إن الخط
العربي كان ولا يزال واحدا من أهم الإنجازات التي يفخر بها العرب والمسلمون الكاتبون
بالحرف العربي في مجال الفنون الجميلة على مر العصور، وهذا الأمر قد تم تقديمه
للبشرية بكل فخر واعتزاز منذ قرون عديدة.
وبرغم
أهمية الخط العربي كثروة قومية للأمة العربية والإسلامية في مجال الفنون وفي جانب صناعة
الجمال فإنه وفق تقديري الخاص لم يأخذ
نصيبه الكافي من الدراسة والأبحاث بالشكل المرضي والمقنع الذي يلبي طموح وشغف محبي
هذا الفن على مستوى العالم.
إلا أن برنامج "كتاتيب" المبتكر من قبل إدارة الشؤون الثقافية بدائرة الثقافة في حكومة الشارقة استطاع أن يقطع شوطا كبيرا في هذا الجانب، وهو بلا شك أمر يستحق الإشادة والثناء والمديح، لما أحدثه من ثورة مضطردة ومتسارعة الخطى في نشر ثقافة الخط العربي كفن راق له أبعاده الجمالية المتقدمة بين عامة الجماهير في إمارة الشارقة المعطاءة.
ويهدف هذا البرنامج إلى تحقيق مجموعة من الأهداف السامية ضمن مناهجه العلمية المقررة والتي تشملها دورات خمس على مدار العام بمعدل شهرين لكل دورة منذ بدايته الفعلية في منطلق عام 2015م بعد أن أعلن عنه بالتزامن مع تتويج الشارقة عاصمة للثقافة الإسلامية للعام 2014م، وهو مستمر إلى هذه اللحظة، حيث تشرف عليه نخبة مختارة من الأساتذة الأكفاء والمتميزين بمعية أفضل الوسائل المتاحة تقليديها وحديثها، تلك الوسائل المسخرة والموظفة بصورة راقية في خدمة رسالة البرنامج السامية، إلا أن أهمها وأعظمها والذي يجسد قلبها النابض هو ربط الجماهير بشكل عام والناشئة على وجه التحديد في إمارة الشارقة بالدور الرسالي للمسجد في حضارتنا الإسلامية والإفادة من هذا الدور في تحسين الخط بشكل يعزز المعرفة الأخلاقية والثقافية، كما يساهم في تعميق الوعي لدى المجتمع بفن الخط العربي الأصيل، وجعل ممارسته تتم بصورة تلقائية ويومية كنتيجة حتمية للإهتمام به والإرتباط ببعده الجمالي وعمقه الرسالي.
"الحسن عبد الرؤوف إبراهيم" فتى سوداني ناشئ استفاد مع مجموعة أخرى من ناشئة مدينة "الذيد" من هذا البرنامج بصورة فعلية، تحت إشراف الأستاذ الخلوق والمبدع مصطفى شحاتة النشوي المشرف على منصة كتاتيب بمسجد عمار بن ياسر بقلب مدينة "الذيد" في إمارة الشارقة.
تحصل "الحسن" الفتى السوداني ذو الإبتسامة الأنيقة والشفافة والمريحة للنفس كديدن أهلنا في السودان على المركز الأول في مسابقة تحدي الخط التابعة لبرنامج "كتاتيب" في دروته الثالثة هذا العام 2018م عن فئة الناشئة وذلك في فن الكتابة بالخط الديواني، وقد أجريت هذه المسابقة في بيوت الخطاطين في قلب الشارقة ضمن تحد مضطرم الأوار ومشتعل المنافسة.
"الحسن"
أكد لنا بممارسته المتقنة للخط الديواني وفق تطوره المتمرحل عمريا أن كتابة الخط العربي تمثل حرفة راقية وجمال متفرد واتقان مبدع، وإتقان الخط هو بكل تأكيد
ملكة وموهبة تختلف من خطاط لآخر.
تفوق "الحسن" في الكتابة بالخط الديواني الذي يتسم بمزايا عديدة فهو من الخطوط الجميلة ويتميز بحروفه المتصلة والمنمقة ويتسم بانسيابيتها، وقد استخدم أول ما استخدم في البلاط العثماني، وقد نظر إليه العثمانيون بوصفه كنزا، وكانت تكتب به المراسلات والمخاطبات والفرمانات الحكومية، وكان خطا رسميا تكتب به رسائل الحكام والملوك، وكان الخطاطون الذين يكتبونه في كنف السلطنة يحظون بالرعاية، ويحصلون على مزايا ومكافآت كبيرة.
ومما كتب في شأن هذا الخط أنه يستمد جماليته من حروفه المستديرة والمتداخلة، لذا يصعب أحيانا التمييز بين الألف واللام فيه إن كانا في بداية الكلمة، وقد يلجأ الخطاط إلى ربط الحروف المنفصلة، مثل الراء والواو والألف والدال بالحروف التي تأتي بعدها، هذا وقد تفرع الخط الديواني إلى نوعين من الخط وهما الديواني العادي، وهو خال من الزخرفة، والديواني الجلي ذلك الذي تكثر فيه العلامات الزخرفية لملء الفراغات بين الحروف، ويستعمل في الزخارف.
والخط الديواني من الأنواع المستخدمة بكثرة في حياتنا المعاصرة، لتميزه باللين والطواعية، وإمكانية بسط مدّاته على مساحة اللوحة ليشكل صورة رائعة من الجمال.
عربيا، انتشر هذا الخط في أكثر من دولة وعلى الأخص سوريا ومصر والعراق، وتاريخيا عرف الخط الديواني باسم الخط الريحاني، لتناسق ألفاته ولاماته وتداخلها مع بعضها على شكل يشبه أعواد الريحان، كما أطلق عليه حديثا بالخط الغزلاني نسبة إلى الخطاط الشهير مصطفى بك غزلان، الذي عرف باتقانه على نحو بهر الخطاطين، كما شاع في الديوان الملكي المصري أيام الملك فؤاد على يد محمود شكري باشا رئيس الديوان الذي كان يحبذ كتابته ويجيده.
وعلى روعة وجماليات هذا الخط فإن الكثير من الخطاطين والنقاد الفنيين يعدونه واحدا من الخطوط السهلة.
وفي الإمارات يبرز اسم الخطاط الشهير محمد مندي الذي يوصف بأنه خبير في كتابة الخطوط، وفي العام 2010م وخلال معرض أبوظبي الدولي للكتاب، قام محمد مندي بتطوير خط ديواني خاص به، وأتاح استخدامه لعشاق اللغة العربية، كما وفره ضمن الشبكة العنكبوتية لمن أراد أن يستزيد علما ومعرفة بهذا الخط، ومحمد المندي خبير في هيئة أبوظبي للثقافة والتراث، وهو معروف بتجديده في كتابة الخط بوجه عام مبرزا جمالياته على نحو فني، وقد نبتت فكرة اهتمامه بتجديد الديواني مما شاهده وراعه من تلك الخطوط التي دخلت الكمبيوتر من قبل شركات لا تراعي جمال الحرف لا شكلا ولا مضمونا.
ومن
منطلق مسؤوليتي الأدبية كعاشق لفن الخط العربي وكأحد المنتسبين لبرنامج
"كتاتيب" الرائد في دورته الحالية، وكسوداني أهيم عشقا بوطني وأهله
الرائعين، فقد كان لزاما علي تهنئة ناشئنا السوداني الموهوب والمتميز
"الحسن" بصورة خاصة ولائقة، فهو خامة فنية واعدة ومبشرة بمستقبل مزدهر في فن
الخط العربي في السودان بل وفي العالم أجمع.
"الحسن" وكما أدهشني بملكته في تملك اليراعة ورسم الحروف في ورشة العرض الحي للخطاطين أدهشني أكثر باعتداده بالزي الوطني السوداني المتمثل في "الجلابيه" و"العمه"، حيث ظهر بمظهر مميز لنا نحن السودانيون حيثما حللنا أو ارتحلنا، وكم كنت أتمنى حقيقة أن أحظى بشرف ارتداء هذا الزي الأصيل والمتميز في مناسبات مهمة كمعرض إبداعات "كتاتيب" لهذا العام، إلا أن ظروف العمل وقدومي للمشاركة في المعرض بعد انتهاء دوامي الرسمي مباشرة هو ما حال دون حصول ذلك، لكن مبدعنا "الحسن" قد أثار بما كان منه حفيظة الغبطة لدي بصورة متعاظمة.
"الحسن" أدهشني أيضا بسجاياه الوديعة وعريكته اللينة وبديهته الحاضرة على قصر المدة التي حادثته فيها، وكذلك فقد أدهشني أيضا بملامحه البشوشة، وهي نفس الملامح التي ظهرت في وجه شقيقيه الأنيقين الذين كانا داعمين أساسين له في المعرض مع بقية أفراد أسرته، إذ شكل حضورهم الأنيق في معيته دليلا واضحا وجليا على معنى التماسك الأسري المتفرد عند السودانيين وشهرتهم به منذ القديم وبين مختلف الشعوب، فطوبى له بهم وطوبى لهم به.
وقبل أن أختتم مقالتي هذه عن "الحسن" أكرر تهنئتي له كخطاط واعد بإذن الله تعالى، وأحب أن أذكر أن الغرض الأساسي من كتابتها هو الشد على أزر "الحسن" بشكل خاص وتشجيعه بصورة محفزة وخاصة حتى يتمكن من مواصلة السير في هذا الطريق على صعوبته بحول من الله تعالى وقوة منه فيقدم لنا أفضل ما عنده من طاقة فنية مدخرة وموهبة وملكة مكنونتين في فن الخط.
ومن خلالها فإنه لا بد لي من تكرار وصيتي له حتى يتمكن من مواصلة الإهتمام بحرص وتركيز زائدين ويستمر في الإجتهاد بدأب وعزم عاليين من أجل كشف ما تبقى من ستر وأغطية تحجب أسرار الخط العربي عن متناول يديه المبدعتين وتحول بينهما وبين تمكنه من أمرها.
"الحسن" يحتاج للكثير حتى يتمكن من تملك
أدواته الفنية بشكل كامل فموهبته لا تخطؤها العين ولا ينكرها الناقد البصير على
حداثة سنه، فقط أكرر النصح لأسرته بضرورة
دعمه المتواصل وتهيئة المناخ المناسب له دائما وأبدا من أجل تنمية ملكته الفنية
وموهبته النادرة في فن الخط العربي، وهي مسؤولية جد جسيمة، وأمانة جد عظيمة، لكنهم على قدرها بإذن الله تعالى ولا نزكي على الله أحدا.
كما لا أنسى بأن
أتوجه بالشكر الجزيل للخطاط والفنان التشكيلي السوداني العالمي تاج السر الحسن، والذي كان حاضرا من خلف الكواليس ضمن لجنة تحكيم مسابقة تحدي الخط في دورة
"كتاتيب" الحالية، وهكذا يظل السودانيون منارة شامخة في أفق الفنون وفنارا
متوهجا في سماء الإبداع اللا متناه، فهم مصنع متكامل من مصانع الجمال محليا
وإقليميا وعالميا، وإن كان هذا الوصف قليلا في حقهم.
قال ياقوت المستعصمي: "الخط هندسة روحانية ظهرت بآلة جسمانية تقوى بالإدمان وتضعف بالترك، وهو مخفي قي تعليم الأستاذ وقوامه كثرة المشق، وتركيب المركبات، وترك المنهيات، وصفاؤه الباطن وحسنه بحسن النية ".
والله الموفق وهو من وراء القصد.
وافر الشكر
ردحذف