الجمعة، 26 سبتمبر 2014

قراءات سودانية - بقلم: د. مجدي الحاج - المقالة رقم: 14 محاولة لتحليل شخصية بطل السُّودان القومي: "محمد أحمد المهدي"

لا يستطيع أحد منصف أن ينكر أن الثورة المهدوية بغض النظر عن بعض دقائقها وتفاصيلها، هي حادثة الأحداث في القطر السوداني في النصف الثاني من القرن الثامن عشر، بل في منطقة القرن الأفريقي والقارة السمراء عموما، وفي العالم الإسلامي خصوصا، فهي بالتالي حادثة لا يمكن تجاوزها أو إهمالها، والتي لا يزال صداها يتردد في آذاننا وإلى هذه الأيام، فقد تمكنت بقيادة زعيمها ومؤسسها محمد أحمد المهدي رحمه الله عز وجل أن تهزم جيشا يقوده الأوربيون من الصليبين والكفار، ويمتلك أحدث الأسلحة بمعايير ذلك الزمان، وتقيم بقوة إيمانها حكما وطنيا أصيلا مستقلا، وتعلن قيام الدولة السودانية المستقلة كولاية  إسلامية، وليس هذا كلام أعضاء حزب التحرير بل كلامنا نحن ولا نفتئت على أحد، الأمر الذي لم يسبق له مثيل في التاريخ الحديث.

وقد عدها بعض النقاد السياسيين والمحللين الإستراتيجيين حركة تعصبية متطرفة كانت نتيجة منطقية لحالتي البؤس واليأس اللتين ولدهما الحكم الجائر لدولة الخلافة العثمانية في تلك الفترة، فقد اعتبرت غاصبة ومستعبدة للشعوب الإسلامية في كثير من الأقطار، وقد تزايد الشعور لدى عامة المسلمين وخصوصا في السودان بأنها جاءت على صهوات الخيول لا لتصلح من شأنهم بالدرجة الأولى، وإن كانت لها بعض الإصلاحات التي لا تكاد تذكر في مقابل ما يدفع من جبايات وضرائب وأتاوات أذاقت الناس الأمرين، وبالتالي فقد استطاع الإنجليز لخيانة الخبثاء من أمراء الدولة العثمانية، إيجاد موطئ للقدم في أرض الإسلام من ذلك الوقت ولهذه الحقبة، حتى أصبحت دولة الخلافة الإسلامية تعرف بمصطلح رجل أوروبا المريض، والذي لم يطلب الشفاء من واهب الشفاء كما كان يفترض به أن يفعل، ولكنه طلبها من بعد التغرير به ممن كان السبب الرئيسي لدائه وعلته، فكانت عاقبته وعاقبتنا أجمعين هذا الهوان الظاهري الذي ما يزال يحاول أن يأكل الأخضر واليابس من حولنا ولكن هيهات.

وعليه فقد كانت مشاعر أهل السودان تشرئب متطلعة إلى ظهور قائد ملهم يمكن أن يخلصهم من عبودية الغاصبين، ويحملهم معه على جناح مغامرة مقدسة يكون مؤداها إحدى الطريقين الحسنيين النصر أو الشهادة التي تقود إلى دار الخلود، وبالفعل فقد ظهر هذا القائد الملهم الذي استطاع أن يجمع الشمل ويوحد الكلمة، ويجبر الروح المنكسرة، وكشأن كل العظماء فهم يظهرون حيث لا يتوقع ظهورهم في بيئة خاملة الذكر ترزح تحت نير الإنسحاق والعذابات، ولكن مثلما جاء النبي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم من سلالة مشرفة جعل الله عز وجل فيها الملك والحكمة إلى يوم الدين، وكما يزعم أهل الكتاب أن القدوة المقدسة قد انبثقت من نسل داوود عليه السلام، فقد جاء محمد أحمد المهدي مؤكدا أنه من نسل الأشراف، والذي لم يقابل تأكيده هذا بالرفض لأنه لا دليل يمكن أن يثبت عكس ذلك، ولنا أن نصدقه فالأدلة واضحة ومتقبلة.

 كان والد محمد أحمد المهدي شيخ دين متواضع جدا حيث ولد في مكان لا يبعد كثيرا عن مدينة دنقلا شمالي السودان البوابة الأهم لدخول النور الإسلامي أيام الفتوحات الإسلامية في عهد الخليفة الراشد عمر الفاروق، ومع ذلك فقد جاهد ليوفر لابنه قدرا من التعليم الديني ومبادئ القرآن الكريم وفن الكتابة العربية، ثم مات في كرري أثناء رحلة معتادة تاركا مهدي السودان وأيقونة مستقبله القادم وهو طفل تحت رحمة هذا العالم القاسي والمتوحش، لكن من الثابت أن الأشجار المتوحدة إن نمت أصلا فإنها تنمو قوية وصلبة العود وقد كان، فإن صبيا يتيما حرم من رعاية أب يعنى به عادة، إن أفلت من مهالك الشباب وعقباته الكؤودة، فقمين أن يكون له شأن عظيم تسير بذكره الركبان وتتحدث به الأجيال إن كانت يد الرحمة الإلهية قد اختارته من قبل، فقد عاش هذا الشاب الموعود في دعة وهناءة كأغلب المتدينين في بلاده مشغولا بالتحصيل العلمي الذي برز فيه، ومتغاضيا عن أطماع الحاضر لأجل العالم الآخر، وأصبح مريدا وتلميذا مخلصا للشيخ محمد شريف الذي تتلمذ على يديه بحب وحماس ظاهرين، وكان له نتيجة لتفانيه في التحصيل والعبادة وزهده النادر وسبقه في طاعة الله وخدمته، أثر كبير في نفوس الذين حوله، فقد كان صائما جُلَّ الوقت لا يكلف أخويه القائمين على أمره من بلغة طلب العلم إلا القليل المُحتقر، وقد كانا ميسورا الحال يعملان في صناعة المراكب على النيل الأبيض الذي اتخذ من كهف بالقرب منه محرابا للتعبد والتقرب من الله عز وجل، لا يظهر إلا بعد فترة حتى يؤدي فروض الطاعة والولاء لشيخه وأستاذه معترفا بفضله، وبالتالي فقد زادت قداسته وهيبته في النفوس، وزادت الصدقات والزكوات من المسافرين على النهر بالإضافة إلى عائد أعمال أخويه، وقد اكتسب مجموعة من المريدين والحواريين أخذهم معه إلى الجزيرة أبا.

وبينما هو في حياته الطاهرة المتقشفة هذه، إذ بحادثة غير متوقعة تظهر كالقدر الهادر المشؤوم لتعكر من  صفوها، إلا أنها كانت بداية لميلاد البطل وانطلاقا لمهرجان العزة و الشموخ، فقد أقام الشيخ محمد شريف المعروف بقداسته الساذجة لدى بعض من أتباعه الجهلاء كما ذكر بعض الرواة، وليمة كبيرة احتفالا بمناسبة ختان أبنائه، والأمر هنا طبيعي للغاية، لكن من المستغرب جدا أن يصلنا عن طريق ذات الرواة أن ذات الشيخ الذي تتلمذ على يديه محمد أحمد المهدي، وفقط لأجل زيادة الفرحة في مثل هذه المناسبات، ومبالغة في إكرام ضيوفه - والله أعلم بما حدث - قد أصدر فتوى شرعية تمشيا مع عرف التساهل السائد من مثل هؤلاء الشيوخ غفر الله لنا ولهم كما ذكر بعض الرواة، مفادها أن كل الذنوب والمخالفات التي ترتكب أثناء الإحتفال مغفورة، وأعلن باسم الله عز وجل كما يروى وقف أي قوانين تمنع الغناء والرقص كما تنص القواعد الشرعية، مما أثار حفيظة تلميذه المهدي الذي اعتبر ناسكا في الجزيرة أبا، فهو وإن لم يشارك في تلك الأفعال الداعرة التي تبدو بريئة باسم الدين وهو منها براء، وهو ما يحدث كثيرا في زماننا هذا في مناسبات عديدة يحمل بعضها الطابع الديني، فقد أحس المهدي أن الشيطان يمكن أن يغرر بشيخه الغير معصوم كما يمكنه أن يغرر به تماما، وهو ما حصل لاحقا، فهو قد يريه الباطل في صورة الحق ويزين له السوء من العمل، ويأخذه بالتفريط كما يأخذ غيره  بالإفراط في أمور الدين، فأعلن بما فتح الله عز وجل عليه أن هذه الأفعال ضد كل الفضائل الدينية، وأعلن في تأكيد موفق للعقيدة، أن الله وحده هو غفار الذنوب، مما أغضب منه الشيخ المشهور بعد أن أخذته العزة بالإثم، وبعد أن تمكن منه السخط المصاحب عادة لاكتشاف أو تقرير ارتكاب الخطأ، أمر تلميذه الذي صدع بكلمة الحق دون أن يخشى في الله لومة لائم بالمثول أمامه لا للإستيضاح أو الإعذار، ولكن للتأنيب والتقريع لأجل خير ظنه لجهله شرا، فما كان من محمد أحمد المهدي الذي يكن كل الحب والتقدير المنبثقين من الشفقة المستبصرة لشيخه وأستاذه، محاولا قدر الإمكان أن يرأب الصدع غير المتوقع بينه وبين شيخه ولكن دون جدوى، فقد تمادى الأخير كثيرا واعتبر تلميذه الشفوق خارجا عن النظام بين الحواريين الذين طالما يطلب منهم أن يكونوا صما وبكما وعميا مقابل قرارات شيخهم المقدس الذي لا يسمح بمعصيته، لأنها معصية للقانون، فنهض الشيخ المفتون وعيونه تقدح بشرر من الغضب والسخط، وطرد تلميذه من مجلسه، ناعتا إياه بكلمات مريرة تقشعر منها الأبدان وتنخلع لها القلوب، ومعلنا شطب اسمه من سجلات المختارين والمصطفين، مما أصاب المهدي بكثير من الإحباط المنهك والمدمر، لكن شمائله الباهرة لم تنهد وتسقط أركانها بعد، فلا تزال لشيخه قداسة في نفسه يصعب تجاهلها إلا إذا أراد هو نفسه حدوث ذلك وقد كان، فهي ولآخر لحظة ذات قيمة عالية في نفسه الوفية، وهي رصيد لا يمكن انتزاعه من حسابات تاريخه المشرق، وأحسبه يهمهم في قرارة نفسه بأبيات لأبي الطيب أحمد بن الحسين المتنبي يذكر فيها عظيم وده وصادق محبته لفارس العرب وصنهاجتهم سيف الدولة الحمداني، الذي كان هو المختار لفراق أبي الطيب كما حصل مع المهدي وشيخه، والتي جاء فيها:

حببتك قلبي قبل حبك من نأى          وقد كان غدَّارا فكن لي وافيا
وأعلم أن البين يشكيك  بعده          فلست فؤادي إن رأيتك شاكيا
فإن دموع  العين غدر  بربها          إذا كن إثر الظاعنين جواريا

لكن المهدي لم يستسلم بعد، فهو لا يريد أن يتيح للشيطان فرصة للنزغ بينه وبين شيخه وأستاذه، قال تعالى: "وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم إن الشيطان كان للإنسان عدوا مبينا"، فأعاد الكرة مرة ومرتين وثلاث مرات بولاء فريد، ولكن الشيخ العنيد كان يجدد سبابه في كل مرة، متعريا عن كل فضيلة وتسامح، عندها قرر المهدي أن يعلن لحوارييه ومريديه انتهاء العلاقة بينه وبين الشيخ، وأنه سوف يتجه بولائه لشيخ آخر هو الشيخ القرشي بالقرب من قرية المسلمية في ولاية الجزيرة حاليا، فجاءه الرد بالترحيب فعزم على الرحيل، وهنا شعر الشيخ محمد شريف أنه من غير اللائق أن يفقد أحد تلاميذه النجباء لشيخ آخر منافس، فكتب للمهدي يقبل اعتذاره ولكن الوقت كان قد مضى، لأنه لم يرتكب جرما يستحق تعنت الشيخ معه بهذه الصورة المؤلمة، فكان قرار الرحيل نهائيا كمن يستشهد بمقولة الشنفرى أحد غربان العرب السبعة  في لاميته لامية العرب المشهورة:

أقيموا   بني   أمي   صدور   مطيكم          إني   إلى   قوم    سواكم     لأميل
وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى          وفيها   لمن  خاف   القلى   متعزل

انتشرت هذه الحادثة بين الناس ووصلت أخبارها إلى أنحاء البلاد كلها، إذ أنه كان من النادر جدا أن يشق فتى مثل المهدي عصا الطاعة على شيخه، ففسر الناس هذه الحادثة تفسيرا يليق بها، لأنها كانت دفاعا عن العقيدة والإيمان، ضد ما يمكن أن يعكر صفوهما الخالد وحتى وإن كان من شيخ في مقام الشيخ محمد شريف، فبدأت أنظار الناس ومشاعرهم تتجه نحوه لعله يكون المنقذ المرتجى لفك أسر رقاب القبائل السودانية من استعباد الأتراك العثمانيين اللذين طغوا وتجبروا في الأرض بغير وجه حق، وعندها قرر المهدي العودة إلى الجزيرة أبا حيث بدايته ومصدر قوته، لأن الوقت قد حان كما اقتضت الأحداث فيما بعد، فجاءها على قدر بعد أن شهدت تجربته القاسية مع الشيخ محمد شريف، وأتى الناس من كل فج عميق مهنئين ومباركين وقد أحضروا معهم الهدايا والهبات والصدقات والزكوات التي كان المهدي يوزعها بإنصاف بين المستحقين من الناس، إذ كان زاهدا في الدنيا، وكان كل همه هو أن يعود الناس إلى جادة الحق أولا ثم توحدهم وتضافرهم لمحاربة الظلم التركي ثانيا، فبدأ بكردفان لتكون أولى محطاته لنشر الدعوة والتبشير بها بعد النيل الأبيض، ولله در الشاعر الدكتور يوسف القرضاوي حين ذكر المهدي في مطولته الرائعة المعروفة بالمسلمون قادمون:

المسلمون قادمون...
من جنوب النيل من سوداننا الحر الأبي...
محطم الأصنام، لا يعنو لطاغوت أو لأجنبي...
ومنبت المهدي، أنعم بالنبات الطيب...
مفتاح أفريقيا وهاديها إلى دين النبي...
وهو القناة المرتجاة بينها وبين العرب...

ومن ناحية أخرى يرى البعض أن سبب العداء الحقيقي بين المهدي وشيخه محمد شريف هو بروز بعض الآراء الشاذة للمهدي والتي لم تكن تتماشى مع النظرة الفقهية للشيخ محمد شريف، فبدأ الشيخ محمد شريف في الدس للمهدي خوفا من أن يفسد المهدي عقول بعض الطلاب لديه ممن وجد ميولا لآراء المهدي.

كان المهدي ضخم الجثة قوي البنية يأسرك بطلعته كما وصفه سلاطين باشا في كتابه الحانق جدا على الثورة المهدوية "السيف والنار"، وهو قس نمساوي أسرته الثورة المهدوية التحررية التي بدأت شرارتها في عام 1881م بعد أن بلغ سيل البؤس والغضب من تصرفات السلطة العثمانية الزبى، حيث شكل المهدي روح الثورة وحماسها الديني الدافق، فبدأ على هذا الأساس في جلب المؤيدين وزاد نفوذه في أنحاء البلاد المختلفة، وكرر رحلته إلى كردفان التي زارها من قبل طلبا للنصرة ووجد تجاوبا واستعدادا منقطع النظير للبيعة والمساندة بالروح والسلاح، ولم تعد دعوته دعوة سرية بعد أن كان حريصا على تقوية عودها دون أن يعلم الطغاة بذلك، هنا التقط العدو القديم الشيخ محمد شريف كما ذكر أخبار الدعوة الثوروية وأخطر الحكومة العثمانية في مقرها في الخرطوم بالتآمر ضدها، لكن هذه الأخيرة فسرت الموقف بأنه مكايدة بين شيخ وتلميذه المتمرد، نتيجة للخلافات القديمة التي كانت بينهما، إلا أن الأخبار عادت بصورة أكثر وضوحا وقد تأكدت من جهات أخرى محايدة لرؤوف باشا في الخرطوم، الذي ارتأى أن من واجبه أن يتحرك، فأرسل مندوبا على وجه السرعة لكي يحضر محمد أحمد المهدي للمسائلة والإفصاح عن نواياه، وبعد تفكير عميق تدخل فيه الشيطان الرجيم والعياذ بالله، أملى على المهدي فيه ما أملاه، كيف لا وهو يلقي في أماني الأنبياء المعصومين ما يلقي، قال تعالى مخاطبا نبيه الكريم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم في محكم تنزيله:  "وما أرسلنا قبلك من رسول ولا نبي إلا إذا تمنى ألقى الشيطان في أمنيته فينسخ الله ما يلقي الشيطان ثم يحكم الله آياته والله عليم حكيم O ليجعل ما يلقي الشيطان فتنة للذين في قلوبهم مرض والقاسية قلوبهم وإن الظالمين لفي شقاق بعيد" وبكل تأكيد فإن المهدي رحمه الله عز وجل، لم يكن من زمرة هؤلاء المعصومين، إلا أن ما يزعجني ويزعج الكثيرين غيري من متناولي التاريخ (وهو العلم الذي يبحث في الأحداث التي حصلت في الماضي كما عرفه قدماء الإغريق وذلك للإفادة منها) بأبعاده الروحية، هو تمسك المهدي بادعاء المهدوية المنتظرة في آخر الزمان، بل وفي تجنيه إلى حد بعيد حينما زعم أنه لن يموت حتى يحكم الأرض وتدين له كل الشعوب عربيها وعجميها، لكنه رحمه الله عز وجل توفي بعد فتح الخرطوم مباشرة بحمى التيفود وقيل السحائي بعد أن قتل هكس وغوردون وهزم الأجانب، وبالتالي فقد بقيت أقواله ووعوده هباء منثورا طارت به الريح في أفق السراب الممتد، فهو ليس المهدي المنتظر كما أكد والله عز وجل وحده العالم بنواياه الحقيقية، ولم يحقق رسالته المهدوية التي ادعاها أو توهمها، إلا ما كان من شأن الجهاد وحسبك به من رسالة، وقد حققها رحمه الله عز وجل على أكمل وجه وأتمه، وأحسن صورة وأبهاها، فحفظ للأمة السودانية بل والإسلامية كلها مجدها وعنفوانها، بعد أن وعى تماما أن هذا الدين الخالد يحتاج لمن يضحي من أجله بكل شيء كما فعل أنبياء الله عز وجل، فالطريق مملوءة بأشلاء وجماجم من قدموا أنفسهم لهذا الدين ولهذه الأمة ولهذا الوطن الغالي السودان.

