الجمعة، 15 مارس 2013

عندما بكى عباس محمود العقاد في الخرطوم

كان ذلك في شهر يوليو عام 1942م، إبان الحرب العالمية الثانية.

في ذلك الوقت اشتد لهيب الحرب، وكانت جيوش هتلر وموسليني بقيادة روميل تكتسح جيوش الحلفاء فى شمال أفريقيا، حتى وصلت العلمين، وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من القاهرة التي كانت مكفهرة الوجه، تعج بالجنود والجواسيس من كل جنس وتهيأت جيوش روميل لدخول مصر، بينما احتلت جيوش موسليني كسلا والكرمك وتهيأت لاحتلال السودان. 

فى مثل تلك الظروف كان لا بد أن يتراجع صوت الفكر ويعلو صوت السلاح، مصداقا لقول أبى تمام:

السيف أصدق أنباءا من الكتبِ
في حده الحد بين الجد واللعبِ

عندها ضاق المفكر الكبير عباس محمود العقاد بمصر كلها وقرر أن يهجر القاهرة مؤقتا، وهي الحبيبة إلى نفسه، وكان أن شد الرحال إلى الإخوة والأشقاء فى جنوب الوادي (السودان). 

كانت زيارة العقاد إلى السودان فى حد ذاتها حدثا أدبيا كبيرا لم تقلل من أهميته ظروف الحرب، وقد وصف أحد أدباء السودان كيف استقبل وزملاءه خبر وصول العقاد إلى الخرطوم قائلا:

"وذات ليلة ونحن حول المذياع نرقب تطورات الحرب وأخبارها، جاء المغفور له الأستاذ عثمان شندي، وبأسلوبه المرح الضاحك زف إلينا خبر وصول الأستاذ عباس محمود العقاد للخرطوم، ولم يكن هذا النبأ بأقل أهمية وخطورة مما كنا نسمع من الراديو".

(حسن نجيلة - ملامح من المجتمع السوداني - الطبعة الأولى ص 235). 

كانت للعقاد - مثله فى ذلك مثل الكثيرين من أبناء جيله - صلات واسعة مع الشعراء والأدباء فى السودان، حيث راسله بعضهم وعرفه البعض الآخر عن قرب، ولم يكن معروفا في السودان والدول العربية فحسب وإنما تعدى كل ذلك للعالمية، وقد وصل العقاد إلى تلك المنزلة الرفيعة بفضل علمه الغزير وثقافته العالية ومساهماته الواسعة وكتاباته القيمة فى ميادين الأدب والفكر والسياسة وآرائه الجريئة التى كان يرسلها فى شجاعة غير عابئ بغضب الناس عليه أو رضائهم عنه. 

أتاحت زيارة العقاد لأبناء السودان فرصة نادرة، اغتنمها الأدباء لتكريم ذلك العبقرى الفذ، فتوافدوا على مكان إقامته، وأقاموا لاستقباله العديد من الليالي والمهرجانات الشعرية.

وكانت فترة إقامته فى العاصمة السودانية (نحو أربعين يوما) سلسلة متصلة من اللقاءات الأدبية والفكرية.

وقد وصفها أحد الأدباء قائلا:

"مضت أيام العقاد بيننا كلها أعياد ثقافة وأدب".

كيف لا وقد كانو يعتبرونه من أفذاذ رواد الثقافة فى أسمى معانيها، و كان لا بد أن يترك كل ذلك أثره العميق فى نفس ذلك الأديب الكبير. 

ومن أهم اللقاءات الفكرية فى تلك الفترة كانت تلك المحاضرة عن الثقافة، والتي ألقاها العقاد فى دار الثقافة بالخرطوم، وقد أجمع مؤرخوا تلك الفترة من الرواد على أن دار الثقافة لم تشهد قبل ذلك اليوم مثل ذلك الحشد من المثقفين وعشاق المعرفة الذين حرصوا على الإستفادة من علمه الغزير.

وأقام الأدباء السودانيون فى نفس الدار حفلا أدبيا نادرا لتكريم الكاتب الكبير، شمل آراء ودراسات نخبة من الأدباء السودانيين في إنتاج العقاد الفكري، سواء كان ذلك شعرا أو نثرا.

 وشارك العقاد فى ذلك الحفل شارحا ومحللا وناقدا. 

