الخميس، 28 مارس 2013

الغرق في قارورة رجل - قصة قصيرة للقاصة السورية فادية عيسى قراجة


القاصة السورية فادية عيسى قراجة


قالت حوَّاء : هل تذوقت اللذة عندما تتعطل لغة الكلام ؟ انتظر لا تجبْ ..
هل تعرف معنى أن تفقد الكلمة بكارتها ؟ انتظر لا تجبْ ..هل تجرعت طعم السم المدسوس في رضاب القبلة ؟هل جربت أن تنتحر على جسد من تحب ؟؟ 
دقق آدم فيما قالته حوَّاء .. فهاجمته بهذا الاعتراف : - 
لقد فقدت بكارتي .. هل تسمح أن تخبرني متى فقدت بكارتك ؟ انتظر لا تجبْ .. أنا فقدت بكارتي منذ يومين ,منحتها لرجل يائس , جاء يتسولني , فلم أجد ما أهبه سوى بكارتي , الحقيقة كنت أريد أن أوفرها لليلة مجنونة تجمعني بك, أعرف بأنك تشتهي جسدي , وتموت شوقاً على الغرق في بئره البكر , ولكن هذا ما حصل ..كان الرجل محبطاً, بائساً , يتدفق ألماً , شهوته مطفأة, فض بكارتي مثل تلميذ يسرق
الواجب المدرسي من دفتر صديقه .. والآن عليك أن تخبرني منذ متى فقدت بكارتك ؟
حاول آدم أن يستوعب تلك القنابل التي قذفتها لكنها لم تسمح بأيّ لحظة تفكير , وقالت بتشدد:
- ما بك ؟؟ أين حماسك ؟ هل مضى وقت طويل على وداعك لبكارتك ؟
أيُّ مجنونة هذه الحوَّاء ! ماذا تخرِّف ؟ حاصرته بأسئلتها , وهددت باستعمال الأسلحة الخطيرة مالم يجب على استفساراتها ..
قال بصوته الحريري: لكنني رجل يا حوَّاء , عن أي بكارة تتحدثين ؟!
صاحت : رجل؟؟! حسناً .. سأعطيك عشر دقائق لتعترف ....
أحنى آدم رأسه , وبدأ يفكر ويحدِّث نفسه .. هي تقصد متى أول مرة تعرفت على جسد المرأة .. أنا أفهم هذه الحوَّاء الخبيثة .. كنت في الثانية عشرة من عمري .. حيّنا كان شعبياً , أو ما يسمى بالعشوائيات .. سكنتْ في حيّنا امرأة سمعتها سيئة أو هكذا اصطلحت على تسميتها نساء الحي.. كانت تقف على باب بيتها بثوبها القصير ذي اللون الأحمر القاني الذي يشف عن ملابسها الداخلية , كان الرجال يتلمظون حسرة ,
ويصبون جام غضبهم , وحنقهم وجنونهم على نسائهم .. مرة وقفتُ أمام بيتها فقد وقعت كرتي على شرفتها .. أدخلتني البيت , أعطتني حلوة لذيذة,أطعمتني بيديها .. قادتني إلى غرفة نومها .. تعرّت أمامي , وأشارت إلى نقاط في جسدها وقالت : ما أسم هذا, وهذا , وهذا ؟؟ بدأتُ أرتجف ,وأتصبب عرقاً , فاحتضنتني وبدأت بتعريتي , كانت أناملها تخدرني وهي تمسح جلدي الغض,و تشم العفاف في جسدي .. ومن ثم قادتني إلى جنتها الحارّة..امتصت روحي,وأخرجتني من غرفتها رجلاً حقيقياً ..
ومن يومها لم تغادر وجداني .. حفظتُ تفاصيلها , ورسمتها على دفاتري ثم ضاجعت الورق بألم ولذة , كان هذا سرّي السعيد .. وبدأت النساء تتوالى على فراشي بألوان وأحجام وأسماء مختلفة , لكن أي منهن لم تُبلغني تلك النشوة التي
منحتها لي امرأة سيئة السمعة ..
صرخت حوَّاء: انتهت الدقائق العشر.. هل يحتاج الأمر إلى هذا التفكير ؟
قال آدم : هل تجيبين على سؤالي بصراحتك المزعومة؟
ردت بتأفف : اسأل
جلس آدم القرفصاء , وسدد سهامه على وجه حوَّاء الفاتن :
- كيف فض ذلك الرجل بكارتك؟
ابتسمت حوَّاء وتمتمت:
- مثلما يفعل كل الرجال
قال آدم : وأنت؟؟ هل تعريت ِ له ؟ هل شم رائحة جسدك ؟ هل مسح جسدك بشفاهه ؟هل خرج من غرفتك رجلاً حقيقياً, أم أنه دخل متسولاً , وخرج متسولاً ؟؟
قالت حوَّاء : في الحقيقة لم أخلع ملابسي .. لكن لماذا هذه الأسئلة ؟
أردف آدم : لماذا لا تسعدنا إلا امرأة سيئة السمعة, تقول أنا جسد , أنا للمتعة , أنا للفراش فقط , أنا للّحظات الخالدة ؟؟هل لأنها تعطينا مفاتيح الجنة وتعرف نقاط ضعفنا نطلق عليها هذه التسميات , ثم نقتلها وهي من تصنع منا رجالاً ؟ لو كنت يا حوَّاء سيئة السمعة كنت أسعدت ذلك المتسول الذي وهبته بكارتك لكنك فشلت في أداء هذا الدور الذي لن تتقنه سوى امرأة تلبس ثوباً أحمر , وتقف على باب بيتها , تتعرى أمام طفل غرير, ثم تلقنه أسماء أعضائها عضواً , عضواً .. حتى أنه لم يجد
في أيّ امرأة ما وجده في تلك المرأة التي قتلتها نساء الحي لأنهن فشلن فيما نجحت به , فهي الحياة التي نقتلها , وهم الموت الذي يعشش في العشوائيات ..
فكرت حوَّاء فيما قاله آدم, وخصوصا الشق المتعلق بها .. هي جميلة جداً فلماذا أسرع ذلك المتسول في مهمته , وخرج دون أن يثني على شيء فيها , حتى لم يقبّلها , كان منهمكاً في تمزيقها بأسنان تشرده ..
تكومت حوَّاء مثل قطة قرب آدم .. التصقت به .. ثم وضعت يديها على وجهها وأجهشت بالبكاء ..
لم يتحرك آدم من جلسة القرفصاء .. أشعل لفافة تبغ .. وبعد أن انتهى منها داسها بقدمه, ثم خرج .