وللحيادية المطلوبة ينبغي النظر إلى علاقة محمد أحمد المهدي بشيخه وأستاذه محمد شريف نور الدائم بوجه إنصافي وتعاطفي مع هذا الأخير لأن الدس بالسوء في سيرته هو الظن الأقوى والنصيب الأوفر من ناحية تقييمنا الشخصي، فها هو نعوم شقير المؤرخ اللبناني الشهير يروي لنا أبياتا من شعر الشيخ محمد شريف نفسه في قصيدة اعترض فيها بحزم شديد على ادعاء محمد أحمد المهدي للمهدوية والتي شهد له فيها بصفات عظيمة نادرة، وفي تلك الأبيات أيضا نقد صارم وصريح لسلوك رجال الحكومة والإدارة التركية العثمانية وذلك لثقل الضرائب التي كانت تفرضها على الناس ولفظاعة الأسلوب الذي كانت تؤخذ به من أيدي الناس الأمر الذي جعل الشعب يبغضها ويتمنى زوالها، حيث نجده يقول في بعض هذه الأبيات عن أفعال العثمانيين البغيضة:

وما     أبت     السودان     حكم     حكومة         إلى   أن   أتى   ضعف   المطاليب   من  مصر
بضرب     شديد      ثم      كتف      مؤلم           ومن   بعده    الإلقاء    في   الشمس    والحر
وأوتاد    ذي    الأوتاد   من   بعض   فعلهم            وأشنع   من     ذا    كله      عمل      الهر

حيث تقول جدتي لأمي الحاجة زينب بنت الخليفة الحسن فزع رحمها الله عز وجل شارحة لهذه الأبيات إن الأتراك العثمانيين كانوا يمارسون أشد أنواع التنكيل والتعذيب بالعامة ممن يمتنع عن دفع الضرائب حتى وإن كان فقيرا فكأنهم بذلك يعيدون سيرة فرعون عندما عذب المؤمنين بالله عز وجل، ومن صور التعذيب هذه أن طغمة الترك كانت تجوع الهررة والقطط لأيام وليال ثم تدخلها في سروال الممتنع عن الضريبة وتضربه وتضربها بالسياط فما يكون من الهررة الجائعة والطالبة للنجاة إلا أن تقطع لحم المعذب وتخربشه بأظفارها بل وتأكل من لحمه في أحايين كثيرة حتى من الأعضاء التناسلية وهو مقيد لا يقدر على فعل شيء سوى الصراخ والألم جراء ما يكابده، ومن صور التعذيب الأخرى التعذيب بالخازوق وهو إدخال آلة حادة جدا في قبل المعذب أو فتحة شرجه وتخرج من فيه أو فمه أو أي عضو آخر كيفما اتفق وغيره كثير وقد كانت رحمها الله عز وجل شاهد عيان للظلم العثماني عايشت وعاشرت بعضا ممن نكب في عهدهم.

وبالتالي فإن كنه الإعجاب بمحمد أحمد المهدي وثورته يتمثل في جهاده واتجاهه لقيام المؤسسات السياسية والإقتصادية والإجتماعية على أسس دينية خاضعة للشريعة الإسلامية من منظوره هو بالرغم من دعوته الصريحة إلى تجاوز التراث وإبطال العمل بالمذاهب الأربعة لأنها المسؤولة كما يعتقد عن إقامة السد الحاجز في وجه منبع العرفان حيث شكر الأئمة الأربعة على اجتهاداتهم وقيادتهم للمسلمين إلى أن أوصلوهم إلى زمانه من بعد أن تمادى في أمر ادعاء المهدوية وتقرير قدرته الذاتية على كشف الحجب ومخاطبة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم يقظة لا مناما، إلا أنه وبالرغم من جميع ذلك استطاع أن يحرر العاصمة السودانية في فجر يوم 26 يناير من عام 1885م وكان قد وصل من بعد انتصاراته في أبا وقدير والأبيض وشيكان إلى أبي سعد أو الفتيحاب في 23 أكتوبر من عام 1884م وتوج تلك الإنتصارات الباهرة بالإستيلاء على الخرطوم بعد ثلاثة أشهر فقط من مرابطته في أبي سعد على الشاطئ الغربي للنيل الأبيض ولكن المنايا عاجلته فما انقضت خمسة أشهر فقط حتى التحق بالرفيق الأعلى وفي نفسه طموح إسلامي عظيم كان مؤهلا لتحقيقه تماما إن عدل عن ادعاءاته وافتراءاته المذمومة.

وكان المهدي بذكائه يتخوف من المتعاونين مع الأتراك من السودانيين أكثر من تخوفه من الأتراك أنفسهم وكانت مجموعات كبيرة من قبائل الشايقية ذات الأصل الجعلي المشهور على رأس هذه القائمة، فقد كانت القبيلة السودانية الوحيدة التي ناصبت محمد أحمد المهدي العداء منذ البداية وظلت على ولائها الوثيق للأتراك من بعد أن عفوا وصفحوا عن صفية بنت الملك صبير بعد إلقاء القبض عليها وسبيها وهي تحرض قومها بالمشاركة مع مهيرة بت عبود لقتالهم وأكرموا نزلها فاستمال العثمانيون بذلك قلب ملك هذه القبيلة ومن ثم أتباعه فكان ذلك مدعاة عاطفية لنصرتهم على أبناء جلدتهم هذا غير الإغراءات التي قدموها لهم والوعود التي منوهم بها، فقد روي عن المهدي أنه كان يقول وقد تهدج صوته بالبكاء ضارعا إلى الله عز وجل: "اللهم ياقوي يا عزيز، انصرنا على الترك وأعوانهم من الشايقية والإنجليز"، فاستجاب الله عز وجل لدعائه وكتب له نصرا مبينا، وفي المثل العامي ذو البعد الهدام نسبيا بعد ظهور عقدة الشعوبية التركية ضد العرب قول العامة: "التركي ولا المتورك"، فإنه يقصد به فئة من الشايقية الذين اتبعوا الأتراك ومن حذا حذوهم فالتركي الحقيقي واضح ومعروف ولكن الذي يتتورك أي يتترك أو يصبح تركيا فأمره غريب وعجيب حقا في فهم الناس آنذاك، حتى أصبح السودانيون يفضلون مواجهة التركي الأصيل على مواجهة المتترك، وقد سمعت بأم أذني بعضا من أكراد العراق يذم الكردي الذي يحاول الإستعراب بقول: "لا أقتل الثعبان والعقرب، ولكني أقتل كرديا مستعرب"، وذلك بعد تفشي عقدة الشعوبية النتنة عند بعض الشعوب الإسلامية ومنهم الترك والكرد وغيرهم ولكن الواقع مختلف تماما إذ أن الرابط العقدي هو الطاغي فالأتراك والأكراد هم من أكثر الشعوب الإسلامية الذين داخلوا العرب واختلطوا بهم حتى أنهم داخلوا الشايقية وسواهم في السودان وأصبح لهم دم وصهر معهم فتنتفي الروابط العرقية الضيقة عند ظهور الرابط الواسع والخالد ألا وهو رابط العقيدة والدين.

وقد قام الحكام العثمانيون بتهجير مجموعات لا يستهان بها من الأتراك إلى أرض السودان أيام حكمهم له، وقد استقر معظمهم في مدينة بربر من أعمال ولاية نهر النيل الحالية وفي مدينة أم درمان بالقرب من الخرطوم أيضا، بل وغيرهما، وقد أصبحوا فيما بعد أحد المكونات الأساسية للتركيبة الإجتماعية السودانية ومن عوائلهم المشهورة عائلة الآغا والجزلي والباشا والبنا... إلخ.   

