الفنانة: "مروة الطيب" مع إحدى لوحاتها التشكيلية
من المعلوم جدا أن
للفن بكافة ضروبه وأنواعه أهمية خاصة في تشكيل الحياة الإنسانية بأبعادها المطلقة
والشاملة، وفي تزيين أنماطها المختلفة برؤاه الجمالية والإبداعية، من حيث اعتماده اعتمادا
كليا على الإيحاءات الفلسفية النابضة فيه وبقوة، من أجل ترقية الذوق الإنساني
بشقيه العام والخاص، إذ أن الفن مرتبط إرتباطا وثيقا بجوانب هذه الحياة في شتى
المجالات والجوانب، وفي مختلف التفاصيل والحيثيات، وكذلك في الأنشطة والفعاليات
المرتبطة بها والمرافقة لها دون إفراط أو تفريط.
من أعمال الفنانة "مروة الطيب"
وعلى المتأمل لأي عمل فني وبالأخص فن الرسم والتشكيل والمشغولات اليدوية، أن يمهر تأمله لهذا العمل بنظرة خالصة جدا، ويغرقه بتمعن فاحص إلى أقصى حد، وإلى أبعد درجة، من حيث تحري الإنصاف النقدي والدقة التحليلية الثاقبة فيه، إذ ينبغي على الناقد الحاذق تحري كل ذلك في محاولاته لاستشعار الرؤى الجمالية في العمل الفني الذي هو بصدد نقده سلبا أو إيجابا، ولا يجدر به تأمله لأجل التأمل فقط، أو النظر إليه بعين البصر دون إعمال عين البصيرة، فإن الجمال ومنذ عهد سحيق علم قائم بذاته، وصناعة احترافية لا يتقنها إلا ذوو الحظوظ العظيمة من البشر المختارين، والأناسي المصطفين، الذين امتلكوا خصائص متشحة بالفرادة والتميز، والذين يجاهدون ليل نهار في تطويع عزلتهم الإجتماعية المفروضة عليهم بدرجات متفاوتة، من خلال النظرة المتشعبة والغير حيادية في المجتمع المضاد في كثير من مكوناته للفن والفنانين، ومن المثير حقا أن المجتمع الإنساني في أحايين شتى، لا يثبت اعترافه بالفنان إلا بالقدر الذي يعانيه من واقع عزلته الإجتماعية عنه وعن فعالياته، مهما ارتقى بتأثيره الصادق في الجوانب السياسية أو التاريخية أو حتى الدينية والشعائرية لهذا المجتمع.
(2)
(3)
ومن المعروف أيضا أن علم التأريخ يعتبر الفن معيارا من أهم المعايير الأساسية التي يعتمد عليها
في تقييم التجارب الحضارية للأمم والشعوب والمجتمعات، بغض النظر عن تواضعها أو
عظمتها، فهو معيار مؤثر فيها، وحاك لتاريخها وأمجادها المؤثلة بشكل مباشر ومتواتر،
أو بشكل غير مباشر، من خلال بث الروح الجمالية بين الأفراد المشكلين لهذه التجارب
الحضارية، والمنضوين تحت رايتها ولوائها المعقود، فإن الإنسان الذي تحكمه قوانين
الجمال والفن، يختلف اختلافا تاما عن الإنسان الذي تحركه معاني القبح والشر،
والتفاصيل المقيتة للحروب والأزمات المفتعلة حقدا وضغينة وانتقاما، ونحن في
المجتمع السوداني لسنا بدعا من المجتمعات الإنسانية ككل، أو نشازا من البشر، وعليه
فإن هذه النظرة المتجردة والواقعية تحكمنا شئنا ذلك أم أبينا، وتؤثر في نظرتنا للأمور
وفي طبيعة حكمنا عليها، لذلك نجد أن للفن والفنانين حيزهم المقدر في واقعنا
الحياتي كسودانيين، والذي حرصت جهات عديدة فيه شعبية كانت أو رسمية على تنزيله
والإهتمام به، والإعتراف بتأثيره الحقيقي والفعال في تشكيل حاضر السودان الآني، وفي
صناعة مستقبله المشرق بإذن الله تعالى، اعتمادا على الإرث التاريخي الباذخ الذي
خلفه الآباء والأجداد السودانيون لأحفادهم المعاصرين منذ العصور التاريخية
السحيقة، وإلى الأمس القريب، وقد قام أولئك وهؤلاء جميعا بتخليد كل هذا الإرث
الباذخ من خلال فن نادر ومتميز آمنوا به وائتمنوا عليه، يذكر أن هذا الفن الخالد
قد أصبح فيما بعد مصدر إلهام وإيحاء وقوة للكثير من شعوب العالم حولنا، بل تعدى
الأمر إلى أكثر من ذلك، إذ نجد أن بعضا من المقيتين قد تجرأ على سرقته وانتحال
ملكيته في أكثر من مناسبة.
وقد أثبت الكثير
من رواد الفن السودانيين في العصر الحديث، مكانتهم المستحقة في خارطة الفن
العالمي، وأظهروا بمجهوداتهم الإبداعية الرائقة والراقية المكانة المتفردة للشعب
السوداني العظيم بين شعوب العالم، إرثا وسؤددا وتاريخا، ووضعوا بصمتهم المتميزة في
التراث الإنساني والعالمي، ولم يبخلوا بما أنعم الله عز وجل عليهم من نعمة علم
الجمال وصناعته، فنقلوا خبراتهم للأجيال الجديدة من أبناء الوطن الواعدين وبناته
الواعدات.
صورة أخرى للفنانة مع إحدى لوحاتها التشكيلية
ومن هؤلاء فنانة
صاعدة في ريعان الشباب، وفي عنفوان روحه المتجدد، تهتم كثيرا بتأصيل شغفها الفني،
وإعطائه الصبغة التراثية المحلية الأصيلة، وهذا الشغف ينبع في المقام الأول عن
أصالتها الإجتماعية، وعن تنشئتها الرقراقة بظلال التمسك القوي بالإرث الديني
والتاريخي لمجتمع متداخل الرؤى والثقافات والإحتياجات، إنها الفنانة السودانية
الشابة والمقتدرة: "مروة عبد الله محمد الطيب".
تنتمي الفنانة:
"مروة الطيب" إلى أسرة نبيلة ذات سطوة دينية واجتماعية كبيرة في ولاية
نهر النيل السودانية، وذات ثقل روحي وتاريخي مشهود له محليا وإقليميا، مما يمنحها
قاعدة قوية جدا لتأسيس عنفوانها الإبداعي، وفعاليتها الجمالية، كما يذلل أمامها عقبات
الأطياف الإجتماعية المعقدة والمثيرة للجدل في السودان، كجدلية الإنتماء العرقي
والهوية الثقافية متجاذبتي الأنماط والأنساق، وفي مجتمع عملاق كالمجتمع السوداني
الذي عانى وما زال يعاني من ويلات هذه العقبات ينبغي الموائمة بذكاء مفرط وانسجام
تام، بين جميع الألوان الطيفية، والتراكيب العرقية والثقافية المكونة له بشكل رئيس
بغية الخروج بسلامة واقتدار من آثارها الهدامة والسالبة.
ولذلك فقد ارتأت فنانتنا
اختزال هذه الجدلية المنصهرة في بوتقة دواخلها الشفافة، بشكل مشع يظهر انعكاسات
رؤيتها الإبداعية في أعمالها الفنية الناطقة بحس رفيع وفن معبر، يبرز تمسكها
بالإنتماء الإسلامي والعربي، ولا يهمل أصداء الحضارات السودانية القديمة المترددة بقوة
في خلاياها الدموية، وفي دورة الحياة في عروقها النابضة.
"مروة الطيب"
فنانة سودانية شابة من مواليد مدينة طرابلس الليبية حيث انتقلت أسرتها للإقامة
هناك تبعا لظروف عمل والدها، وهي خريجة حديثة من كلية التصميم الداخلي بجامعة
أمدرمان الأهلية في السودان، مما يعني أن تجربتها الفنية تحتاج إلى المزيد من
الخبرة العملية والتطبيقية، ولكن واقع أعمالها الفنية يخبرنا بأنها تجاوزت بونا
شاسعا مما يلزم غيرها في مثل هذه الحالات، وقد ذكرت في حوار معها أنها لا تتبنى
مدرسة فنية بعينها، كما لم تعلن عن تأثرها بشخص أو تيار معينين في نفس تخصصها
الإبداعي.
وتعد دراستها للتصميم الداخلي
تتويجا لملكتها الفنية، وموهبتها الإبداعية بتاج من الإحترافية المبهرة، ومزودة
لها بالأدوات التي قد لا يكفي توفرها عن طريق الهواية وحدها، ومن الجدير بالذكر أن علم التصميم الداخلي علم
سام ورفيع، يمنح الفنان مساحات مقدرة، وحرية مغرية، لممارسة رؤيته الإبداعية، فهو يمثل
مجموع التخطيط والتصميم للفراغات الداخلية للمساكن والبيوت والتجمعات البشرية، والتي
تهدف إلى تسخير الإحتياجات المادية والروحية والإجتماعية للناس، والتي بدورها تضمن سلامة
المباني والمنشآت ولا تشكل خطرا على حياة ساكنيها، ويتكون علم التصميم الداخلي من جوانب
تقنية وتخطيطية عديدة، كما يهتم بالنواحي الجمالية والفنية كذلك، والأهم من كل ما تم
ذكره آنفا هو ارتباطه بالروح والملكة الإبداعية لمن يحترفه، وهو ما تمتلك ناصيته
فنانتنا الواعدة جدا بجدارة تامة.
من مشروع تخرج الفنانة بكلية التصميم الداخلي (1)
من مشروع تخرج الفنانة بكلية التصميم الداخلي (2)
ذكرت فنانتنا في صدر
تقديمها لمعرضها الفني الأول والذي استمر لمدة ثلاث أمسيات متتالية ابتداء من
الخميس 18 سبتمبر من العام الحالي ما نصه:
"أول تصاميمي كان
حقيبة مدرسية من الخيش، ثم معرضا للإكسسوارات وحقائبا من السعف، شغفي بالتصميم الفني وفكرة
إحياء المشغولات اليدوية ذات الطابع السوداني ألهمني مجموعتي الفنية "ريده"
وهي مجموعة من الإكسسوارات والمشغولات المنزلية وقطع الأثاث والأزياء، قمت بتصميم كل قطعة منها
لتكون فريدة ومميزة تعبر بقوة عن دلالاتها السودانية، وتكون سفيرة فنية بجودة
عالية للثقافة المحلية، الآن وفي أول معرض لي أقدم جزءا من هذه المجموعة،
اللوحات التشكيلية والإكسسوارات، شاركوني معرضي القادم: إنعكاس دواخل".
إعلان معرض الفنانة الأول: "إنعكاس دواخل"
اعتمدت "مروة الطيب" في أعمال معرضها الفني الأول والذي اختارت
له اسم: "إنعكاس دواخل"، على استنطاق التراث السوداني الخالص، واستدعاء
إيحاءاته الفنية المرموقة، متمثلا في مجموعة من اللوحات الفنية التشكيلية ذات
الزخم اللوني المتراكم، وذات التداخل التشكيلي الفريد فيما بينها ضمن نسق تكراري
محبب، يعبر عن ذاكرتها الفنية المختزنة، والمليئة برموز المحيط السوداني المفعم بأبجديات
الحياة ذات الإيقاعات المتجددة، والمليئة بالحرية والتفاؤل والإلهام، ومتمثلا أيضا
في مجموعة من تصاميم مستلزمات الزينة النسائية أو الإكسسورات ضمن منظومة مشروع فني
رائد أطلقت عليه اسم: "ريده"، و"الريده" بالعامية السودانية
تعني أقصى درجات العشق والكلف والهيام، مما يعني أن فنانتنا ذات ذائقة عالية جدا
تتجلى بوضوح تام من خلال اختياراتها لعنوان معرضها الأول، وكذلك لعناوين أعمالها
ومشاريعها الفنية الرائدة.
(1)
(2)
(3)
(4)
(5)
(6)
(7)
(8)
(9)
(10)
(11)
وفي لوحاتها مزج أنيق بين الإنطباعية والتجريدية والواقعية، محاط بإطار رمزي يتحدث
عن ثيمة البراءة في المجتمع السوداني، والذي تهدده أخطار الحياة المادية البغيضة، وصخب
أصواتها المزعج، إلا أن أصالة هذا المجتمع تعد خط دفاع قوي لحماية هذه الثيمة
المطلوبة والمقدرة، والفن وصناعة الجمال ما هو إلا جيشها الحامي، وحصنها المنيع.
الفنانة في تنفيذ إحدى جدارياتها الفنية
"مروة الطيب" لم تنس في يوم من
الأيام ترويض إنسانيتها الوافرة كدأب الفنانين الحقيقيين من أمثالها، فهي دائمة
التأمل للطبيعة من حولها، وكثيرة التأثر بجمالها الأخاذ، ومن أكثر ما يلهمها في
أعمالها الفنية، ملمح البحر الرصين، والشطآن الوقورة المتاخمة له، فهي بحكم
مواطنتها في حاضرة ولاية البحر الأحمر شرقي السودان، كثيرة التزوار للبحر في مدينة
بورتسودان، وعاشقة مستمرة لمنظر الغروب فيه، ولمشهد رحيل السفن المليء بالشجو
والأسى جراء الفراق وأحزان الغربة، كما أن لرسو هذه السفن الآمن في المرافئ دلالته
القوية لديها، فهو محمل دائما ببشريات العودة إلى الأوطان، ويرمز إلى ذبح شبح الغربة
وماردها البغيض في حضن الأهل والديار، وبهذا فقد امتزج النيل العذب الفرات، والبحر
الأحمر الملح الأجاج في خاطرها ووجدانها، فهي ترفل الآن في برزخ الجمال جراءهما،
وهما بحران لا يبغيان.
قالت: "إن البحر حياة، وإن العمل الطوعي إنسانية وفرض"، ويعتبر
هذا الأخير أحد الأعمدة الداعمة لشخصيتها الفنية، إذ أن الفنان الحقيقي كائن شفاف
مفرط الحساسية تجاه معاناة الآخرين، وعندما يعجز عن مواساتهم بشكل فعلي، فإنه يعوض
هذا العجز بعمل فني راق يحمل روحه الحساسة المنفوخة بين جنبيه، لينشرها عطرا
وجمالا وعذوبة وإدهاشا.