الجمعة، 22 مارس 2013

دارفور الأول إسلاميا في حفظ القرآن الكريم


تؤكد الإحصائيات الدولية على أن أعلى نسبة من حملة كتاب الله عز وجل موجودة في بلد مسلم، هي نسبتهم في دارفور، إذ تبلغ هذه النسبة ما يزيد عن 50% من سكان دارفور، يحفظون القرآن عن ظهر قلب، حتى أن مسلمي أفريقيا يسمون هذه الأرض "دفتي المصحف"...

وكان في الأزهر الشريف حتى عهد قريب رواق اسمه "رواق دارفور"، كان أهل دارفور لا ينقطعون أن يأتوه ليتعلموا في الأزهر...

السبت، 16 مارس 2013

قصيدة موجة الحر - للشاعر السوداني أ. د. الحبر يوسف نور الدائم

كتبها د. الحبر يوسف نور الدائم قبل عقود لكنها كأنها كتب اليوم:


ألا يا موجة الحر *** لقد أنقضتِ من ظهري
ولولا أن تعوالا *** بيانا بالفتى يزري
لقد أعولت إعوالا *** يصيب الأذن بالوقر
فكيف الصبر يا خلي *** على ويل لوى صبري
إذا ما قلت أختله *** بما قد شئت من أمر
كشرب بارد عذب *** وثوب وكده ستري
تمطى ساخرا مني *** ومن فعل الفتى الغمر
***
ألا يا موجة الحر *** بثثتك ما حوى صدري
لقد جرجرت أعياء *** كعود ناء بالوزر
فسقف الحلق مشعور *** بلذع من لظى الجمر
وأنفي ضاق من نفس *** حرور ناضج يبري
وهذي زفرة حرى *** ورت في العسر واليسر
ورتني وري منتقم *** يداوي الكسر بالكسر
فلي ما عشت أهات *** كأني في هوى العفر
***
ألا يا موجة الحر *** حبوتك مقولا يفري
فريتك فري مختبر *** بشعر أيما شعر
عزمت الدهر تهجاء *** لضيف مس بالضر
لضيف بارك زمنا *** يروض الكر بالفر
إذا ماقلت ودعنا *** سما للباب بالنقر
فما ليلي بمنبسط *** وما صبحي بمنتشر
بلونا من صويحبنا *** برى ما شئت من شر
***
ألا يا موجة الحر *** لكم أنضجت من حُر
دعوت الله مبتهلا *** بسر السر والجهر
ليصرف فيحها عنا *** بحق (النور) و(الحشر)
فيا حرا تعهدنا *** بوبل دائم القطر
تقشّع جدّ مذموما *** فما في القوم من يقري
بلوا ما كنتهم تقري *** فآضوا ضيقي الصدر
فول الدبر مدحورا *** سخين العين والنحر

الجمعة، 15 مارس 2013

عندما بكى عباس محمود العقاد في الخرطوم

كان ذلك في شهر يوليو عام 1942م، إبان الحرب العالمية الثانية.

في ذلك الوقت اشتد لهيب الحرب، وكانت جيوش هتلر وموسليني بقيادة روميل تكتسح جيوش الحلفاء فى شمال أفريقيا، حتى وصلت العلمين، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من القاهرة التي كانت مكفهرة الوجه، تعج بالجنود والجواسيس من كل جنس وتهيأت جيوش روميل لدخول مصر، بينما احتلت جيوش موسليني كسلا والكرمك وتهيأت لاحتلال السودان. 

فى مثل تلك الظروف كان لا بد أن يتراجع صوت الفكر ويعلو صوت السلاح، مصداقا لقول أبى تمام:

السيف أصدق أنباءا من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِ

عندها ضاق المفكر الكبير عباس محمود العقاد بمصر كلها وقرر أن يهجر القاهرة مؤقتا، وهي الحبيبة إلى نفسه، وكان أن شد الرحال إلى الإخوة والأشقاء فى جنوب الوادي (السودان). 

كانت زيارة العقاد إلى السودان فى حد ذاتها حدثا أدبيا كبيرا لم تقلل من أهميته ظروف الحرب، وقد وصف أحد أدباء السودان كيف استقبل وزملاءه خبر وصول العقاد إلى الخرطوم قائلا:

"وذات ليلة ونحن حول المذياع نرقب تطورات الحرب وأخبارها، جاء المغفور له الأستاذ عثمان شندي، وبأسلوبه المرح الضاحك زف إلينا خبر وصول الأستاذ عباس محمود العقاد للخرطوم، ولم يكن هذا النبأ بأقل أهمية وخطورة مما كنا نسمع من الراديو".

(حسن نجيلة - ملامح من المجتمع السوداني - الطبعة الأولى ص 235). 

كانت للعقاد - مثله فى ذلك مثل الكثيرين من أبناء جيله - صلات واسعة مع الشعراء والأدباء فى السودان، حيث راسله بعضهم وعرفه البعض الآخر عن قرب، ولم يكن معروفا في السودان والدول العربية فحسب وإنما تعدى كل ذلك للعالمية، وقد وصل العقاد إلى تلك المنزلة الرفيعة بفضل علمه الغزير وثقافته العالية ومساهماته الواسعة وكتاباته القيمة فى ميادين الأدب والفكر والسياسة وآرائه الجريئة التى كان يرسلها فى شجاعة غير عابئ بغضب الناس عليه أو رضائهم عنه. 

أتاحت زيارة العقاد لأبناء السودان فرصة نادرة، اغتنمها الأدباء لتكريم ذلك العبقرى الفذ، فتوافدوا على مكان إقامته، وأقاموا لاستقباله العديد من الليالي والمهرجانات الشعرية.

وكانت فترة إقامته فى العاصمة السودانية (نحو أربعين يوما) سلسلة متصلة من اللقاءات الأدبية والفكرية.

وقد وصفها أحد الأدباء قائلا:

"مضت أيام العقاد بيننا كلها أعياد ثقافة وأدب".

كيف لا وقد كانو يعتبرونه من أفذاذ رواد الثقافة فى أسمى معانيها، و كان لا بد أن يترك كل ذلك أثره العميق فى نفس ذلك الأديب الكبير. 

ومن أهم اللقاءات الفكرية فى تلك الفترة كانت تلك المحاضرة عن الثقافة، والتي ألقاها العقاد فى دار الثقافة بالخرطوم، وقد أجمع مؤرخوا تلك الفترة من الرواد على أن دار الثقافة لم تشهد قبل ذلك اليوم مثل ذلك الحشد من المثقفين وعشاق المعرفة الذين حرصوا على الإستفادة من علمه الغزير.