ومن المطلوب جدا وقبل إنهاء هذا الحديث، أن نذكر علاقة المهدي بالرجل الثاني في ملحمة الثورة، فعندما توفي الشيخ القرشي سارع المهدي للذهاب لكي يشرف بنفسه على دفنه وبناء قبة تليق بمقامه الموقر في نفوس أتباعه ومريديه، فكان أن أعطى هذا الأمر كل اهتمامه، وبينما هو مستغرق في هذا العمل وجد مساندة ومعاضدة كبيرة من رجل مشهور من قبيلة التعايشة الفرع البقاري المشهور في إقليم كردفان يعرف بعبد الله التعايشي، كان ابنا لرجل دين لم يورثه أي رؤية تدينية أو رسوخا في الإيمان، وإن كان يبدو رجلا ذا حزم وذا سلطة في قومه المتواضعين، توشح بطموح منغرس في اتجاهين أساسين كما ذكر بعض المحللين، يتمثلان في تحرير السودان من النفوذ الأجنبي وفي حكمه، وقد دارت عجلة الأقدار لتحقق له هذا الطموح بكل ما فيه من جنوح بالنسبة لشخصية في مؤهلاته، وذلك مباشرة بعد وفاة المهدي في 22 يونيو من عام 1885م الموافق للتاسع من شهر رمضان المعظم من عام 1302هـ - وهي من علامات حسن الخاتمة فلعل الله عز وجل قد غفر للمهدي ما قدم وأخر -، فهي البداية الفعلية لعهد ذلك الشعوبي المتفوق الذي ظن لسذاجته الفريدة بل قل ذكاؤه المتصنع الذي خدع به المهدي نفسه أن الزبير باشا رحمة تاجر الرقيق المشهور جدا في تلك الفترة كما يصوره البعض، هو المهدي المنتظر بعد أن هزم هذا الأخير مملكة الفور في إقليم دارفور، والرزيقات في كردفان ودارفور وبحر الغزال فعرض عليه خدماته، ولكنه قد أقنعه بعد عناء ولأي شديدين، بأنه لا يمثل ضالته المنشودة، فها هو الزبير باشا رحمة يحدثنا بنفسه عن هذا التعايشي الطموح فيقول في مذكراته:

"كان الرزيقات - وهم من قبائل إقليم جنوب كردفان وجنوب دارفور - قد استخدموا فقيها من فقهاء التعايشة يقال له عبد الله ود محمد آدم تورشين ليقرأ لهم الأسماء في خلواته - ولا ندري أي أسماء تلك التي كان يقرؤها أهي أسماء الله الحسنى أم أسماء طلسمية وشعوذية فالمعتقد غريب ولا ينم عن أي فقه أو تدين - لعلها تقبض على سلاحي فلا يطلق ناره في ساحة الحرب، وقد تعهدوا له ببقرة من مراح فوقع أسيرا في يدي - فالواقع أنه لم يفد من أسمائه تلك التي كان يقرؤها فظهر خداعه وتدجيله للرزيقات البسطاء - في حلة السروج بين شكا ودارة - أسماء مواضع - فأمرت بقتله، وكان معي إثنا عشرة عالما من علماء الشرع وقد حلفتهم على القرآن الشريف إذا رأوا في أحكامي اعوجاجا عن الشرع أن ينبهوني إليه فلما أمرت بقتله اعترضني العلماء وقالوا إن الشرع لا يسمح لك بقتل أسير الحرب فضلا عن أن السياسة تنكر عليك قتل رجل يعتقد الناس صلاحه لأنك إن قتلته نفرت القبائل منك وعدتك رجلا ظالما مخيفا، فامتنعت عن قتله وليتني لم أمتنع لأنه عاش ليكون من أعظم البلايا على السودان - وذلك بشعوبيته الظاهرة ضد الأشراف وقبائل الشمال السوداني من نحو العرمانيين الجعليين قوم الزبير باشا فلعل الروح الإنتقامية قد تمكنت منه عند اتخاذه للقرارات المغرضة ضدهم فماذا كان نصيب جميع هؤلاء الذين كانوا محلا لثقة محمد أحمد المهدي نفسه واحترامه منذ بداية إنتصاراته في قدير يوم 16 مايو من عام 1881م وحتى وفاته -".

ويقول الزبير باشا في مناسبة أخرى:

"وبعد فتحي دارفور طلب مني ود تورشين أرضا في قبجة غرب الكلكة - أسماء مواضع أيضا - فأعطيته إياها على أن يكف عما كان به من التدجيل فرفض ولكن لم يمض إلا القليل حتى أتاني منه كتاب وأنا في دارة يقول فيه رأيت في الحلم أنك المهدي المنتظر وإني أحد أتباعك فأخبرني إن كنت مهدي الزمان لأتبعك - ولعل يكون كاذبا لحاجة في نفسه أو ملبسا عليه بشياطين الأحلام - فكتبت له في الجواب استقم كما أمرتك أنا لست بالمهدي وإنما أنا جندي من جنود الله أحارب من طغى وتمرد".

وقد استمر التعايشي أو ود تورشين كما يسميه أهله في ممارسة سلطاته بصورة كاملة حتى انهزم جيشه في كرري ورفع الغازي كتشنر علمي الحكم الثنائي البريطاني الإنجليزي والمصري التركي على سراي الخرطوم يوم 4 سبتمبر من عام 1898م ثم لاحقت المطاردة الإستخرابية الخليفة الشعوبي ليدفع ثمن أخطائه الفادحة حتى إقليم جديد عند أم دبيكرات يوم 24 نوفمبر من عام 1899م فمات قتيلا عسى الله عز وجل أن ينيله الشهادة بصدق، حيث تربع على عرش الدولة المهدوية فترة أربعة عشر عاما خضع فيها السودان لإدارته الدينية والسياسية المطلقة.

وعلى كل فإن مفتاح شخصية ود تورشين يؤدي منذ الوهلة الأولى إلى نفسية سهلة ليست على جانب من العمق أو التعقيد إلا أن أهم ما فيها هو تميزها بذكاء نسبي وطموح يتفوق على هذا الذكاء مزدانا بعزم وحسم غير محمودين، فالشيء الواضح يؤكد أن صاحب الذكاء والطموح والعزم والحسم استطاع في البداية أن يقنع قبيلة كاملة وهي قبيلة الرزيقات الضخمة بأن له قدرة على استعمال أسماء الله عز وجل الحسنى - أو غيرها والله أعلم - بصورة حاسمة تجعل سلاح الزبير عاجزا عن الإنطلاق إليهم ولكنه خذلهم في النهاية إذن فلا بد له من مخرج آخر يلبي به شبق طموحه وفي المرة الثانية فكر بذكاءه المتصنع وطموحه المتعنت أن يغزو قلب وعقل الزبير باشا رحمة الذي أفشل خطته مع الرزيقات وذلك بأن يرشحه للمهدوية وأن يكون من أتباعه إذا ما انطلت عليه هذه الحيلة فإذا قبل الزبير فإنه سيكون صيدا مناسبا لود تورشين لأنه رأى فيه من الصلاحيات الطبيعية ما يؤهله لذلك فالزبير رجل مغامر وشجاع ومتدين وصاحب جيش ومال ونسب وجاه وقد استطاع أن يسيطر على عدد من الأقاليم وهي بحر الغزال ثم كردفان ودارفور وخضعت له قبائل جنوب وغرب السودان وما يزال المستقبل أمامه يتسع وينفسح إلا أن الزبير باشا رحمة خيب أمله ورد ذكاءه المتصنع وطموحه المتعنت خائبين.