وفي مناسبة أخرى زار العقاد دار الخريجين بأم درمان بدعوة من بعض الأدباء السودانيين ليتعرف على أعضائه من الشعراء والأدباء، وجلس بينهم يتسامر معهم فى ود ويدير الحديث في اتجاهات مختلفة بأسلوب شيق ساحر، وبعد أن تشعبت الأحاديث قال قائل للعقاد إن الشاعر محمود الفضلي يجيد إنشاد الشعر، فالتفت إليه العقاد وطلب منه أن ينشده شعرا، فانطلق ينشد قصيدة العقاد (ليلة الوداع) والتي مطلعها: 

أبعدا نرجي أم نرجي تلاقيا
كلا البعد والقرب يهيج ما بيا

إذا أنا أحمدت اللقاء فإنني
لأحمد حينا للفراق أياديا

ألا من لنا فى كل يوم بفرقة
تجدد ليلات الوداع كما هيا

ليالٍ يبيح فيها الدل زِمَامَهُ
ويرخص فيها الشوق ما كان غاليا

غدا ننظر البدر المضوئ فوقنا
وحيدين من دارين لم تتلاقيا

بنا أنت من بدر وددت لو أنه
يبدو على الأفق أينما كنت ثاويا 

استرسل محمود فى إنشاده الشجي لذلك الشعر العذب السلس والعقاد متكئ على مقعده، وقد أرهف السمع 
والقوم يتطلعون إلى وجهه خلسة ويرقبون تعابير ذلك الوجه، ومضى الصوت العذب في إنشاده: 

أشم شذى الأنفاس منك وفى غد
سيرمى بنا البين المشت المراميا

وألثمه كيما أبرد غلتي
وهيهات لا تلفى مع النار راويا

فقبلت كفيه وقبلت ثغره
وقبلت خديه وما زلت صاديا

وتلمَّس كفي شعره فكأنني 
أعارض 
سلسالا من الماء صافيا

كأنا نذود البين بالقرب بيننا
فنشتد من خوف الفراق تدانيا 

ويصف حسن نجيلة ذلك المشهد قائلا:

"أخذت أمعن النظر فى العقاد ومحمود ينشد هذا الشعر السلس العذب، إن يدي العقاد ترتجفان، وقد ارتسمت على وجهه انفعالات من يعاني ثورة نفسية حادة".

وكان العقاد يصغي بكل حواسه ومحمود لا يزال ينشد: 

ولما تقضى الليل إلا أقله
وحان التنائي جشت بالدمع باكيا

فأقبل يرعاني ويبكي وربما
بكى الطفل للباكي وإن كان لاهيا

وزحزحني عنه بكف رقيقة
وأسبل أهداب الجفون السواجيا

وأسلمت كفي كفه فأعادها
وقلبى فهلا أرجع القلب ثانيا

فلم أر ليلا كان أطيب مطلعا
وأكأب أعقابا وأشجى معانيا

فيا من يعيد الدهر من حيث بدا
أعد لي ليلات بمصر خواليا

إن كان لي في مقبل العيش مدة
فيا ليت يغدو مقبل العيش ماضيا 

ويستمر حسن نجيلة فى وصفه لذلك المشهد الفريد:

"وهنا انهار العقاد، وإذا بوجهه يختلج والدموع تترقرق في عينيه ثم تنساب تباعا، وصمتنا برهة ذاهلين، ولكن محمودا يعود فيصل إنشاد ما بقي من القصيدة التي أثارت كوامن ذكريات العقاد حتى دمعت عيناه، وانتهى محمود من إنشاده، وران على مجلسنا الصمت وأبصارنا عالقة بالعقاد الذي ما زال متكئا على المقعد وقد غطى وجهه بيده اليسرى كمن استغرق فى حلم طويل". 

رواية أخرى لنفس الحادثة، وصف محجوب عمر باشري ذلك المنظر المؤثر بقوله:

"وبكى العقاد ونزلت دموعه، وصاح الشاعر حيدر موسى: لقد بكى الجبار".

(محمود عمر باشري - رواد الفكر السوداني، ص 356). 

نعم، في ذلك الموقف الفريد، وعلى الرغم من كبريائه وعزة نفسه، لم يملك العقاد - وهو العصي الدمع - إلا أن يترك لدموعه العنان على مرأى من الناس، خلافا لما فعل أبو فراس الحمداني عندٌما قال: 

أراك عصى الدمع شيمتك الصبرُ
أما للهوى نهي عليك ولا أمرُ

بلى، أنا مشتاق وعندي لوعة
ولكن مثلى لا يذاع له سرُّ

إذا الليل أضوانى بسطت يد الهوى
وأذللت دمعا من خلائقه الكبرُ 

بكى العقاد وهو يجد تلك الحفاوة من أشقائه في السودان، ويلمس إكبارهم له ولوعتهم لفراقه، وهو يتأهب للعودة للقاهرة.

هناك تعليقان (2):