وأقام الأدباء السودانيون فى نفس الدار حفلا أدبيا نادرا لتكريم الكاتب الكبير، شمل آراء ودراسات نخبة من الأدباء السودانيين في إنتاج العقاد الفكري، سواء كان ذلك شعرا أو نثرا.

 وشارك العقاد فى ذلك الحفل شارحا ومحللا وناقدا. 

وفي مناسبة أخرى زار العقاد دار الخريجين بأم درمان بدعوة من بعض الأدباء السودانيين ليتعرف على أعضائه من الشعراء والأدباء، وجلس بينهم يتسامر معهم فى ود ويدير الحديث في اتجاهات مختلفة بأسلوب شيق ساحر، وبعد أن تشعبت الأحاديث قال قائل للعقاد إن الشاعر محمود الفضلي يجيد إنشاد الشعر، فالتفت إليه العقاد وطلب منه أن ينشده شعرا، فانطلق ينشد قصيدة العقاد (ليلة الوداع) والتي مطلعها: 

أبعدا نرجي أم نرجي تلاقيا
كلا البعد والقرب يهيج ما بيا

إذا أنا أحمدت اللقاء فإنني
لأحمد حينا للفراق أياديا

ألا من لنا فى كل يوم بفرقة
تجدد ليلات الوداع كما هيا

ليالٍ يبيح فيها الدل زِمَامَهُ
ويرخص فيها الشوق ما كان غاليا

غدا ننظر البدر المضوئ فوقنا
وحيدين من دارين لم تتلاقيا

بنا أنت من بدر وددت لو أنه
يبدو على الأفق أينما كنت ثاويا 

استرسل محمود فى إنشاده الشجي لذلك الشعر العذب السلس والعقاد متكئ على مقعده، وقد أرهف السمع 
والقوم يتطلعون إلى وجهه خلسة ويرقبون تعابير ذلك الوجه، ومضى الصوت العذب في إنشاده: 

أشم شذى الأنفاس منك وفى غد
سيرمى بنا البين المشت المراميا

وألثمه كيما أبرد غلتي
وهيهات لا تلفى مع النار راويا

فقبلت كفيه وقبلت ثغره
وقبلت خديه وما زلت صاديا

وتلمَّس كفي شعره فكأنني 
أعارض 
سلسالا من الماء صافيا

كأنا نذود البين بالقرب بيننا
فنشتد من خوف الفراق تدانيا 

ويصف حسن نجيلة ذلك المشهد قائلا:

"أخذت أمعن النظر فى العقاد ومحمود ينشد هذا الشعر السلس العذب، إن يدي العقاد ترتجفان، وقد ارتسمت على وجهه انفعالات من يعاني ثورة نفسية حادة".

وكان العقاد يصغي بكل حواسه ومحمود لا يزال ينشد: 

ولما تقضى الليل إلا أقله
وحان التنائي جشت بالدمع باكيا

فأقبل يرعاني ويبكي وربما
بكى الطفل للباكي وإن كان لاهيا

وزحزحني عنه بكف رقيقة
وأسبل أهداب الجفون السواجيا

وأسلمت كفي كفه فأعادها
وقلبى فهلا أرجع القلب ثانيا

فلم أر ليلا كان أطيب مطلعا
وأكأب أعقابا وأشجى معانيا

فيا من يعيد الدهر من حيث بدا
أعد لي ليلات بمصر خواليا

إن كان لي في مقبل العيش مدة
فيا ليت يغدو مقبل العيش ماضيا 

ويستمر حسن نجيلة فى وصفه لذلك المشهد الفريد:

"وهنا انهار العقاد، وإذا بوجهه يختلج والدموع تترقرق في عينيه ثم تنساب تباعا، وصمتنا برهة ذاهلين، ولكن محمودا يعود فيصل إنشاد ما بقي من القصيدة التي أثارت كوامن ذكريات العقاد حتى دمعت عيناه، وانتهى محمود من إنشاده، وران على مجلسنا الصمت وأبصارنا عالقة بالعقاد الذي ما زال متكئا على المقعد وقد غطى وجهه بيده اليسرى كمن استغرق فى حلم طويل". 

رواية أخرى لنفس الحادثة، وصف محجوب عمر باشري ذلك المنظر المؤثر بقوله:

"وبكى العقاد ونزلت دموعه، وصاح الشاعر حيدر موسى: لقد بكى الجبار".

(محمود عمر باشري - رواد الفكر السوداني، ص 356). 

نعم، في ذلك الموقف الفريد، وعلى الرغم من كبريائه وعزة نفسه، لم يملك العقاد - وهو العصي الدمع - إلا أن يترك لدموعه العنان على مرأى من الناس، خلافا لما فعل أبو فراس الحمداني عندٌما قال: 

أراك عصى الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهي عليك ولا أمرُ

بلى، أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلى لا يذاع له سرُّ

إذا الليل أضوانى بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبرُ 

بكى العقاد وهو يجد تلك الحفاوة من أشقائه في السودان، ويلمس إكبارهم له ولوعتهم لفراقه، وهو يتأهب للعودة للقاهرة.

حكمة يزداد إيماني بها كل يوم


في كل يوم يزداد إيماني بالحكمة القائلة:
 "لا مستحيل تحت الشمس"

موقف أعجبني جدا للرئيس السوداني الراحل: إبراهيم عبود

حكى الكاتب السوداني الكبير عمر جعفر السوري عن سفير لبناني سابق في السودان اسمه خليل تقي الدين، حكى عن استدعاء الفريق إبراهيم عبود رئيس البلاد آنذاك له بصورة عاجلة حيث قال: 

"تلقيت مكالمة هاتفية ذات صباح من رئيس المراسم بوزارة الخارجية يخطرني بتحديد موعد لي مع الرئيس عبود لأمر عاجل بعيد الظهر، وأن الأمر لا يحتمل انتظار إرسال مذكرة دبلوماسية. 

لم تكن بين لبنان والسودان أزمة حينئذ، ولم يكن في سماء العرب ما ينذر بشر أو يبشر بخير. 

تملكتني الحيرة، وقضيت كل ذلك الصباح في ضيق شديد، أقلب الأمر يمنة و يسرة.

دار بخلدي أن الحكومة اللبنانية أو الرئيس اللبناني قد بعث برسالة لم أدر عنها، فيها ما فيها.

لم أستقر على رأي ولم أصل إلى ما ينير لي الطريق. 

قررت أن أستعد للأسوأ. 

ذهبت إلى موعدي مع الرئيس عبود، وهو رجل متواضع وودود وخجول. 

استقبلني فور وصولي ولكن بفتور ظاهر من غير عداء، ثم دلف إلى الأمر الخطير الذي جعله يستعجل المقابلة.".

استطرد السفير تقي الدين في روايته ومضى إلى القول:

"تمخّض الجبل فولد فأرا.

لقد كان في خدمتي طباخ سوداني ماهر ولكنه طاعن في السن، فصار ينسى بعض الأشياء ويتجاهل في بعض الأحيان أوامري وطلباتي عن قصد أو غير قصد، مما دفعني في يوم من الأيام إلى تقريعه بحدة متناسيا فارق السن ولطف الرجل، أتبعت التقريع بحسمٍ في المرتب، ولم اكتف بالتوبيخ بل وجهت إليه إنذارا بالفصل إن عاد إلى ذلك. 

لم أحسب قط أنه سيذهب إلى رأس الدولة يشكوني إليه، وأن الرئيس سيأخذ المسألة على محمل الجدّ إلى درجة تدفعه لأن يقوم شخصيا باستدعاء السفير. 

قال لي الرئيس إن الرزق على الله ولكن كرامة كل سوداني تعنيه هو بالذات، ولا يتسامح فيها أبدا، ولذلك أراد أن يبلغني هذه الرسالة ولفت نظري إلى هذا الموضوع، وأنه سيكتفي باعتذار للطباخ عما بدر مني، وأن اصرفه عن الخدمة مكرما معززا، إن لم أشأ بقاءه في عمله. 

اعتذرت للرئيس أولا عن ثورتي على الرجل، ثم رويت له بعض أفعاله التي أنستني وقاري. 

ووعدته أنني سأعتذر له فور عودتي إلى السفارة، وأنه سيبقى على رأس عمله. 

وهذا ما جرى.

لم يكن ذلك الطباخ من أقرباء الرئيس، كما لم يكن من قبيلته أو منطقته. 

هزّني ذلك الموقف الإنساني والسياسي والدبلوماسي والإجتماعي وما شئتم من الوصف، حتى يومنا هذا.".

تلك رواية خليل تقي الدين، فأين كرامة السودانيين اليوم من ذلك الموقف، في ذلك الزمان...؟!