ومن خلال ما سبق على بساطته يمكننا استنتاج بل وتأكيد أن ود تورشين قد كان متطلعا إلى الزعامة برغم تجافيها عن أمثاله - بمعايير ذلك الزمان كما يقول البعض - وإلى أسمى قدر من الرفعة التي ربما أجبرته كما يقول بعض المحللين السياسيين على انتحال نسب الأشراف اللذين نكل بهم فيما بعد والأمر معاين ومعروف في تاريخ الدول الإسلامية وبالأخص السودان، فهو كما ذكر البعض في سيرته يسمى بالسيد عبد الله بن محمد التقي من قبيلة التعايشة التي تنسب إلى جهينة – فكيف يكون تعايشيا جهنيا وشريفا هاشميا قرشيا في نفس الوقت؟! -، وهو خليفة محمد أحمد المهدي السوداني بأم درمان، ولد في بادية الغرب الجنوبي من دارفور عام 1266هـ، وانتقل إلى وادي النيل فاتصل بمحمد أحمد المهدي الذي أوصى بخلافته للتعايشي بعد موته، وعند توليه السلطة طمح إلى الإستيلاء على مصر، فجهز جيشًا هزمه الجيش المصري الإنكليزي سنة 1303هـ، وعم نفوذه السودان كله، إلا المقاطعات النائية فقد استولت عليها حكومات أخرى، كمصوع التي أخذتها إيطاليا، وبوغوس ضمت إلى الحبشة، وبربرة وزيلع وأوغندا امتلكها الإنجليز، والكونغو الحرة ضمتها بلجيكا إلى مستعمراتها وبحر الغزال والنيل الأبيض شرعت فرنسا في الإستيلاء عليهما، فهو وراث مقام ومهام المهدوية من بعد محمد أحمد المهدي خليفة الصديق المؤيد بمقاليد الصدق والتصديق المشار إليه في الحضرة النبوية ونسبه كما في التسلسل الآتي السيد عبد الله بن السيد محمد التقي بن السيد على الكرار بن السيد محمد المعطي الداري وهو القطب الواوي – قبته في تونس القيروان- بن السيد عبدالله بن السيد يعقوب بن السيد محمد الحربي بن السيد نور الدين بن السيد سراج الدين بن السيد عبد الجليل - قبته في مصر بإسنى- بن السيد عون قيدوم بن السيد محمد الأبر بن السيد الحسين بن السيد نصر الدين بن السيد قيس بن السيد نافع بن السيد القاسم بن السيد عمر بن السيد عمران بن السيد علي الضحى بن السيد كمال الدين المغربي بن السيد على الناظر بن السيد إبراهيم بن السيد محمد السكندري بن السيد بكر بن السيد عبد الحفيظ بن السيد محمد الطاهر بن السيد محمد المصطفى بن السيد إسماعيل بن السيد عثمان بن السيد على بن السيد محمد التقي بن السيد الحسن العسكري بن السيد علي الهادي بن السيد محمد الجواد بن السيد محمد المرتضى بن السيد موسى الكاظم بن السيد جعفر الصادق بن السيد محمد الباقر بن السيد زين العابدين بن السيد السبط الحسين ابن البتول فاطمة الزهراء بنت سيد الوجود سيدنا ومولانا محمد صلى الله عليه وآله وسلم من أمير المؤمنين سيدنا الإمام على بن أبي طالب كرم الله وجهه، ونسبه من أمه هي السيدة أم نعيم من فرع الجابراب أم صرة وينتهي نسبها لسيدنا العباس بن عبد المطلب عم النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وقد ولد في دار التعايشة في قرية أم دافوق على ضفة رهيد البردي بجنوب دارفور حوالي العام 1846م واستشهد في يوم الجمعة 24 نوفمبر 1899م بأم دبيكرات جنوب غرب مدينة كوستي بالنيل الأبيض، وقد نشأ في طفولته بمسجد أجداده وقد كانوا حملة قرآن، وقد وفد جدهم الأكبر السيد محمد القطب الواوي من تونس ذات المركز العالي في الصوفية آنذاك إلى دار التعايشة بدارفور، ثم رجع إلى تونس حيث توفاه الله، وهو يرقد اليوم بمثواه الأخير بمدينة القيروان هناك ولا يزال ضريحة مزارا لمريديه، وتوراث الصلاح أبناؤه من بعده حتى السيد محمد التقي أو ود تورشين والد الخليفة عبد الله الذي حفظ القرآن على طريقة الكتابة على اللوح الخشبي المعروفة، ودرس العلوم الدينية والفقه واللغة العربية مع إخوانه على يد والده السيد محمد، وأمضى حياته الأولى كبقية الأطفال في ذاك المسجد الذي كان قبلة الأنظار ومحط الرجال لطالبي القرآن والعلم في شتى بقاع دارفور ولا يزال رماد نار القرآن في ذلك المسيد باق إلى يومنا هذا يزوره الناس للإستطباب والتبرك، وكان عبدالله يخرج إلى الخلاء متعبدا شأن كبار الصوفية في ذلك الوقت رغم صغر سنه ولكنه لم يسلك طريقه صوفية بعينها.

ولكن يبقى السؤال الملح لماذا إذن وهو صاحب هذا النسب الشريف ينكل بالأشراف وهم نسبه من جهة أبيه وأمه بهذه الصورة الغريبة؟! ولماذا انغرست فيه الشعوبية النتنة ضد بقية السودانيين إلى هذه الدرجة على إسلامه؟!، أو بالأحرى لماذا لم يتعهد بذرة الأشراف فيه كما يقتضي شرع الله عز وجل وتعاليم نبيه الكريم عليه وعلى آله وصحبه أفضل الصلاة وأتم التسليم عندما نكل بالكثير منهم وبالأخص قوم محمد أحمد المهدي نفسه؟! وعليه فإن البعض يرجح ادعاء التعايشي لنسب الأشراف بشكل واضح وانتحاله له بصورة متعمدة والعلم عند الله عز وجل وحده لأسباب سياسية واجتماعية صرفة كما هو معروف في تاريخ العالم الإسلامي، ولعله يريد من ذلك كله تحليل طموحه السياسي الجامح وغير المتزن الذي أودى به وبتاريخه في هاوية سوداء.

ومن الأدلة البينة جدا على مدى الغباء السياسي والحنكة الدبلوماسية الذي كان يتميز به ود تورشين إرساله للأمير عبد الرحمن النجومي على إمرة جيش قوامه حوالي أربعة آلاف جندي ضعيفي التسليح والتدريب من أجل غزو مصر فكان أن أبيد هذا الجيش عن بكرة أبيه في توشكي جنوبي مصر، ومن الأدلة أيضا رسالته الغير مستبصرة والتي بعث بها إلى ملكة بريطانيا العظمى آنذاك يدعوها للتسليم له وكان من ضمن ما قاله فيها: "... فإنك إن سلمت زوجناك الأمير ود الدكيم إن هو قبل بذلك..." فكيف يطمح في الإطاحة بعرش بريطانيا العظمى وهو لم يتمكن من ترتيب شأن دولته الداخلي بعد؟!. 

ومن أشهر الأخطاء التي قام بها أيضا تمييزه لأبناء جنسه من البقارة، وتوليتهم مناصب لا يستحقونها، فإن الكثيرين منهم وبطبيعة الحال غير مؤهلين لتولي مثلها وأكفاؤها موجودون في السودان، والأدهى والأمر من ذلك كله هو إطلاق أيديهم بالباطل في أهل السودان الآخرين، ومن أوثق الأدلة على ذلك المجزرة الرهيبة التي ارتكبت باسم الجهاد في سبيل الله بقيادة قائده الأرعن محمود ود أحمد في مدينة المتمة شمالي الخرطوم، حيث قتل ما يزيد على الخمسة آلاف من قبائل العرمانيين الجعليين بقيادة عبد الله ود سعد، في ليلة وضحاها، مما أزم الموقف الولائي للدولة المهدوية، وألقى بالعديد من الرافضين لقيادة التعايشي في هاوية التأييد المذموم للغزاة الإنجليز جراء ظلمه المشهود.

وبهذه الصورة يمكن اسنتاج أنه ليس من حق المحاولات الفاشلة التي قام بها من أجل الوصول إلى أهدافه أن تجد طريقها لكي تفت من عضده أو تسبب له يأسا أو قنوطا، كلا فهو ما زال شابا قوي العزيمة متفتح الأمل متطلعا إلى الغد بكل ما أوتي من قوة وقدرة، ثم تمضي الأعوام ويبلغه أن في الشمال رجلا أعلن سرا أنه المهدي المنتظر فأتى من الغرب مسرعا مبتهجا حتى إذا ما حط في أرض الحلاويين وصل دار الشيخ القرشي ود الزين أدرك طلبته ووصل إلى بغيته فأبدى لمحمد أحمد المهدي ما كان عرضه للزبير باشا ود رحمة ففوجئ محمد أحمد المهدي بذلك واعتبر رؤيا ود تورشين التي أتت به من الغرب تأييدا لما هو مزمع على إعلانه جهرا خاصة وإنه جاء من شيخه محمد شريف نور الدائم حزينا كسير الخاطر لم يقره على ما أعلنه له، ومنذ تلك اللحظة احتضن محمد أحمد المهدي ود تورشين ووثق به حتى قدمه في النهاية على الجميع بمن فيهم أهله الأشراف والدناقلة وجميع قبائل السودان الشمالي اللذين لم يرعى ود تورشين حرمتهم فيما بعد، ومن التعاليل الممتازة لحميمية العلاقة بين محمد أحمد المهدي وخليفته عبد الله التعايشي، حوجة الأول لتأييد الأنصار بعد أن خذله أبناء جلدته ولم يقروه على ادعاءاته، فكان أن وثق في قبائل البقارة ومن ضمنهم التعايشة الذين كانوا أقرب وفق ثقافتهم لتصديق ادعاءات المهدي، فكان أن قربهم خصوصا بعد أن أصبح له فيهم صهر، هذا والله أعلم. 

وعلى ما يبدو فإن استشراف المهدوية وتحريها كان يمثل ظاهرة واضحة المعالم في تلك الأيام الخوالي، وهو ما شجع المجاهد محمد أحمد المهدي وجرأه على ادعائها خصوصا عندما لمس من صاحبه التعايشي المغرور افتتانه بها، والذي قام بعدة أخطاء إدارية فيما بعد، كانت السبب الرئيسي في فشل الثورة وانخذالها، فتوهم أن القوة في اتباع ومساندة شخص مغمور مثله لم يتوانى ولو للحظة عن إعلان ولائه ووضع نفسه تحت التصرف والخدمة حتى أن المهدي نفسه كان يقول في أواخر أيامه: "عبد الله مني وأنا منه"، فلكل منهما غايات وحاجات وأوطار على ما يبدو، حللتها الغيرة الجامحة على الدين أو هكذا سولت لهما نفسيهما، وكان أن استقبل المهدي تابعه الجديد بدون حماس، أو قل بفتور عقيم أقرب إلى التذمر ولكنه الطموح القاتل، الذي قد يبيح للمرء ركوب أي مطية يمكن أن توصله إلى مبتغاه، وتمد جسرها لتقليص الفجوة نحو غايته، وإن كان فيها من القصور ما فيها، وظل كل من المهدي وتابعه المهووس يعيشان في زنزانة وهمهما المرير لا يمكنهما أن يبرحاها، وبعد ذلك تتابعت أحداث سيناريو الثورة المتفجرة إلى أن قضى كل منهما نحبه ولاقى ربه، ليتم كشف الغطاء فالبصر في ذلك اليوم حديد.  

وعليه فقد أعطى محمد أحمد المهدي رؤيا ود تورشين قدرا عظيما من التصديق والثقة وأضمر منذ البداية أن يكون هو الأول إذا ما قدر للدعوة أن تنجح وحرص ود تورشين من جانبه على أن يؤدي كل عمل يكلفه به المهدي على أكمل صورة وأتمها من الأداء شهامة ومروءة وأمانة متدفقة فأخذ يحتل في قلب المهدي كل يوم وكل أسبوع وكل شهر وكل سنة المزيد من الرضاء والحب والتقدير حتى جاء اليوم الذي كانت فيه منشورات المهدي التنظيمية تنص بلا لبس أو غموض على أن تسلسل المسؤوليات أيا كان نوعها عسكرية أو إدارية أو خلافها يجب أن ينتهي عند ود تورشين وعلى هذا لم يعد هناك أي شك في أن الرجل الأول المسؤول بعد المهدي هو خليفته ود تورشين وعندما حم القدر والتحق المهدي بالرفيق الأعلى أم ود تورشين الناس في الصلاة عليه وتمت مبايعته بالخلافة وهكذا بلغت الرؤيا المنامية هدفها المنشود لتخلف لنا ذلك الزخم الهائل من الأحداث المتوالية والمعقدة غير أن عنصر الجهاد والغيرة على الدين يبقى الرابط المتواصل والعذر المتقبل فيها جميعا إلى تنغصه بين الحين والآخر وتكدر من صفوه أحداث السياسة القذرة وألاعيبها الممجوجة.

ويروي البعض أن من أهم أسباب توجه المهدي إلى كردفان وبالتحديد إلى جنوبها في مناطق جبال النوبة حول كادوقلي لتكون قبلة لنشر دعوته فيها سهولة بث أفكاره الشاذة بين العامة هناك لقربهم من مناطق التماس الأفريقي الصميم والتي يؤمن أهلها بالخزعبلات والأساطير ويتناولون السحر كالكجور وغيرها، إذ رفض المشايخ المستنيرون في الشمال السوداني ذي الثقافة العربية والإسلامية البحتة قبول دعوة المهدي وما تحمله من أفكار شاذة.

فقد ذكر أكثر من راو أن المهدي قابل الشيخ برير وهو من مشايخ الجعليين في منطقة شبشة ببحر أبيض أو النيل الأبيض قرب الدويم ولما أخبره بدعوته وزعم أنه مهدي آخر الزمان وأنه لن يموت حتى يحكم العالم كله وبالتالي فإن على الشيخ برير مساندته والإنضمام إلى جانبه قال له الشيخ برير ما نصه: "هوي يا مهدي أرعى بقيدك أحسن ليك، أنا شدراتي - أي شجراتي- ديل ما بفوتهن وإنت خرطومك ديك ما بتفوتها"، وفعلا فقد تحققت نبوءة الشيخ برير فيما بعد.

وكان أن ذكرنا أن الزبير باشا رحمه الله قد ذكر في مذكراته فيما بعد أن أكبر خطأ ارتكبه في حروبه وفتوحاته هو عدم قتل التعايشي بعد أن وقع أسيرا في قبضته بعد إحدى المعارك.

وعليه فإن من الأسباب الأخرى المهمة لتوجه المهدي إلى إقليم كردفان دون غيره للإستنصار بأهله هو إيحاء عبد الله التعايشي له بالتوجه إلى هذا الإقليم لأنه ينتمي إلى قبيلة موطنها كردفان.

ومن الجدير بالذكر أن رؤوف باشا ممثل الخديوية العثمانية في الخرطوم قام باستدعاء المهدي وعمل مناظرة بينه وبين مشايخ من الأزهر الشريف جاؤوا من مصر خصيصا لأجل هذه المناظرة، والتي انتهت بالقدح في عقل المهدي وفي يقينه، كما انتهت أيضا بتسمية أتباعه ومريديه والمؤمنين بمهدويته بالدراويش تحقيرا لهم واستخفافا بهم.

ولكن أتباع المهدي والمتعصبين له وللأسف الشديد كانوا يقومون بتكفير من ينكر على المهدي ادعاءه للمهدوية، وفي بعض الأحيان قتله، لأن المهدي نفسه كان قد أوحى لهم بذلك، بل ذهب البعض منهم إلى أبعد من ذلك عندما صار يعد من يقتل دفاعا عن مهدوية المهدي المنتحلة شهيدا مخلدا في الجنان.

وفي تقديري الشخصي فإن المناظرة التي قام بعملها رؤوف باشا بين المهدي ومشايخ الأزهر الشريف كانت في حد ذاتها ككلمة الحق التي أريد بها باطل فالهدف منها سياسي أكثر منه دينيا أو عقديا. 

تقول عمة الشيخ محمودن الشنقيطي، وهي شاعرة تذكر المهدي في أشعارها فتقول:

هوي هوي نسير...
للمهدي في قدير...
السيِّد إياه السيِّد...
المهدي الفي الأبيِّض...
المهدي رسل مكتوبه...
قال لينا صلوا و توبوا...
الحرام أتركوا دروبه...
مهدينا ود عبد الله...
بسيفه قطع الجله...
والكفرين بالسله...

بإمالة الكفرين على مذهب القراءة البصرية، ومن الشواهد البينة على الإيمان المتطرف بمهدوية محمد أحمد المهدي عند البعض ما قاله شاعر آخر:

قت بالعلي العالما...
لك في الأرض والسما...
مهدي الله بيعلما...
من قبل الجد آدما...
قلبي مشتاق للإمام...
مهدي الله طبي القاسما...
مهدي الله المنتظر...
من شك فيه فقد كفر...

وهي تبين بوضوح تام افتتان البعض بدعوة محمد أحمد المهدي كما ذكرنا آنفا، خصوصا في الجانب الذي زعم فيه المهدي قدرته على كشف الحجب المستترة واتخاذ منحى تكفيري ممن يرفض تصديق مهدويته الخاتمة، وبعض هذه الأبيات جيد مستحسن، وبعضها الآخر يحتاج إلى هجوم كما فعل ابن خلدون عندما أحزنته غفلة تاشفين عن أمر محمد بن تومرت، والتي كانت مما طوح بعرب الأندلس، إذ أنها هدت المرابطين ولما يضعفوا بعد، وكانوا غيارى حقا على الإسلام وقد بدأوا يتمرسون بركوب البحر، وقتال الإفرنج، وما قضاه الله كان، ولم يكن الموحدون بأشداء في أمر الأندلس كشدة المرابطين، وفي هذا إشارة لادعاء بعضهم للمهدوية قديما لأسباب كثيرة، لكنها في مجملها لا تقبل لأنها كذب صريح على الله عز وجل، وعلى ر سوله الكريم صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

أما بالنسبة للفتى محمد أحمد  المهدي فقد كان يتصف بالعناد والتصميم والإندفاع الحماسي نحو الأمور التي يتصدى لها ويمضي في الطريق حتى نهايته، وقد اعترف له أعداؤه بهذه المسألة، يقول القس أهرولد الذي سجن عشر سنوات في زمن الدولة المهدوية متحدثا عن المهدي: "كان مظهره الخارجي قوي الجاذبية، فقد كان رجلا قوي البنية، سحنته تميل إلى السواد، ويحمل وجهه دوما ابتسامة عذبة، وأسلوبه في الحوار حلو وسلس"، ويروي ونجت باشا - مدير مخابرات الجيش المصري - عن قدراته الخطابية فيقول: "إن الرجال كانوا يبكون ويضربون صدورهم عند سماع كلماته المؤثرة، وحتى رفاقه من الصوفية لم يخفوا إعجابهم به، وليس في شكله ما يثير إلا عندما يبدأ الوعظ، وعندها يدرك المرء القوة الكامنة فيه التي كانت تدفع الناس لطاعته"، ويقرر المؤرخ السوداني الدكتور محمد سعيد القدال ذلك بقوله: "لقد توفرت لمحمد أحمد صفات متميزة أهلته للقيادة في مجتمع السودان في القرن التاسع عشر، فهو صوفي زاهد يحظى بتقدير الناس ويهرعون إليه طلبا للغوث والبركة، وهذه هي الصفات الأساسية للقيادة في ذلك المجتمع، ومكنته دراساته المتنوعة من امتلاك قدرات علمية ولغوية واسعة، وله جاذبية أو كاريزما يؤثر بها تأثيرا قويا على من حوله، وتضافرت كلها مع نشاطه العلمي وقدراته الذهنية فرفعت درجات وعيه الإجتماعي مما قاده إلى فكرة المهدي المنتظر التي كانت تضج بها جنبات المجتمع، ورأى نفسه الشخص المؤهل لحمل أمانتها".

والواقع أن فكرة المهدي قديمة؛ إذ وردت أحاديث كثيرة بعضها صحيح وأكثرها ضعيف عن المهدي، وهو رجل من آل بيت النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، يخرج في آخر الزمان ويحكم الأرض، فيملؤها عدلا ونورا كما ملئت ظلما وجورا، هذه الأحاديث لم ترد في الصحيحين لكنها جاءت في المسند وكتب السنن، وقد جعلها البعض من أساسيات العقيدة، لكنها في الحقيقة من الأمور التي تحدث في آخر الزمان والتي تحدث عنها النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهي من الفروع لا من الأصول التي لا يكمل إيمان المرء إلا بها، وعبر التاريخ الإسلامي ادعى المهدوية كثير من الأشخاص سنة وشيعة ومذاهب أخرى، فقد كانت فكرة المهدي تمثل الخلاص للمظلومين، وهي مناسبة لحشد التأييد الشعبي لأي ثائر يرفع هذا الشعار، وتقوم بإضفاء نوع من القداسة على ثورته، وكلما ازداد ظلم الحكام وجورهم ازدادت الحركات المهدوية التي يزعم كل واحد من أصحابها أنه المهدي المنتظر الذي تحدثت عنه الأحاديث، ومن أشهر من ادعى المهدوية في التاريخ الإسلامي المهدي بن تومرت مؤسس دولة الموحدين، ومحمد بن عبد الله السنوسي الليبي قائد الحركة السنوسية، وصاحبنا محمد أحمد السوداني، وقد كانت ظروف السودان في تلك الآونة وما كان يعانيه السودانيون من جور حكومة الخديوي توفيق التي فتحت الباب للتدخل الأجنبي وأرهقت كواهل المواطنين بالضرائب والإتاوات، إضافة إلى انتشار الظلم السياسي وتفشي الرشوة والمحسوبية والإنحراف العقائدي وغير ذلك، كل هذا شكل بيئة خصبة لانتشار دعوة المهدي وخاصة في بيئة صوفية كالبيئة السودانية آنذاك، ومما ساعد في الترويج لفكرة المهدوية في المجتمع السوداني الحجاج النيجيريون الذين كانوا يمرون بالسودان في طريقهم للحجاز، وينقلون عن الشيخ عثمان بن فودي أو عثمان دانفوديو المجاهد النيجيري حديثه عن المهدي الذي يخرج من المشرق ويحكم الأرض ويزيل المظالم، كل هذا ساهم في الترويج لفكرة المهدي في مجتمع يعاني الظلم والإستبداد ويبحث عن العدالة، فكانت هذه الفكرة وهذا الشخص ملاذا للضعفاء والفقراء الذين يرون فيه مخلصا لهم مما هم فيه، لذا سارعوا إلى تأييده ونصرته بمجرد ادعائه للمهدوية، وقد سمى المهدي أتباعه بالأنصار تيمنا بأنصار النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم من أهل المدينة، وقد عرفوا وما زالوا يعرفون بهذا الإسم في السودان، ولعل الفكرة - التي جاء بها محمد أحمد وخرج بها على قيادات المجتمع الدينية الممثلة آنذاك في الطرق الصوفية والعلماء الأزهريين - قد رافقها كثير من الغلو والتنطع، فقد اعتبر كل من لم يؤمن بمهدويته غير مسلم، وقد قال صراحة بأن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم قد جاءه في المنام وقال له: "أنت المهدي المنتظر ومن شك في مهديتك فقد كفر"، وهكذا أصبح الأتراك والمصريون وكل من لم يؤمن بمهدويته كافرا غير مسلم، هذا الغلو، واجتهادات أخرى خرج بها عن نطاق العرف الفقهي والعقدي المألوف في السودان آنذاك، ألب عليه العلماء وقاموا يتصدون له ويتهمونه بالكذب والبدعة ويؤلبون عليه الحكومة والناس، لكنه لم يعرهم بالا ووصفهم بأنهم أذناب للحكومة التركية الكافرة على حد وصفه، وقد قامت سجالات عنيفة بين المهدي وهؤلاء العلماء الذين كان معظمهم من خريجي الأزهر الشريف، لكنها بدلا من أن تؤدي إلى تراجعه عن فكرته أدت إلى إصراره عليها وذيوعها وتفشيها، هذا الغلو الذي رافق نشأة هذه الحركة ظل حتى سقوط الدولة المهدوية.

وقد حاول بعض أتباع المهدي وما زالوا يحاولون الإعتذار عن هذه المسألة وتأويلها والخروج بها عن ظاهرها بمن فيهم أحفاده ونسله من أمثال الصادق المهدي زعيم حزب الأمة القومي الحالي، كما حاولوا القول بأن مفهوم المهدوية عند محمد أحمد يعني المجدد الذي ينهض بأمر الدين، وليس الرجل الذي يخرج في آخر الزمان، لكن التاريخ والواقع يقولان خلاف ذلك، فقد كفّر المهدي كل من خالفه ولم يؤمن بمهدويته، وحارب الناس على أساس ذلك، كما أنه اعتبر نفسه ذلك الرجل الذي تحدثت عنه أحاديث آخر الزمان، وقد توفرت للثورة المهدوية عدة عوامل أدت بها إلى الإنتصار والوصول إلى حلم إقامة الدولة في زمن قياسي لا يتجاوز السنوات الأربع، ولعل هذه الفترة القصيرة التي قامت فيها هذه الدولة تنبئ عن التحولات الهائلة التي تمت في هذه الفترة القصيرة، وعن القفزات السياسية التي تحققت لـلمهدي وأنصاره، وأول تفسير لسرعة انتصار الأنصار بقيادة المهدي هو كراهية السودانيين لحكومة الخديوي توفيق التي سامتهم الخسف والهوان وأرهقت كواهلهم بالضرائب، ولعل هذه السياسة للخديوي توفيق وأمورا أخرى هي أيضا التي أدت إلى اندلاع ثورة أحمد عرابي في مصر عام 1881م في زمن قريب من الثورة المهدوية، لذا فقد سارع السودانيون بمختلف توجهاتهم للإنضمام إلى صفوف الثورة، فأصبح لها بُعد شعبي عظيم تمثل في شيوخ الطرق الصوفية وزعماء القبائل والتجار والمزارعين والرعاة وبقية فئات المجتمع آنذاك، لذا كانت ثمرة هذه الثورة الإنتصار الكاسح الذي حققته في زمن وجيز، وساعد على انتصار الثورة كذلك الوجدان السوداني العامر بالتصوف والمؤمن بكرامات الأولياء والصالحين، فالشعب السوداني ميال نحو التصوف وأهله، وقد قام المهدي بإشعال أوار التصوف في قلوب السودانيين عن طريق مواعظه وخطبه النارية التي ألهبت حماستهم وصنعت منهم جنودا مخلصين يرمون بأنفسهم إلى الموت خلف من يرون فيه قائدا ملهما، كما أن دعم التجار الشماليين المعروفين بـالجلابة لـلمهدي، ووقوفهم بجانبه أعطى الثورة مصادر تمويل ممتازة من هذه الفئة التي كانت تهيمن على التجارة في جميع أنحاء السودان، ولعل الكاريزما التي توفرت في شخص المهدي قد ساهمت في إضفاء القبول على حركته وسرعة انتشارها وتحقق القبول لها في قلوب الناس في الوقت الذي استخدمت فيه حكومة الخديوي ضباطا وموظفين أجانب في أعمال الحكومة في السودان مما أدى إلى استفزاز الكرامة السودانية، وأشعل نيران الكراهية ضد هؤلاء الذين كانوا غير مسلمين في الغالب.

