جاء الثائر السوداني محمد أحمد المهدي بيمنه وتواضعه،
ثائرا بالحق ولأجل الحق، مهما تضاربت الأقوال واختلفت حول طبيعة الثورة التي
أنشأها، وحقيقة نواياه المضمرة من ورائها، فالتاريخ فيها يترنح بين مطرقة المؤيد
المغالي، وبين سندان المعارض الجحود، إلا أنها والحق يقال كانت ثورة جهادية في
المقام الأول، حافظت على جذوة العقيدة الخالدة، واليقين الراسخ، متقدة في نفوس شعب
كامل، حاول أعداؤه وأعداء دينه إطفاءها، ولكن هيهات، وقد صدق الله عز وجل إذ قال: "يريدون
ليطفئوا نور الله بأفواههم والله متم نوره ولو كره الكافرون"، نعم فالله عز
وجل سيتم نوره ولو كره الكافرون وكل من والاهم من حزب الشيطان، لكن قوى الشر عنيدة
جدا كما شاء الله عز وجل لها أن تكون، فها هي جيوش كتشنر المشؤومة تزحف كالصل
الأرقط الذي يخفي في ثيابه الزاهية الملساء حقيقة الردى، والهلاك في فحيحه الذي
يعزف لحن الفناء، وهي تكشر عن أنياب السوء لأهل السودان العزل الأبرياء الوادعين،
لكن هذا الصل ما كان له أن يغادر جحره الغائر في الظلام والضباب، لولا عمولة بعض
ممن يحسبون على عنصر السودانيين الشريف المحب لأرضه، ومن سايرهم من وضعاء البشر،
فالخلافة العثمانية كبدت وما زالت تكبد رعاياها من المسلمين في السودان، ما لا
يوصف من صنوف العنت والمشقة، فقد توالت رسل محمد علي باشا لتمتص ما بقي فيه من رمق متوثب لاغتيال الفجيعة
والطغيان اللامحدود في تزييف الإحتمال، لكنها سنة الله عز وجل التي قد خلت من قبل
فهو يقول: "وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها
القول فدمرناها تدميرا"، فقد تدمرت قرية الخلافة العثمانية الجائرة بالكامل،
كنتيجة حتمية لصنائعها غير المحمودة، ولم يبق منها إلا أطلال التاريخ التي تعصف
فيها رياح العذابات والمرارات الشائهة في نفوس الرعايا المظلومين والمقهورين.
ولا
يجادل مجادل، أو يخالف مخالف، في أن الدولة العثمانية في أواخر عهدها، قد انشغلت
عن أمر الدعوة إلى الإسلام، خصوصا في أرض السودان، بل ومهدت بشعور منها وبغير
شعور، الطريق للمبشر النصراني، والعدو الصهيوني، ليجد ضالته في المجتمع السوداني
خصوصا، والمجتمع المسلم على العموم، لذلك فإنه ينبغي على الجماعات الإسلامية فيه
بمختلف تياراتها وكياناتها، والتي تشرذمت وتفرقت استجابة لأمر أعدائها، أن تحمل
مشاعل الدعوة من جديد، وتحاول بصدق ويقين إنقاذ ما تبقى من الذين يعانون من ظلمة
الكفر الداجية في أرض السودان، وفي مناطق التماس مع حدودها الممتدة، وتهديهم بقبس
من نور الإسلام ومن شعلة الهداية، وهذا بلا شك هو أعظم واجب قد يناط بها حمله،
فكأن يد العناية الإلهية قد اختارتها بعناية لأداء هذه المهمة الجسيمة والمباركة
في نفس الوقت، فهي ستنجح أيما نجاح إذا صدقت النية مع خالقها، وعقدت العزم على
ذلك، والله غالب على أمره، قال تعالى: "ومن أحسن قولا ممن دعا إلى الله وعمل
صالحا وقال إنني من المسلمين".
وآه
ثم آه من تعلق الناس بأعراض الدنيا الزائلة، وزخرفها البائد، فكأن الخديوية في مصر
قد خشيت من مد الثورة المهدوية، وغيرها من الحركات الثورية والتحررية في وجه
سلوكها الجائر والمستبد في السودان وغيره من الأقطار، وتوهمت أنها ستنتزع منها
كرسي الحكم، فقد حصلت مناظرة شهيرة بين
علماء الخديوية وهم من الأزهر الشريف، وبين محمد أحمد المهدي، بعد أن بلغهم أمره
عن طريق رؤوف باشا ممثلها في الخرطوم، انتهت بهزيمة المهدي وتفنيد أكذوبته، ولعله
يكون تاب توبة نصوحا بعدما سمع الحق من أهل العلم غفر الله له ولجميع المؤمنين،
فكان أن اعتبرته الخديوية التي بدأت حياتها السياسية بالتفكك - كنتيجة طبيعية
لعصيانها وخروجها عن أمر الله عز و جل -، درويشا مجنونا، ينبغي التصدي لإخماد
ثورته بشتى الوسائل والسبل، حفاظا على تماسك الجبهة الداخلية التي لم تحطها
بالعدل، حتى وإن استدعى الأمر الإستعانة بالكفار من أمثال غوردون وأتباعه، وهو نفس
ما فعلته الدولة الفاطمية عندما استعانت بالصليبين الأنجاس حتى تقضي على
الأيوبيين، ونفس ما حصل من بعض حكام هذا الزمان ضد العراق وأفغانستان وغيرهما، إلا
أنهم قد غاب عنهم أن هذا قد يكلف إخوانهم من المسلمين من أهل السودان كثيرا وقد
كان، وقد توهم البعض من السذج أن الإنجليز الأوغاد قد جاؤوا بهدف المصالح لا غير
إلى السودان وغيره، وليس بهدف حرب الدين الذي تستر خلف حماية المصالح، ولا يزال
يتستر بها، ويسمى بأسماء أخرى في عصرنا الحاضر كمحاربة الإرهاب وسواها، والحقيقة
أنهم جاؤوا ليستخربوا، نعم يستخربوا بإصرار شديد ديارنا ولا يستعمروها، والعياذ
بالله العلي القدير من السقوط في هاوية المصطلحات الرنانة والبراقة، والتي ما أنزل
الله عز وجل بها من سلطان، فهم ولهذه اللحظة ينعمون بخيرات أراضي الإسلام
السودانية التي نهبوها بلا ورع وبلا حياء، والتي لم يتمكن ولاة أمورنا من
العثمانيين من الحفاظ عليها كما أمرهم الله عز وجل، فبها قويت شوكتهم، واحتدمت
عزيمتهم، ودالت دولتهم، فتمكنوا من زراعة اليهود في قلب فلسطين المحتلة فك الله
أسرها، وتجرأت أمريكا وأذيالها على رؤوس المسلمين، تقتل من تريد، وتنهب ما تريد،
وكل هم هؤلاء البعض من السذج مطامع شخصية واهية مثل الإنتقام ممن ظلمهم، كالخليفة
عبد الله التعايشي، نتيجة لسلوكه المشين فيما يعرف بكتلة المتمة، والقصص حولها
كثيرة، ويكفي المتمة فخرا أنها قد أبلت بلاء حسنا في موقعة أبو طليح بقيادة الزعيم
المناضل حاج علي ود سعد ضد القوات الإنجليزية الغازية، بل إننا نجد أن البعض منهم
يتبجح بأفضال الإنجليز وجمائلهم كما يزعم على البلاد، ويقول بجهل مسفر، وقلة أدب
ظاهرة، أنهم قد خدموا السودان بتفان وإخلاص، ووفروا فيه بنى تحتية لا تزال مجدية
إلى هذا العصر، وآثارها قائمة إلى الآن، ولكنه ولغبائه وسذاجته المفرطة نسي أن
المشاريع الزراعية التي أقامها الإنجليز كمشروع الجزيرة (Aljazeera
scheme)
وغيره، ما هي في واقعها إلا لزرقة حدقاتهم المريضة، وليس لسواد عيون السودانيين
الطيبين، وكذلك فإن خطوط السكة الحديدية، هي لنقل بضائعهم وجنودهم ومعداتهم
وأسلحتهم التي استخدموها في قتل الأبرياء من أبناء السودان العزل الآمنين
والوادعين فيما بعد، إلى غير ذلك من الشوارع والبيوت والجسور والمباني الإدارية،
وبهذا يتبين أن هذا كله كذب ودجل وخداع، فكأن الأمة السودانية بحاجة إلى الإنجليز
الأوغاد حتى تتمدن، وحتى يطلق عليها لقب الأمة المتحضرة، والأدهى والأمر من كل ذلك
أن يوجد من أبناء هذا الزمان من يتمنى عودة عهود الإستخراب المشؤوم، فتوبوا إلى
بارئكم وثوبوا إليه، وخذوا من الإنجليز أجمل ما لديهم، وأفضل ما عندهم، وأهم شيء
يملكونه هو عدلهم فيما بينهم، والقاعدة المتعارف عليها تنص على أن الله عز وجل
يديل بدولة العدل حتى وإن كانت كافرة فسبحان الله، فعندما هزم الإنجليز في الحرب
العالمية، سأل تشرشل عن واقع بلاده إنجلترا، فأخبر أن الإقتصاد فيها منهار، وأن
الصحة متدهورة، إلا أن العدل فيها بخير، فقال واثقا مزهوا إذن سننتصر، وقد كان،
فأين عدلكم أنتم أيها المسلمون؟!، الذين جاءتكم من ربكم عز وجل عن طريق رسوله
الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، تعاليم نورانية إذا التزمتم بها لسدتم الدنيا
والعالم كما كان شأن أجدادكم، ولكن غيركم التزم بها فرقى وساد على كفره، وأنتم تركتموها
فتخلفتم واستضعفتم على إسلامكم!.
ومن
الأدلة على ذلك المثل السائد في المجتمع السوداني، المشهور أفراده بعدم الإلتزام
بالوقت وياللمصيبة، إذا ما واعد أحدهم الآخر، فإنه يؤكد عليه أن تكون مواعيده
منضبطة كمواعيد الإنجليز، ويستشهد بهم في ذلك، ويجحد نعمة الله عز وجل عليه، الذي
هداه للإسلام، والذي يعد الإلتزام بالوقت فيه من أهم الأسس، قال تعالى: "وأوفوا
بالعهد إن العهد كان مسؤولا"، وهو يصلي صلاة تنظم له وقته الثمين، قال تعالى:
"إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا"، فأصبحت مواعيد عرقوب له
مثلا كما قال الشاعر المتقدم زهير بن أبي سلمى، وما مواعيده إلا الأباطيل فوا
حسرتاه!.
كانت مواعيد عرقوب لها
مثلا وما مواعيده
إلا الأباطيلُ
وما
هذه المصائب التي تتوالى على أمة الإسلام الواحدة تلو الأخرى، إلا لابتعاد
المسلمين عن حقيقة دينهم، وواقعه المتميز الذي يسعى لرقي الإنسان وتمدنه أكثر من
أية فئة تزعم ذلك، فلا أمم متحدة لديها ما لدى أمة الإسلام، ولا إتحاد أوربي يملك
ما تملك، ولا ولايات متحدة أمريكية تستطيع أن تلحق بركبها الميمون، ولكنها خطيئة
الحسد، ومعصية التكبر، وآفة التجبر.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق