أن يثبت القلم في
يده ثم يوالي الكتابة كل يوم وبذات الطريقة تحت إشراف العريف (كبير الطلبة).
ويحرص في الخلاوي على استعمال
وسائل وأدوات معينة في التعليم وهذه الأدوات جلها من البيئة المحاطة بالخلوة؛ فنجد
أن اللوح الذي يكتب عليه الطلبة هو من خشب الأشجار الموجودة في نواحي القرية كما
أن القلم المستخدم في الكتابة يجري صنعه من مواد محلية أشهرها سيقان نبات الذرة أو
أشجار البوص وهي أشجار رقيقة ومجوفة فيصنع كل طالب أقلامه بنفسه ويضعها في كنانة
(يسميها الحوار قلامة أو مقلمة من قلم) كذلك على الطالب في الخلوة أن يؤمن لنفسه
حبر الكتابة ويسمى عندهم (العمار) ويستعين في ذلك بمواد متوفرة في بيئته، وهي
الصمغ مضاف إليه نتاج حرق الفحم (ويسمى السكن والشعر)، وبعد أن يكمل الطالب صناعة
العمار يصنع له إناء خاص لوضع العمار يسمى (الدواة أو الدواية)، وهي غالبا ما تصنع
من الفخار، وهذه النشاطات المختلفة التي يقوم بها الطالب تكون في زمن محدد وأيام
معينة اتفقت عليها كل الخلاوي في السودان، فخصص لكل يوم عملا، فمثلا يوم السبت
يخصص للقراءة والمراجعة وتفقد أحوال الطلبة والحيران، ويوم الأحد للدراسة الجادة،
ويوم الإثنين يكون مخصصا لجلب الحطب لإشعال النار في الليل (للإضاءة) ويسمى بيوم
(الفزعة)، ويوم الثلاثاء يصنع فيه العمار (الحبر)، ويوم الأربعاء تتم فيه عملية
قبول الطلبة الجدد وتعقد فيه الإمتحانات وتوزع فيه (الكرامة) وهي بمعنى الصدقة
وتكون مما تيسر من حبوب أو تمر أو نقود، ويعتبر الأربعاء أسعد أيام الخلوة وأكثرها
حركة، ويوم الخميس يخصص للنظافة والباقي من اليوم فهو إجازة وكذلك يوم الجمعة فهو
إجازة أيضا.
وهذا الجدول يعتبر إلى حد
كبير ثابتا ومتعارفا عليه بين الخلاوي، ويستمر الطالب في تطبيقه إلى أن يختم
القرآن حفظا، الذي غالبا ما يتم في ثلاث سنوات، وتسمى الختمة الأولى للقرآن
(الشقة) ثم يبدأ بعدها الطالب قراءة القرآن من الأول (شكل مراجعة) وتسمى (العودة)،
وختم القرآن هو أهم مهرجانات الخلوة، فبجانب الولائم التي يعدها أهل الطالب الحافظ
هناك موكب كبير يخرج من الخلوة إلى دار الحافظ، يلبس فيه الطلاب أجمل ما عندهم من
الثياب وهم يحملون ألواحهم، ويرددون التهليل المدوي فيصطف الناس في الطرقات
يبادلونهم الفرحة، وفي ماضي السنين كانوا يزفون المحتفى به على جواد مزين يجهز
خصيصا لهذه المناسبة، وبعد تخرج الطالب جرى العرف إذا كان الطالب ممن يجيدون الخط
أن يكلفه الشيخ (المدرس) بكتابة مصحف هدية للخلوة، أما إذا كان المتخرج لا يجيد
الخط فعليه أن (يدلي) يتلو القرآن مائة مرة ويهدي ثوابه لمؤسس الخلوة، وكلا
الأمرين ليس شرطا ولكن أغلب الخلاوي تأخذ به.
وتبنى الخلوة من المادة التي
تبنى منها غالب المنازل من الطين والطوب الأحمر والحجر والصوف، وأهل البوادي تكون
خلاويهم في الخيام وظلال الأشجار، والخلاوي في أكثر الأحايين تكون على شكل غرفة
مستطيلة تحتوي على سرير صغير يجعلونه مكانا لوضع الألواح، وفي ركن قصي من الخلوة
يوضع حجر كبير يسمى حجر (المحاية) وهو المكان الذي تمحي فيه الألواح المكتوبة كل
صباح لتعاد الكتابة عليها مرة أخرى، ويصنع هذا الحجر في العادة من حجر الجرانيت الصلب،
ويكون موضع اهتمام كبير في الخلوة، وفي وسط سور الخلوة يلاحظ الداخل موضع نار وهي
معلم كبير لأهل الخلاوي في السودان، وتبدأ قراءة القرآن عندها مع مغيب الشمس (لعدم
وجود وسيلة غيرها للإضاءة)، فتشتعل النار بالحطب الذي أحضره الطلبة في يوم الإحتطاب
المخصص لذلك الغرض وهو يوم الإثنين ويجلس الشيخ والطلبة (الحواريين) ملتفين حول
الحلقة.
ومما يميز الخلوة في السودان
أن لطلابها زيًّا تقليديا خاصا يتوافق مع منهجهم في الحياة (التقشف) وهو سمة بارزة
عندهم، إذ يتكون الملبس من ثوب عادي من قماش معروف برخص ثمنه وخشونة ملمسه، وفي
رجليه ينتعل الطالب حذاءًا يعرف عندهم باسم "الشقيانة".
وقد نالت بعض الخلاوي شهرة
واسعة، وأصبح الناس يأتون إليها من كل مكان مثل خلاوي الشيخ ود بدر، خلاوي
همشكوريب لصاحبها علي بيتاي في شرق السودان، وتعتبر هذه أكبر خلوة في السودان، ومدينة
همشكوريب تسمى "مدينة القرآن" لكثرة عدد الخلاوي بها، كما أن هناك خلوة
(أم ضو بان) وهي كذلك من الخلاوي المشهورة، وخلوة كبكابية في غرب السودان.
ولقد كان للخلاوي وما زال
الدور الأكبر في صياغة الفرد السوداني المثالي باعتبارها الأوعية الحقيقية
للمعرفة، فكل الجيل المتعلم في فترة الخمسينيات والستينيات من هذا القرن هم من
خريجي هذه الخلاوي، وهؤلاء هم الذين يقودون السودان حاليا سياسيا ودينيا واقتصاديا.
ومما
ينبغي توضيحه قبل ختم هذه المقالة سبب تسمية المكان الذي تشعل فيه نار القرآن
بالمسيد، الذي يقال إنه في بعض مناطق اليمن والجزيرة العربية يقوم مقام الخلوة،
وكذلك في شمال أفريقيا والمغرب العربي بصفة خاصة، وهو في السودان يقوم مقام المسجد
ويكون مكانا لدراسة الفقه والصلاة والتعبد ويحرص أصحابه أو مرتادوه على نظافته
باستمرار فتكنس ساحته وينثر على أرضه
الماء ليثبت التراب ويسور بحجارة صغيرة لكيلا يمشي عليه الناس بأحذيتهم كما تنحى
عنه الحيوانات لكيلا تعلق به نجاسة.
ويقول
البعض أن كلمة مسيد كلمة ليس لها أصل واضح في اللغة العربية ويبدو أنها كلمة عامية
غير أن مادة مسد تضم بين معانيها الكثير مثل بطن ممسود أي لين لطيف مستو لا قبح
فيه، وقد مسد مسدا ويمكن أن تقاس ممسود على مقتول ومسيد على قتيل فنصل إلى أن مسيد
بمعنى اللطف والإستواء الذي لا قبح فيه كما يقول ابن منظور في لسان العرب، فهل
أريد بكلمة مسيد ذلك الإستواء في الفصحى العربية القديمة في السودان وتوارثتها
الأجيال دون أن تعرف أصولها ومرجعيتها؟!.
وقد
قال البروفسير عون الشريف قاسم أن المسجد كان يسمى الجامع والمسيد، وفي بعض بلدان
الخليج تقلب الجيم ياء للتخفيف فيقال يهال لجهال وريال بتشديد الياء لرجال أي رجل
والهين للهجن أي الجمال والإبل ومسيد لمسجد هذا والله عز وجل وحده الأعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق