هل حقاً سَقَطَتْ؟
تناهت إلى سمعي أصوات طبولٍ إفريقية مختلطة بزغرودة أمي ، إقتربت الشمسُ مني كثيراً واشتد نورها ، هبت على وجهي رائحة الطين أتت بها نسماتُ منعشةٌ كأنها مرت على نيلٍ جديد.
في مدينةٍ صدئت أرواح أهلها ، ظللتُ شغوفاً بالحياة حتى اعتقال أخي القاسم، إقتادوه حافياً منكسراً قبل سنواتٍ لا أعرف كيف أحصيها، أذكره، عيناه ممتلئتان بمرارةٍ ناطقة، سقط، جذبوه من ياقته لينهض، ضربوه، خارت قواه، إرتفع بصرُه إلى أمي النائحة، رمى على وجهها ابتسامة في محاولة لإطفاء جزعها العارم ، أدخلوه السيارة الداكنة وغادروا ، أتت النساءُ من كل حدبٍ وصوب يشاطرن أمي وجعها ، صدتهن، مسحت دموعها، أفرغت ما تبقى في مطبخها من طحينٍ في وعاءٍ معدني، أضافت إليه الملح والخميرة والماء، عجنته بكلتي يديها ، غطته ، لا وقت للحزن، أطفالها يتامى ولا قاسمٌ يأتي لهم بقوتهم بعد اليوم ، منذ ذلك الوجع وأمي تبيع الشاي واللقيمات بالقرب من مدرستنا وتؤجل البكاء ، وجهها شاحب وعيناها الغائمتان تحقنان الأسى في صباحاتي .
نشأتُ على تلك الذكرى لأجدني قاسماً آخر، ثم اكتشفتُ أن كل شباب مدينتنا مثلى ، نتداول الألفاظ التي ستقتلنا يوماً ما أو ستحيينا على حد تعبير أمي ( التضخم الساحق، البطالة الواسعة، الحرية السليبة، العنصرية المقيتة، النضال، الثورة، تسقط بس)
خرجنا إلى الشارع ، كان الحشدُ يتسع ويتنوع ، نساء بثيابٍ مجعدة تدل على خروجهن الطارئ من بيوتهن، عجائز بشعرٍ قطني، عم خضر الحمّال بزنده العاري وجبينه المعروق، عبد الله ( الجزمجي) بجلده الكالح ، دكتور أرباب بقميصه الناصع وبنطاله المكوي بإتقان ، أطفال يحتضنون أحلامهم ويركضون ، لا يعلمون أن الأحلام تحتاج إلى كثيرٍ من الصبر والمقاومة لتتحقق.
كانت الخطوات مضطربة والهتافات مرتعشة في أول الأمر ثم قفزت الحناجر فوق سياج القمع وانطلقت الأقدام الحبيسة لتدق الأرض في عزم ، الحماس يتكاثف كدخان، يبعث الصحو في الغضب الغافي والوطن غيمةٌ حبلى تنشدُ الخلاص .
كان صوتُنا شديد السطوع ، هادرٌ كرعدٍ ظل مخنوقاً لثلاثين قحط، فجأة هطل الرصاص، وامتلأ الهواء بالغاز المسيل للحياة ، شعرتُ بنارٍ اخترقت صدري، وانطلق وردي يغني من قبره:
( يا شعباً لهبك ثوريتك
تلقى مرادك والفي نيتك )
أطل وجه القاسم من خلف القضبان ودموعه تطفر من شدة الفرح.
هل حقاً سَقَطَتْ؟
إذن، قولوا لأمي أن تتقبل العزاء، وقولوا لدمي الذي ظلّ معلقاً بين السماء والأرض أن يمتزج بتراب الوطن الغالي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق