الثلاثاء، 31 يوليو 2012

غفوةٌ بينَ حلمين - للشاعر السوداني الشاب الصديق عمار المعتصم

الشاعر عمار المعتصم

من قولِ كن كانَ القصيدْ...
ومضى يشقُّ طريقه في الآه مكفوفا سعيدْ...
ما كانَ يعلمُ أن عينا من وراءِ الوقتِ
تحرسُ ظلَّهُ
وتقودهُ نحوَ اكتشافِ النورِ
في الليلِ البعيدْ...
من قولِ كن
ذابَ الحديدْ...
وغدى رذاذُ الماءِ أشبهَ بالجليدْ...
من قولِ كن كنـا
وما زلنا نحاولُ أن نغادرَ ذكرياتِ الشرنقهْ...
وهواجسٌ في الروحِ تسحبُنا إلى التيارِ
تسحبُنا إلى التيارِ
ترفعُنا لحبلِ المشنقهْ...
ويدٌ تلوِّحُ في مدى التاريخِ
أنْ يا أيها الشعراءُ
قد حانَ الفِراقْ...
لكمُ النزيفُ على امتدادِ الحبرِ في أرواحكم
وليَ العناقْ...
بابي يحدِّقُ خارجَ الأسوارِ
يسمعُ نبضَ قنبلةٍ تنامُ على شهيدْ...
ونوافذي طلّت على المجهولِ تكشفُ ستره
وتظل تفعلُ ما تريدْ...
ياليت من وقفوا على الطابورِ أقلقهم نحيبُ النائمينَ
على مصائبهم
ولم يتكلموا
ياليتهم حزنوا قليلا
حينما اضطجعَ الرفاتُ على ذراعِ المِحرقهْ...
وتأهبوا للموتِ قبلَ أوانهِ
فالموتُ لا يهبُ الخلودَ ليسرقهْ...


من قولِ كن
سمِعَت قلوبُ الناسِ زقزقةً
لطيرٍ مـا على كتِفِ البراقْ...
طيرٌ يُزقزقُ دون منقارٍ
ولكنَّ الغناء لهُ مذاقْ...
شتان بين سحابتين شقيتينِ
تمرَّدت إحداهما في يوم عاصفةٍ
لتهطلَ في الصعيدْ...
وسحابةٌ ظلَّت تؤانسُ حزن من ناموا
بساحةِ ظلِّها الرَّطِبِ الرَّغيدْ...
إنِّي لأسمعُ صوتَ فرعونٍ غريقٍ
قال: آمنتُ
استجبتُ
خسئتُ
ردُّوني لأمنحكم ثقهْ...
وهو الذي سلبت يداهُ حياتهُ
وتجرَّعَ البحرَ الكبيرَ
بملعقهْ...


من قولِ كن
آمنتُ أنَّ الليلَ أجبنُ من مشى في الأرضِ
دونَ مضايقات
وهوَ الذي يمشي وراء الشمسِ منكسرا
ليرقصَ كالفتاةْ...
آمنتُ أن البحرَ ملحٌ
أن لونَ الماء يلبسُهُ العراةْ...


وأنا لبستُ الصمتَ
فانفجرَ الكلام قنابلا
وهوت فراشاتُ الحكاية للجحيمْ...
أمشي وأُشفقُ أن أدوسَ الأرض
أضحكُ ضحكةَ الفرحِ الأليمْ...
فهناك من لا يعرفون الحب
من لا يعرفون الصبرَ
من لا يعرفونَ السيرَ في نبض الصراط المستقيمْ...
تبـا لمن سرقَ الضياءَ من الشموس المشرقهْ...
وسرى دخانا في رئاتِ الطيبينَ
وكلُّ شيءٍ صدَّقـهْ...
تبـا لنهرٍ فاترِ الخطواتِ يسحقُنا
فنصمتُ
ريثما يصحو الزمانُ
ليسحقهْ...
من قولِ كن
تتوضأُ الكلمات من سُحُب الرِّضى
وتتيهُ في نارِ المدى المتدفقـهْ...

الاثنين، 30 يوليو 2012

قصيدة سماسرة البلدان - للشاعر السوداني الشاب الصديق عمار المعتصم

الشاعر عمار المعتصم

ظمئتُ ،، فأينَ المــاء ،، لستُ أرى سوى
سماسـرةِ البلدانِ حولي تجمهروا

يبيعونَهُ جهراً وسراً وقوةً
فليتَ الذي باعَ الحضاراتِ يخسـرُ

وليتَ الذي قد ضاعَ مني ،، يعودُ لي
وليتَ الأسى يمضي ،، ولا يتكررُ

بحوووورٌ من الآمال جفَّـت مياهُـها
وفوقَ الثرى العذريِّ لحمٌ وخنـجرُ

وفي كلِّ يـومٍ يغرزُ الشـرُّ بذرةً
لينبُـتَ في خـدِّ البـلادِ الصَّنـوبـرُ !!

ظمئـتُ ،، فلم أشربْ من النيـلِ قطـرةً
فمـاء الجنوبيـيـن ماءٌ معكــرُ

بلادٌ بلا رجليـن .. تحبو على الأسـى
ونحنُ بلا عينيـن ،، نبكي ،، ونصبرُ

وصوتُ البُكـا يمتدُّ فينـا كأنـنا
ـ وقد ضاقَ عنَّـا البحرُ والنهرُ ـ قُـصَّـرُ

بلادٌ ،، كأنَّ الصمتَ أرخى حجابهُ
عليهـا ، وناداها إلى الموتِ قيصـرُ

بلادٌ ،، سمعتُ الآنَ صوتَ موائِهـا
فأينَ الأُلى شدُّوا الوثاقَ ليـزأروا

لماذا تريدونَ السلامَ ،، وقلبُكـم
على الرايـةِ البيضاءِ يجثو وينحـرُ ؟؟

مجدي محمد الأمين يقرأ تنويعات وطنية ووجدانية في بيت الشعر

 دار الخليج - ثقافة - الشارقة - إبراهيم اليوسف - الأربعاء 2010/9/29م 


جانب من مدينة الشارقة الإماراتية الجميلة

   نظم النادي الثقافي العربي بالتعاون مع بيت الشعر في الشارقة أمسية شعرية، مساء أمس الأول، في مقر النادي للشاعر مجدي محمد الأمين، بحضور لافت من جمهور ومتذوقي الشعر وقدم للأمسية د . إبراهيم الوحش.
الدكتور إبراهيم الوحش مقدم الأمسية الشعرية

   قرأ الشاعر الأمين مجموعة من قصائده المكتوبة وفق نظامي العمود والتفعيلة ومنها "بهذا المساء" و"ودعت خرطومي" و"أريد أريد" و"قابيل شكرا" و"لأن الجميع عداي يموت" و"طلسم" وغيرها، وقد كانت القصائد برمتها موغلة في الوضوح وشفافية الرمز والصور، ويقول في قصيدة "ودعت خرطومي":
شخصي الضعيف أثناء الأمسية الشعرية

وَدَّعْتُ (خُرْطُومِي) فَــلَــمَّــا جِــئْـتُـكُــمْ
أَلْفَـيْـتُــهَا مَـــعْـــقُــــودَةً بِـــــرِدَائِـــــي
فَأَنَــا ابْـــنُ سَـــرْحَتِهَا الَّتِي مَا أَقْبَـلَـتْ
إلا وَفِـي أَفْيَائِــــهَــــا أَفْــــيَـــــــائِـــــي 
طَمْيُ الْمَحَبَّةِ فِي دِمَـــــاءِ عُـــــرُوبَتِـي
وَتُـرَاثُ (تِرْهَاقَا) الْعَظِـــيــــمِ إِزَائِـــــــــي
الكاتب والصحفي الكردي السوري إبراهيم اليوسف صاحب هذا التحقيق
الأديبة المصرية كوثر موسى كانت حضورا في الأمسية الشعرية

 الشاعر الأردني نصر بدوان كان حضورا في الأمسية الشعرية


الشاعرة الفلسطينية الشابة همسة يونس كانت حضورا في الأمسية الشعرية

وإذا كانت الخرطوم، مسقط رأس الشاعر، قد استوقفته طويلا، وهو يرسم صورتها كما يريدها، إلا أنه لا يكف عن تناول همومه الخاصة، وأحلامه العريضة التي لا تنتهي:

أُريدُ التَّغزُّلَ في كُلِّ حُسْنٍ   
كَنُورِ الصَّبَاحِ
وعِطْرِ الأَقَاحْ...
أُريدُ مُنَاقَشَةَ الْعاشِقاتِ
وأَدْخُلَ تَحْتَ شُكُوكِ الْمِلاحْ...
أُريدُ تَفَاصيلَ وَجْهٍ
جَديدٍ عليْهِ البَرَاءَةُ
صِيغَتْ وِشَاحْ...
*****                                
أُريدُ أُمنطقُ في الْمُسْتحيلِ
وأَهْزِمَ بالْعَقْلِ جَيْشَ الْمُحَالْ...
أُريدُ التَّورُّطَ في قَتْلِ يأْسي
وأنْ أَتعلَّمَ معنى النِّضَالْ...
أُريدُ أُجَاهِرُ بِاسْمِ الْيَقِينِ
وبِاسْمِ الحَنِينِ وبِاسْمِ الْجَمَالْ...
أُريدُ مَعِينًا من الصَّبْرِ
يَمْنَحُ قَلْبي احتمالا
يُسَمَّى احْتِمَالْ...
أُريدُ أضُمُّ الْحَقِيقَةَ حتى
تَفرَّ بِصَدْرِي ظُنُونُ الْخَيالْ...
*****

الدكتور عمر عبد العزيز رئبس مجلس إدارة النادي الثقافي العربي بالشارقة

   اتكأ الشاعر على عدد من الرموز في قصائده، وبدا حريصا على وضوحها، حتى وإن كانت كلمة "طلسم" بدت مترددة في نصوصه، كعنوان لقصيدة، أو كجزء من عنوان لقصيدة أخرى، أو كمفردة ضمن السياق في إحدى قصائده، ولعل لجوء الشاعر إلى قصة قابيل وهابيل، جاء كموقف منه إزاء مقتل الإنسان على يدي أخيه الإنسان، ما دفعه لمخاطبة قابيل مكررا عبارة: قابيل شكرا، بلغة غارقة في السخرية، متسلحا بقصيدته التي يجد فيها خير رد على ما يدور من حوله، كي تكون القصيدة ملاذه الوحيد مما يلم به من أوجاع ومتاعب:
 شعار بيت الشعر في الشارقة

"قابيل" شكرا ألف شكرٍ
فالمدى أهداك أن تختار ما بين الغواية والفكاكْ...
فاخترت أن تمضي وحيدًا آثمًا
في كل منعطفٍ ومنعرجٍ أجنِّ...
تربت يداكَ فما الذي
أغراك بالدُّنيا وما هي بالمقرِّ المطمئنِّ...
فاغسل هوى التَّاريخ بالمطرِ الرَّذاذِ
إذا أردت ولذ بصمتك يا مُغنِّي...
"قابيل" شكرًا...
"قابيل" شكرًا...
ثمَّ سادَ الصًّمت في سفحٍ
تدحرجَ صخرهُ
واشتاظ بركانٌ بهِ من فعلِ طاغيةِ التَّجني...
"قابيل" شكرًا...
"قابيل" شكرًا...
"قابيل" شكرًا...

الشهادة التقديرية التي تم منحها لي بعد نهابة الأمسية الشعرية
بهذا المساءْ...
سأكتبُ شعري
على هَامةِ الكِبرياءِ النَّبيلِ
لعلَّ الكتابةَ تُحيي المواتْ...
لعلَّ الكتابةَ تقصمُ ظهرَ
البعيرِ الأخيرِ بركبِ الطُّغاةْ...
وتحملُ توبَتَهُ للجناةْ...
فإنَّ الكتابةَ طُهرٌ
يُعبِّرُ عن مُعطياتِ النَّقاءِ
الكسيرِ بسجنِ الْقَضاءْ...
وصدقٌ ينامُ على صفحةٍ
من عبير الوفاءْ...
وعاشقةٌ في دجى اللَّيل
ترفع كف التَّبتُّل نحو السماءْ...
ونورسةٌ في ضفاف الضَّياع
تودعنا في شحوب المساءْ...
ويبقى الدَّعاءْ...
كقافيةٍ في قصيد البقاءْ...
****
بهذا المساءْ...
سأشحذ للثأر عزم القتيلِ
تظلِّله نخلة من دماءْ...
فمن ذا يقول بأن الحكايةَ
في مجمل القول بعض هباءْ...
وبعض انتحالٍ وبعض غباءْ...
فهلا استقام على الأرضِ
زنبقةً من بكاءْ...
ليعرف أنَّ العبير عبيرٌ
برغم زكام الأنوفْ...
وأنَّ الحياة احتفالٌ
ونهرٌ من العشقِ
يجري برغم جميع الحتوفْ...
وأنَّ الحروف ستبقى
على قصة البوح ذات الحروفْ...
****

الأحد، 29 يوليو 2012

القلبُ لا يبغي سواكِ طبيبا - للشاعر السوداني الشاب الصديق عمار البطحاني

الشاعر عمار البطحاني


شـوقـي إلـيـكِ أذابـنــي تــذويــبــا
وأراقَ دمـــعـا فـي هـواكِ صبيبا

فــالـحبُّ أوقدَ نارهُ بـجوانـحي
و الـبـعدُ أشعـلَ في الفؤادِ لـهـيـبا

و الـروحُ قدْ تـاقتْ إليكِ بلهفةٍ
والقلبُ لا يبغي سواكِ طـبـــيــــبــــا

قد بـاتَ يـؤلمني و مـا بـي علةٌ
إلا الـفـراقَ فهلْ أراكِ قـريــبـا

أأموتُ من لهــفي عليكِ و أنتِ منْ
تــخفينَ شوقا لللقاءِ عجيـبـا

إن رمتِ تـعذيبي بـهـجركِ نـلـتهِ
أضـنـى فراقكِ مهجتي تـعذيـبــا

و لـربـمـا زادَ الــوصــالُ تـعــلةً
و لربـما كانَ الـفراقُ طــبـــيـــبــا

لولاهُ لـمْ يـفرحْ بـوصلٍ عاشقٌ
كلا ولا ضمَّ الحبـيـبُ حـبــيــبـــــا

و يحي وقد كان الغرامُ مطيتي
مذ صرتُ في حرمِ الـجمالِ أديبـا

فعرفتُ ذنبي أنني في ذا الـهـوى
أخطأتُ إذ خلتُ الغـرامَ مصيبا

الجمعة، 27 يوليو 2012

هات السلافة للشاعر السوداني الدكتور أبو بكر يوسف إبراهيم

صورة الشاعر

هات السلافة واسـقني من جامهـا
 فأنـا الأزاهر وهـي قـطر غمامها
 
إني ثملتُ وتلك عيني في الكـرى 
بين الدجـى والفـجر في أحلامـها
 
فتشــاهد الطــيف الحـبيب بجانبـي 
في ليلــة قـد لاح بــدر تمامـــها
 
السنبل المعطـار حــول جــبينه 
يـزري بريحــان الربــى وبشــامها
 
والياسمين قــلادةٌ فـي جـــيده 
والجيــد يغـني عـن زهــور نظامــها
 
في ثغـره الفـتان حمـرة جمـرة 
هي مثل نفسي في اشتداد ضـرامها
 
فـي خـده الـرّيـان بسمة زهـرةٍ 
زادت بـها الأشــواق حَــرَّ أوامــها
 
فـي صوته المعسول رنَّـةَ دوحـة 
تهـتز صـبحا مـن هديـل حمامـها
 
أنـفـاســه فيـها الحـــنان بحـرقــة
ذابــت لـها مهــجٌ بنـار غرامـها
 
والقــرط ميّـــاسٌ بجــنح ذؤابــةٍ
 يـــا ليـلـةً لمـــع الســنا بظلامــها
 
وهـــواء وهــمٍ في النفوس مجنح
 أوليس هذا الحـسن مـن أوهامـها
 
إن النـوى، ويلاه من تلك النـوى 
شطّتْ وزاد الصبر مـن آلامـها
 
الصـبح ليلتـها وليــل صـبحـها
 أنــا لا أميــز شـهرها مــن عامـها
 
لـو قيـل لي ماذا تشتهيه حشاشة 
لك من زمانـك قـبل يــوم حمامها
 
مـا اختـــرتُ إلا أن أراه هنيـهة 
هــذا الـذي ترجــوه مــن أيـامـها

قصيدة السودان للأديب المصري الكبير علي الجارم - 1941م





 
الصور أعلاه للأديب المصري الكبير علي الجارم

 
يا نَسْمَة ً رنّحتْ أعطافَ وادينا
قِفي نُحيِّيك أو عوجي فحيِّينا

مرَّتْ مع الصبح نَشْوَى في تكسُّرها
كأنَّما سُقِيتْ من كفِّ ساقينا

أرختْ غدائرَها أخلاطَ نافِجةٍ
وأرسلتْ ذيلها وردا ونِسْرينا

كأنّها روضة ٌ في الأفقِ سابحةٌ
تمجُّ أنفاسُ مَسْراها الرياحينا

هبَّتْ بنا من جنوبِ النيلِ ضاحكة ً
فيها من الشوقِ والآمالِ ما فينا

إنّا على العهدِ لا بُعدٌ يحوِّلنا
عن الودادِ ولا الأيامُ تُنْسينا

أثرتِ يا نسمَة السودانِ لاعجةً
وهِجْتِ عُشَّ الهَوى لو كنتِ تدرينا

وسِرْت كالحلم في أجفان غانية
ونشوة الشوق في نجوى المحبينا

ويحي على خافقٍ في الصدر محتبسٍ
يكاد يطفر شوْقا حين تسرينا

مرّت به سنواتٌ ما بها أَرَجٌ
من المُنَى فتمنّى لو تمرّينا

نبّهتِ في مصرَ قُمْريًّا بِمُعشبة ٍ
من الرياض كوجهِ البِكْر تلوينا

فراح في دَوْحِهِ والعودُ في يده
يردّد الصوتَ قُدْسيا فُيشْجينا

صوتٌ من اللّه تأليفاً وتهيئةً
ومن حفيفِ غصونِ الروْضِ تلحينا

يَطيرُ من فَننٍ ناءٍ إلى فَنَنٍ
ويبعَثُ الشدْوَ والنجوَى أفانينا

يا شاديَ الدَوْحِ هل وعدٌ يقربُنا
من الحبيبِ فإنَّ البعدَ يُقْصينا

تشابهت نَزَعاتٌ من طبائعنا
لما التقتْ خَطَراتٌ من أمانينا

فجَاء شعريَ أنّاتٍ مُنَغَّمةً
وجاء شعرُك غَمْرَ الدمع محزونا

شعرٌ صَدَحنا به طبعاً وموهِبَةً
وجاشَ بالصدرِ إلهاماً وتلقينا

والنَّفْسُ إنْ لم تكنْ بالشعرِ شاعرة ً
ظنَّتْه كلَّ كلامٍ جاء موزونا

تعزّ يا طيرُ فالأيامُ مقبلةٌ
ما أضيقَ العيشَ لو عزّ المُعَزّونا

خُذِ الحياة َ بإيمانٍ وفلسفةٍ
فربّ شرٍّ غدا بالخيرِ مقرونا

فَكمْ وزنّا فما أجدتْ موازنةٌ
في صَفْحة ِ الغيبِ ما يُعْيي الموازينا

الكون كوَّنه الرحمنُ من قِدَمٍ
فهل تريدُ له يا طيرُ تكوينا

إن المْنَى لا تُواتي من يهيمُ بها
كالغيدِ ما هجَرتْ إلاّ الملحّينا

تبكِي وبينَ يديْكَ الزهرُ من عَجَبٍ
والأرضُ تبرا وروْضاتُ الهَوى غِينا

والماءُ يسبَحُ جْذلانَ الغديرِ إلى
منابتِ العُشْبِ يُحييها فُيحيينا

والزهرُ ينظرُ مفتوناً إلى قَبَسٍ
يُطِلُّ بين ثنايا السُحْبِ مفتونا

قد حزْتَ مُلْكَ سليمانٍ ودولته
لكَ الرياحُ بما تختارُ يجرينا

ما أجملَ الكونَ لو صحّتْ بصائرُنا
وكيف نُبْصِرُ حُسْنَ الشيءِ باكينا

اللّه قد خلق الدنيا ليُسعدنا
ونحن نملؤُها حُزنا وتأبينا

إن جُزْتَ يوما إلى السودانِ فارْع له
مودّةً كصفاءِ الدرِّ مكنونا

عهدٌ له قد رَعَيْنَاهُ بأعيُنِنا
وعُرْوة ٌ قد عقدناها بأيدينا

ظِلُّ العرُوبة ِ والقرآنِ يجَمعُنا
وسَلْسَلُ النيل يُرويهم ويُروينا

أشعّ في غَلسِ الأيام حاضرُنا
وضاء في ظُلْمة ِ التاريخِ ماضينا

مجدٌ على الدهر فاسألْ مَن تشاءُ به
عَمْرا إذا شئتَ أو إنْ شئتَ آمونا

تركتُ مِصْرَ وفي قلبي وقاطرتي
مراجلٌ بلهيبِ النار يَغْلينا

سِرْنا معا فُبخارُ النار يدفَعُها
إلى اللقاء ونارُ الشوقِ تُزجينا

تَشقُّ جامحة ً غُلْبَ الرياضِ بنا
كالبرقِ شقَّ السحاب الحُفَّلَ الجونا

وللخمائِل في ثوب الدجَى حَذَرٌ
كأنّها تتوقَّى عينَ رائينا

كأنهنَّ العَذارَى خِفْن عاذلةً
فما تعرّضْنَ إلاَّ حيثُ يمضينا

وللقُرَى بين أضْغاثِ الكَرَى شَبَحٌ
كالسرِّ بين حنايا الليلِ مدفونا

نستبعدُ القُرْبَ من شوقٍ ومن كلفٍ
ونستحث وإنْ كنَّا مُجدّينا

وكم سألْنا وفي الأفْواهِ جابَتُنا
وفي السؤالِ عَزاءٌ للمشوقينا

وكم وكم ملَّ حادينا لجاجتنا
وما علينا إذا ما ملّ حادينا

حتَّى إذا مابدتْ أَسْوانُ عن كثبٍ
غنّى بحمدِ السُّرى والليلِ سارينا

وما شجانيَّ إلاّ صوتُ باخرةٍ
تستعجلُ الركبَ إيذانا وتأذينا

لها ترانيمُ إنْ سارتْ مُهَمْهِمَة ً
كالشعرِ يُتْبعُ بالتحريكِ تسكينا

يا حُسنَها جنَّة ً في الماء سابحة ً
تلقى النَّعيمَ بها والحورَ والعينا

مرَّتْ تهادَى فأمواجٌ تُعانقها
حيناً وتلثِمُ من أذيالها حينا

والنَّخلُ قد غَيَّبتْ في اليمِّ أكثرَها
وأظهرتْ سَعَفا أحْوَى وعُرْجونا

ما لابنة ِ القَفْرِ والأمواه تسكُنُها
وهل يجاورُ ضَبُّ الحرَّة النونا

سِرْ أَيُّها النيلُ في أمْنٍ وفي دَعَة ٍ
وزادك اللّه إعزازا وتمكينا

أنْتَ الكتابُ كتابُ الدهر أسطرُهُ
وَعَتْ حوادثَ هذا الكون تدوينا

فكم مُلوكٍ على الشَطيْنِ قد نزلوا
كانوا فراعينَ أو كانوا سلاطينا

فُنونُهم كنّ للأيام مُعْجِزةً
وحُكمهم كان للدنيا قوانينا

مرّوا كأشرطة ِ السّيما وما تركوا
إلا حُطاماً من الذكرى يُؤَسِّينا

إنا قرأنا الليالي من عواقِبها
فصار ما يُضحكُ الأغْرارَ يُبكينا

ثم انتقلنا إلى الصحراءِ تُوسِعُنا
بُعْداً ونُوسُعها صبراً وتهوينا

كأنّها أملُ المأفون أطلقهُ
فراح يخترق الأجواءَ مأفونا

والرملُ يزخرُ في هَوْلٍ وفي سَعَة ٍ
كالبحرِ يزخَرُ بالأمواجِ مشحونا

تُطلُّ من حَوْلها الكُثْبانُ ناعسة ً
يمدُدْنَ طَرْفا كليلا ثم يُغْفينا

وكم سَرابٍ بعيدٍ راح يخدَعُنا
فقلت حتى هُنا نلقى المُرائينا

أرضٌ من النوم والأحلام قد خُلِقتْ
فهل لها نبأُ عند ابن سيرينا

كأنما بسط الرحمنُ رُقْعتها
من قبل أن يخلُقَ الأمواهَ والطينا

تسلَّبَتْ من حُلِيِّ النَبْتِ آنفة ً
وزُيِّنت بجلالِ اللّه تزيينا

صمْتٌ وسحرٌ وإرهابٌ وبعدُ مدىً
ماذا تكونين قولي ما تكونينا

صحراءُ فيكِ خَبيئا سرُّعِزَّتِنا
فأفصحي عن مكانِ السِّر واهدينا

إنّا بنو العُربِ يا صحراءُ كم نَحتت
من صخركِ الصلْدِ أخلاقا أوالينا

عزّوا وعزتّ بهم أخلاقُ أمّتِهم
في الأرضِ لمّا أعزّوا الْخُلقَ والدّينا

مِنَصّة ُ الحكْم زانوها ملائكة
وجَذْوَة الحرب شبّوها شياطينا

كانوا رُعاة َ جِمالٍ قبلَ نهضتِهم
وبعدها مَلأوا الآفاق تمدينا

إن كبّرتْ بأقاصي الصين مِئْذَنة ٌ
سمعتَ في الغرب تهليلَ المصلّينَا

قف يا قِطارُ فقد أوهى تصبُّرَنا
طولُ السفارِ وقد أكْدَتْ قوافينا

وقد بدتْ صفحة ُ الْخُرْطوم مُشْرقة ً
كما تجلَّى جلالُ النورِ في سينا

جئنا إليها وفي أكبادنا ظمأٌ
يكاد يقتُلُنا لولا تلاقينا

جئنا إليها فمن دارٍ إلى وطنٍ
ومن منازِل أهلينا لأهلينا

ياساقيَ الحيِّ جدّدْ نَشْوَة ًسلفتْ
وأنت بالجَبَنَاتِ الحُمُرِ تسقينا

واصدَحْ بنونية ٍ لما هتفتُ بها
تسرّق السمع شوقي وابنُ زيدونا

وأحْكِم اللحنَ يا ساقي وغنِّ لنا
إنَّا محّيوكِ يا سلمى فحيينا

"رسالتان لأمي وأبي" للكاتبة السودانية "إيناس عدوي"


(1)
إلى أمي في ذكرى عيدها 
"الحنين إلى الدفء"

أمي في يوم عيدك كم أتمنى أن تكوني معي لا تفصلنا المسافات والحدود، أتمنى أن أرتمي في حضنك الدافئ لأشعر بالأمان لكي ترتوي نفسي العطشى، لكي أشعر بالحياة فالبعد عنك أمي خاصة في هذا اليوم هو أصعب من الإحتمال، أو تعلمين أني أكره الخروج في هذا اليوم حتى لا أرى الأبناء وهم يحملون الهدايا والزهور إلى أمهاتهم كي يحتفلون بهن ومعهن وأنا لا أستطيع أن أفعل ذلك لأن حدود اللا مدى تمنعنى من ذلك، أمي يا نبض الحياة يأتي العيد اليوم وأنت بعيدة مكانيا ولكنك هنا في قلبي تملأينه حبا وحنانا ودفئا ويكفيني أن أسمع صوتك لكي أشعر بأن الله قد أعطاني الكثير.

أمي كم أشتاق إليك، أشتاق أن أراك أن أضمك أن أقبل جبينك فكل حب وحنان العالم لا يماثل حبك وحنانك، فحب الأم هو حب مختلف هو بلسم وسلسبيل عذب يروي نفوسنا وأرواحنا، هو الدواء لجروح الروح وهو ما يفعل بنا الأعاجيب، أمي حبك وحنانك هو نهر ينبع من روحك وجسدك ليصب في أرواحنا وأجسادنا فيعطينا الحياة ويزرع في نفوسنا الأمل ويثمر في حياتنا نجاحا أنت مصدره وأساسه ولولاك ما كنا ولا كان النجاح، أنت من وضعت الأساس الذي قام عليه البناء، وكم من مرة حطمت إرادتنا العراقيل والمشاكل ورغبنا أن نكتفي بما حققنا في الحياة ولكنك كنت ترفضين وتثورين وتصرين على أن نكمل الطريق، كنت تخاطبيننا مرة بالحكمة ومرة بالصرامة فتعود لنا روح التحدي والإصرار ونمضي في دروب الحياة نلتمس مكانا نحفر فيه أسماءنا بجهدنا وكفاحنا وأنت من ورائنا تمنحيننا القوة تارة والأمل تارة أخرى، لم تعطينا الفرصة لكي نيأس أو نكل أو نمل فأنت دائما تشعرين بما نفعل أو نحس قبل أن نصرح به ولذلك تكتشفين أخطاءنا وضعفنا قبل أن يظهر للعيان.

أمي في عيدك أقولها بأعلي صوتي أنت أساس كل ما حققت ولولا دعمك ووقوفك إلى جواري لما تحركت من مكاني قيد أنملة، ولولا كل ذلك الحب والحنان لكنت اليوم بحال غير الحال.

أمي أهديك اليوم كل ما حققت وما سأحقق وأدعو الله أن يتغمدك بواسع رحمته وستظلين النور الذي ينير حياتي.

(2)
"أيها السامق فى قلبي"
   


أبي أيها السامق في قلبي رغم الغياب... يا روحا أحببتها وما كفاني فيها العشق... أبي يا نورا وهبني بعض ضوئه وبعضا من بركاته...

لا أكتب لك الآن لأبني عوالم من البلاغة والبيان... لا أستطيع في مقام الحزن عليك أن أفعل ذلك... فذكراك أكبر من الكلمات واللغة... كل اللغات على اتساعها تضيق بكلمة أبي... كل الحزن أقل من وقع فقدك وسطوة رحيلك... ليس رثاء متأخرا ما أكتبه الآن... ليس تمجيدا أو بحثا عن أمثالك... بل أكتب سعيا وراء التخلص من صيحات حنين لا تسأم من الفقد في دمي كلما خطرت في بالي... مرت شهور لم أبكيك فيها... الليلة بكيتك ملء عيني وقلبي... وكأنك غادرتني الليلة... فهل تسلل شبح النسيان لأروقة الذاكرة...؟!... هل عشش في ضفاف الجرح نبضه... وأورقت على غصن الفقد أوراقه...؟!... هل تجرؤ الذاكرة ألا تتذكرك...؟!... كنت أظن الإفتقاد أصعب في بدايته لأكتشف بأن ألمه وحرقته ووجعه تتصاعد وتتفاقم بمرور الوقت... إنه أشبه بجرح مفتوح مستعص على الشفاء... كم أفتقدك يا بعضا مني... في كل زاوية من حياتي ثمة صوتك... في كل ركن من عمري نبضك... وعلى ضفاف سنواتي شذاك... لا زلت لا أصدق كيف لحضورك الباهر أن يحكمه الغياب الأبدي...؟..!. لقد بت أعي يا والدي أن للحزن درجات ومراحل... وحزني عليك سيظل العمر بأكمله يشرب والأيام في مجري واحد... حزن مقيم يجاور قلبي... ينبض بنبضه... يتدفق في الشرايين متزامنا مع أنفاسي... حزني عليك يا أبي لا ينام... لا يهادن... لا يهدأ ولا يشيخ... كل ذكرياتي معك تأسرني وتقيدني بك... تجذبني مداراتك... تستبيحني... تعتقلني مثل لحظة هاربة من زمن الأوجاع... ذكراك يا أبي تتوغل في رسم شوقي كنهر جارف يغرقني... ذكراك مدينة حزن أشد الرحال إليها كل ليلة... أسكنها وأتجول في شوارعها... وأتقصى آثأر خطاك فيها... أنت يا والدي عوالم من الدفء... لا تعوضه شمس تحترق... لذا ما عدت أطيق كلمات الرثاء... ولم أعد أملك تعازي أقدمها في محراب اللغة... وهشاشة المعنى وأنا أقف على ذكراك... فأنت يا والدي أكبر من النسيان... وذكراك أقوى من الحياة ومن سيل اللحظات وفيض العمر الخاوي من حضورك... أبي سامحني يا ربيب روحي إذا أوجعتك برسالتي هذه... فأنا أحتاج عمرا آخر كي أبكيك... وسأظل عمري أبحث عن حزن يليق بك يا أبي...

يا لهذا الحزن الذي يغرس مخلبه عميقا في قلبي... هو الموت الذي يعرف كيف يختار فتصبح الخسائر لا تحتمل ويحق للقبر أن يهنأ فقد جاءه خير الرجال... لك من قلبي فى الذكرى السابعة لرحيلك الدعوات الطاهرة... بأن تحفك رحمة الله الواسعة... ويسكنك جنانه... ويجعل الفردوس الأعلى مثواك... آمين...

الدرويش الصغير "مصطفى ود بربر": أسطورة طفل سوداني كرمه الجيش البريطاني...!

 الدرويش السوداني الشهير في بريطانيا
 مصطفى أو جيمي في القاهرة بعد أن عادت القوات البريطانية إلى مصر 
مع الضابط الإنجليزي الذي تبناه فرانسيس دورم
 في شبابه القصير بعد أن صار ضابطا في الجيش البريطاني، الصورة في مدينة كورك الإيرلندية
 جنازته العسكرية في مقاطعة فرموي بعد وفاته بسبب التهاب رئوي - إيرلندا في 1910م
ابنته الوحيدة فرانسيس، نتاج زواجه القصير من جين قرين، توفيت في العام 1998م في أحد دور الرعاية للمسنين في إنجلترا، لم تتزوج و لم يكن لها ذرية

بقلم : يحيى العوض

نقلا عن موقع الصحفي ماضي أبو العزائم

كرمني الزملاء في رابطة الإعلاميين الإستقصائيين السودانيين باستجابتهم لمشروع توثيق تجارب الهجرة واللجوء والإغتراب لأجيال من أهل السودان، وبدأنا فى إعداد الدراسات والإستبيانات لإنجازه وكان أول الغيث دراسة أعدتها الرابطة عن أول أسير سوداني نقل إلى بريطانيا عام 1886م فى سابقة هي الأولى من نوعها.

وقام الزملاء الأعزاء بزيارة جامعة دارم البريطانية حيث يوجد أهم مركز للوثائق السودانية، وقابلوا الآنسة جين المشرفة على القسم، ووقفوا على الوثائق والصور الخاصة بهذه الواقعة التاريخية بمفاجآتها المدهشة.

المعروف فى تاريخ السودان أنه عندما بدأ الإمام محمد أحمد المهدي حصار الخرطوم وسقوطها فى 26 يناير عام 1885م، أرسلت قوة عسكرية لإنقاذ حاكم عام السودان الجنرال تشارلس غوردون وتحركت القوة من مصر متجهة إلى الخرطوم ولكن وهي فى طريقها أمرت بالرجوع بعد دخول قوات المهدي سراي الحاكم العام واغتيال غوردون، وبالفعل أخذت القوة في التقهقر في طريق العودة إلى مصر ووقعت بينها وبين قوات المهدي المنبثة فى الشمال عدة مناوشات، وعند منطقة عبري تقرر تجميع القوات للإستراحة، وأقيم المعسكر بالقرب من حلة "سيد أفندي" وأثناء إعداد المخيم تلقت الفرقة معلومات عن قارب شراعي ضخم محمل بعتاد عسكري ومؤنة لجيش المهدية ويحرسه عدد من المجاهدين الدراويش.

وقرر الجنرال ويلزي إرسال مجموعة لمهاجمة القارب مكونة من عشرين جنديا من الخيالة وخمسة وعشرين جنديا من كتيبة درام للمشاة والتي سميت باسم المدينة التى تقع شمال شرق بريطانيا، إضافة إلى مجموعة من جنود الهجانة المصرية.

وقطعت المجموعة ما يقارب 35 ميلا جنوبا، ولم تعثر على القارب، وقررت مجموعتان إلغاء المهمة والعودة إلى المعسكر، بينما أصرت مجموعة مشاة درام على إكمال مطاردة القارب، وبالفعل وبعد فترة وجيزة شوهد القارب قادما باتجاههم وكان الوقت ليلا والظلام يلف المنطقة، وأطلقوا نيرانا كثيفة تجاه القارب الذي أصيب واشتعلت فيه النيران وقفز معظم ركابه واختفوا وسط أشجار الشاطئ.

وتقدم الجنود إلى القارب وبين الأشلاء والحريق وجدوا رجلا طاعنا في السن مصابا في ساقه وقد نزف كثيرا وهو في حالة احتضار وإلى جواره طفل صغير يقارب السنة الثانية من عمره، يلبس جبة الدراويش المرقعة والمفصلة خصيصا له، وكان ملطخا بالدماء التى تطايرت من أشلاء الضحايا.

وعندما رآهم (وفقا للنصوص الموجودة في المركز والتي تتضمن يوميات القوة ومذكرات الجنرال آرثر) وقف منتصبا بجوار الشيخ المسن المصاب، موجها كلتا يديه الصغيرتين، مشيرا بسبابتي كفيه نحو الجنود وهو يصيح محاكيا صوت الطلق الناري: بوم... بوم... بوم ... موتوا... موتو ا...

وأثار المشهد دهشة وإعجاب وإشفاق الجنود، وبعد تفتيش القارب وتمشيطهم للمنطقة المحيطة به تقرر رجوعهم إلى كتيبتهم، وأخبرهم الرجل الجريح أن الطفل اسمه مصطفى وهو ابن لأحد شيوخ بربر من مجاهدي المهدية، وقد قتل بالرصاص عند مهاجمة القارب، وإن والدته وشقيقه، كانا فى القارب وتمكنا من الفرار.

وبعد هذه المعلومات بوقت قليل توفي الرجل المسن.

عندئذ قرر جنود كتيبة درام، أخذ الطفل معهم إلى معسكرهم، كأسير حرب.

وقدموه إلى النقيب الأسكوتلندي استيوارت قائد كتيبة مشاة درام  فأسماه جيمى الدرويش، ووصلت أنباء إلى الفرقة بأن قوات من الدراويش تتكون من ألفي جندي فى طريقها إليهم فصدرت الأوامر بإخلاء الموقع ومواصلة السير تجاه مصر.

وأحب الجنود الطفل مصطفى لكنهم فضلوا مناداته بالإسم الجديد جيمي الدرويش.

وصنع له النقيب استيوارت بردعة على مقاسه ثبتها أمام سرج حصانه.

ولقي الدرويش الصغير عناية واهتمام الجنود وأخذوا يلقنونه كلمات بالإنجليزية.

وبعد وصول الفرقة إلى مصر قدم النقيب استيورت الطفل إلى قادة القوات البريطانية الجنرال بتلر وبيكر باشا.

وبعد فترة تقرر سفر كتيبة مشاة درام إلى الهند على أن يلحق الطفل بإحدى المدارس التبشيرية أو دار لرعاية الأيتام فى مصر، إلا أن الكابتن استيورت كان أكثر تعلقا بالطفل وكذلك أفراد كتيبته، فكتبوا رسالة استرحام إلى قيادة القوات البريطانية للسماح لهم بأخذه معهم، وتعهدوا باقتطاع جزء من معاشهم التقاعدي ورواتبهم الشهرية مدى الحياة لتربية وتعليم الطفل.

وتجاوبت معهم كتائب أخرى مغادرة معهم إلى الهند، تبرعت بمبلغ روبية من مرتباتهم لتوضع فى حساب خاص باسم الطفل والذي تعدل اسمه مرة أخرى ليصبح، جيمس فرانسيس درام تيمنا بالمدينة التي قدمت منها الكتيبة التى انتمى إليها.

وتسابق الضباط والجنود لخدمة الطفل، اللفتنانت جيمي بيرلي يتولى إعداد الحمام الصباحي للطفل والإعتناء بملابس، كما تبرع آخر بقراءة قصص ما قبل النوم، ووافقت قيادة الجيش بمرافقة الطفل للكتيبة في رحلتها إلى الهند عام 1887م حيث التحق هناك بالمدرسة الخاصة بأبناء العسكريين.

اهتمت الصحف البريطانية بقصة الطفل السوداني وطغت على فشل حملة إنقاذ الجنرال غوردون.

ومن الهند انتقلت الفرقة ومعها طفلها إلى بورما، حتى بلغ الرابعة عشرة من عمره، ودخل تاريخ الجيش البريطاني، عندما تقرر إدخاله في الخدمة العسكرية، وكانت القوانين لا تسمح في ذلك الوقت بالتحاق السود بكل مخصصات الخدمة ومساواتهم بأقرانهم من البيض.

ونشطت حملة داخل الجيش وبمساندة الصحف، لاستثناء الدرويش الصغير واتخذت قيادة الجيش البريطاني فى بورما خطوة جريئة أثارت جدلا واسعا، لقرارها باستيعابه بكامل شروط الخدمة العسكرية ومخصصاتها، وكان ذلك خرقا لقوانين الجيش الصارمة، وكانت الملكة فكتوريا من المعجبين والمتابعين لقصة الدرويش الصغير وتدخلت لمنحه استثناءا تاريخيا وصدر فى يوليو 1899م، قرار خاص من قيادة الجيش البريطاني ليصبح مصطفى، الدرويش الصغير أول أسود يلتحق رسميا بالخدمة العسكرية البريطانية وأول جندي أسود فى تاريخ الجيش البريطاني ينضم إلى الخدمة الكاملة ويحمل الرقم 6758.

وبعد بورما تنقل فى أنحاء عديدة فى خدمة الإمبراطورية البريطانية.

وسجل فى ملف خدمته بأنه كان عسكريا ورياضيا ومن المتميزين جدا.

وفي عام 1902م عاد إلى مدينة درام واسقبل استقبالا حافلا من سكان المدينة.

وتزوج فى عام 1908م من جين جرين شقيقة نقيب فى الجيش فى قاعدة بيوشوب بأوكلاند.

وبعد فترة نقل إلى منطقة كورك بإيرلندا الشمالية، ونتيجة للطقس البارد هناك أصيب بالتهاب رئوي حاد وتوفي وعمره لم يتجاوز السابعة والعشرين، وشيع فى جنازة عسكرية.

وبعد ثلاثة أسابيع من رحيله أنجبت زوجته ابنته الوحيدة فرانسيس وعاشت في بيشوب أوكلاند حتى وفاتها عام 1998م.

وخصصت مدينة دارم بقاعة بلديتها معرضا يروى قصة حياته.

(أمدتني رابطة الإعلاميين الإستقصائيين السودانيين بمجموعة من الصور من بينها صورة له مع الجنرال وينزلي وهو فى الثانية من عمره ومع الجنرال ستيورت فى مصر، وصورة بالزي العسكري بعد التحاقه بالجيش وأخرى لمراسم تشييع جنازته وصورة لابنته فرانسيس).
Here, Jimmy is pictured at Aldershot in 1904 with the regimental mascot, a sheep, 'Robert Canning', or Billy as he was generally known. The sheep was acquired on board the Royal Indian Marine Ship 'Canning' when the 2nd Battalion was travelling from Mandalay, Burma, to Wellington, India in December 1900.
Jimmy came to Newcastle with the 2nd Battalion Band in July 1908, and made contact with his 'sister' Stella Robson, daughter of Colour Sergeant, later Major, Robson who helped to bring him up as a boy. He looks very smart in his civilian clothes, asking Stella 'What do you think of the masta, does he look all right'? He is planning to visit her and 'their' father, remarking, 'Roll on the 29th'.
In another photograph taken at the Corunna Barracks, Aldershot, in 1904, Jimmy is pictured with the rest of the Band.
This photograph of The Band of the 2nd Battalion The Durham Light Infantry was taken in India, at Poona, in March 1897. Jimmy would have been about 12 years old at the time and had not yet enlisted into the Army.