فكان أن انتصرت الثورة وأقامت أول كيان سياسي في السودان منذ سقوط سلطنة سنار عام 1820م على يد محمد علي باشا.

وقد استطاع المهدي أن يوحد السودانيين خلفه، وانتقل بهم من نصر إلى نصر، وسقطت مدن السودان تباعا تحت حكمه، ففي عام 1883م سقطت مدينة الأبيض أكبر مدن غرب السودان في يديه بعد حصار طويل ومعارك طاحنة، وبسقوطها قطع الثوار الطريق بين الخرطوم ودارفور، ثم انضم شرق السودان إلى المهدي بقيادة عثمان دقنة أحد زعماء قبائل البجة التي تقطن شرق البلاد، وقد عينه المهدي قائدا للشرق، وكان سقوط الخرطوم عام 1884م بمثابة المسمار الأخير في نعش حكومة الخديوي ومن ورائها بريطانيا، فقد دخل المهدي وأنصاره الخرطوم وقتلوا القائد الإنجليزي غوردون الذي أراد القضاء على هذه الثورة.  

وبهذه المعارك التي خاضها المهدي مع سلطات الخديوي وبريطانيا أثبت أنه ليس مرشدا روحيا بارعا أو زعيما سياسيا ناجحا فحسب، وإنما قائدا عسكريا محنكا استطاع إخضاع تلك البقاع الشاسعة من أرض السودان من البحر الأحمر شرقا وحتى دارفور غربا في زمن قياسي مذهل بالنسبة لعصره، وفي دولة كالسودان تعاني من صعوبة المواصلات والتنقل بين أنحائها مترامية الأطراف.

لم يعش المهدي بعد سقوط الخرطوم طويلا، فقد توفي في الثاني والعشرين من يونيو عام 1885م متأثرا بمرض لم يمهله طويلا.

وفي الأشهر الخمسة التي تلت سقوط الخرطوم قام المهدي بأمور عدة، أهمها تصفية بقايا الوجود التركي المصري، وإرسال رسائل إلى بعض الملوك والزعماء، منها رسالة إلى الخديوي توفيق نفسه دعاه فيها لاعتناق المهدوية وإلا ستكون عاقبة أمره وبالا.

كما أنه أسس في هذه الفترة مدينة أم درمان التي أصبحت عاصمة لدولته، كما أصدر عملة خاصة بالدولة. 

توفي المهدي تاركا خلفه جدلا كبيرا داخل السودان وخارجه حول ادعائه للمهدوية والغلو الذي جعله يكفر كل من لم يؤمن به، إضافة إلى بعض الإجتهادات الخاصة التي أقرها وألزم بها الناس لكنه ظل يحظى باحترام أصدقائه وأعدائه على حد سواء لما تمتع به من مؤهلات جعلته الرجل الأول في تاريخ السودان.

وبوفاته بدأ عقد دولته بالإنفراط تدريجيا؛ بدءا بتوليته لخليفته عبد الله التعايشي وما جرته هذه الولاية من مشاكل وانقسامات داخلية، مرورا بالثورات التي قامت ضد خليفته، وانتهاء بسقوط الدولة وعودة الإنجليز مرة أخرى بصورة أظهر مما كانوا عليها تحت نفس الغطاء المصري.

مات المهدي وهو يلبس الرث والمرقع من الثياب ويسكن بيوت الطين، لكن أبناءه وأحفاده من بعده عاشوا في ترف ونعيم، وتحول كيان الأنصار الذي قامت على أكتافه الدولة من الخط الثوروي الجهادي في التغيير إلى انتهاج الأساليب السلمية والتُّقية ومهادنة الإنجليز الذين حكموا البلاد إلى حين بزوغ فجر الاستقلال عام 1956م ممثلين في حزب الأمة القومي.

ومن أروع ما كتب من أشعار في تخليد ذكرى محمد أحمد المهدي بلا افتتان بمهدويته، ولا إصغاء لتغرير الشيطان به، و إنما تخليدا لذكرى جهاده و منافحته، قصيدة ملحمية للشاعر اللواء أبو قرون عبد الله أبو قرون، عنوانها رسالة إلى المهدي، ضمنها ديوانه نغم على سطح الخندق، يقول فيها:

أولا:

الليل    ساج    والطريق    ظلام          والبدر     ناء      والنجوم     نيام
والناس   قد   ضلوا  طريق  سراهم          وتشابهت   كل   الدروب    فهاموا
وتدافعت   خطواتهم    في    مهمه           جرد     كما      تتدافع     الأغنام
وتطلعوا    يبغون    نور     هداية          كيف   الهداية    والطريق       قتام
وانهار   عزم  الناس  بين صدورهم          وطغى  النعاس  على  السراة  فناموا
حتى  أتيت    كنور   شمس    دافق          كشف   الظلام   عن   النيام   فقاموا
وحدوتهم  نحو   الرشاد    فأدركوا          بحدائك   الغايات     وهي     جسام

ثانيا:

و استنبتوا  في  الأرض أخصب  بقعة        زرعت     فكان    نباتها    الإيمان
وتيمموا    فيها     صعيدا   طاهرا          وشدا   الأذان  فقامت  أم  درمان
وتهيأ    التاريخ    يكتب     قصة            وبدا   الزمان   وكان   ثم  زمان
وزهت    مدينتنا    بكل   فضيلة              واندكت   الحانات   والندمان
واخضرت   التقوى   بكل  بيوتها          فالشدو    في     باحاتها     القرآن
وترعرعت  فضلى   يحيط  بخدرها           الأنفال   والعذراء     والرحمن
ومضى   بنوها    مؤمنين    بربهم         يبغون    جنات      لها     أفنان
في    شأن    رب   غافر   لهم  مضوا          نعم    الإله   ونعم   ذاك  الشان

ثالثا:

أبتاه    إني    قد    بدأت    رسالة          عجلى   إليك   فما   عساي    أقول
أبتاه   قد    سطرت    ودي   غامرا          والحب   من   قلبي  إليك  رسول
هذي   خواطر   من    حفيد    حائر          تمسي    بفكري    تارة    وتقيل
أشكو   إليك   ضلال    قومك   إنهم          تركوا   الكتاب   وبالكتاب  دليل
فبقلب    بقعتك     الطهور   تعددت        قرح    بها    قيح   الفساد   يسيل
وبسيفك   المنصور  قد  نام  الصدى         والسيف   في   كف  العدو  صقيل
وسيوف   أحلاف  الضلال   قواطع          وسيوف   مهدينا    بهن    فلول
ما  ذاك  عن  ضرب  وقرع  في العدا          لكنما     قرع      الجبان     كليل
إنا   كثير   إن   عددنا   في   الهوى         لكننا       في     النائبات     قليل

رابعا:

أنعى   إليك    صلاتنا    وقيامنا            فالليل     فسق    والفساد   صلاة
والصدق   مين   والمودة   غيبة           والوصل   بين  والخصام  صلات
فالموت  في   شأن   الحياة     سعادة         والموت    في     شأن     الإله   وفاة
وسألت   أين    شهيد   توشكي  أين من       خفقت    بنصر   جيوشه   الرايات
أين  البجاوي العنيد  وأين  حمدان الذي         طاحت  بضرب  سيوفه  الهامات
أين      ابن    تورشين  الذي    قد    زغردت         لبسالة     استشهاده     الفلوات
قوم   أضاء   جبينهم   طول   السجود    فأصبحت    نورا     بضوء     جبينهم    ظلمات
فأجاب   قومك   يا   أبي   إن          الذين     ذكرتهم      وعددتهم      قد      ماتوا
كذبوا    هم     الأموات   والأحياء          من    نزلت     بذكر     حياتهم      آيات

ومن اللطائف التي ينبغي أن تذكر، إن الشعب الصيني يكن احتراما وتقديرا من نوع خاص للشعب السوداني، وذلك بغض النظر عن المصالح الإقتصادية التي تجمع بين البلدين، وتؤلف ضمنا بين الشعبين، وبغض النظر كذلك عن إيقاعات السلم الخماسي المتميز في الأذن الموسيقية العالمية، وليس هذا تعظيما لشأن الموسيقى فوق قدرها، وإنما تقريرا لنقاط تشابه تجمع بين جزئيتين، والسبب في ذلك والذي لا يعرفه الكثيرون إلا القليلين من الباحثين في التاريخ، هو تمكن الثورة المهدوية من قتل غوردون الذي أمعن في الشعب الصيني قتلا وتنكيلا، وكان يعرف في الغرب بقاتل أو سفاح الصين، والصينيون برغم ثقلهم الحضاري  والثقافي والتاريخي، لم يتمكنوا من فعل ذلك، فإذا عرفوا سر قدرة المجاهدين السودانيين من أتباع المهدوية على فعل ذلك، لآمنوا، لأنهم يملكون من الإيمان ما لا يملكه الصينيون ولا غيرهم من الشعوب، فلله المنة من قبل ومن بعد.

هناك تعليق واحد: