الأحد، 14 ديسمبر 2014

نائلة فزع - الملاك السماوي

"نوال" وجه ملائكي ذو تقاسيم دقيقة ومريحة للغاية تدعو للتأمل وتبعث فيك رغبة في التوجه إلى الله عزَّ وجلَّ واستشعار عظمته فقد خلقها في أحسن تقويم وزادها بسطة في الحسن والملاحة، وهي بكل ما فيها من رقة ودعة وتفرد توقظ فيك إحساسًا عارمًا مندفعًا يشدك شدًّا لإطالة التحديق فيها دونما توقف مبتهلاً متعبدًا في محراب جمالها الأسطوري الذي إذا قُدر لك أن تظل محدقًا فيه مدى العمر، لكان غاية ما تتمناه، يتهادى على متنها الخرافي شعرٌ مسدل طويل بني اللون خصلاته تداعب جبينها الوضاء في غير ما نظام مما يزيدها حسنًا وألقًا وبهاءً.

بشرتها نقيةٌ صافيةٌ كأنها خليط من حليب أبيضٍ وكاسترد أصفر فاقع، توحي عن تمتعها بملمس ناعم طري كبشرة الأطفال الرضع حينما تبدأ دماء العافية تورد خدودهم ووجناتهم، أما أصابعها فقد خُلقت كأنموذج فقط لم ولن يتكرر، أنامل ما خُلقت إلا للتغزل فيها وليس لغسل الصحون أو الإمساك بمقشة السعف فهذه تدميها بلا شك، ربما خُلقت لممارسة العزف على البيانو أو لرسم لوحات ناعمة تحاكي نعومتها وتشابه رقتها ودفء بسمتها، فهذا ما يناسبها. وتريك اللؤلؤ المنظوم الناصع البياض إذا افترّ ثغرها الثائر عنه بلا تردد، فسوف ينبيك عن نافورة من ياقوت ودرر مكنونة تضم خليطًا من العنبر والكرز بان على شفتين مكتنزتين بالرونق والبشاشة مطبقتين على بعضهما والعذرية تنضح في رسمهما المتناسق لتغري الناظر وتخبره أن الذي يتذوقهما لا يرتوي أبدًا، فهما تدعوان دون تعمد للدخول في عالم من النشوة الكاملة المشوبة بالعفة والبراءة، فلا ذنب لها إن كان مذاق شفتيها ذو نكهة شهية لذيذة متجددة بطعم فاكهة كل الفصول، وجمال شفاه فاتنات كل العصور.

أما العيون فهي عالم قائم بذاته تتجسد فيه أساطير الروعة وخرافات البراءة فلا يوجد في معجم البلاغة من يجيد الوصف أو التشبيه، إذا نظرت إليهما بتمعن وتفرست في أغوارهما العميقة لدخلت إلى عالم ملئ بالغموض والسحر، يشع بالذكاء الفطري المزدان باهتمام مكتسب وإحساس مثقلٍ بالرضا والقبول، فلا رتوش ولا ظلال ولا رموش مصطنعة، عسلية القزحية، واسعة مضيافة تحوي كل آيات الإغراء وأوراد الجمال فتهيم كالمجذوب في حبهما وتشطح كالمأخوذ بعشقهما، حتى تخاف إذا أعدت الكرة في النظر إليهما من أن يصيبك سهم قاتل من سهامهما المميتة فتصبح شهيدًا من شهداء الغرام وضحية من ضحايا الأعين النجل، وما بين العينين مسافة رحبة أخَّاذة لكي ترتاح عندها من هم الدنيا وأعبائها الثقال، وهذه المسافة البيضاء النَّاعمة تُظهر جمال حاجبين مرسومين بعناية إلاهية فائقة كهلال أول الشهر الذي يبعث الإحساس بأن ميلاد فصل جديدٍ من العمر قد أطلَّ وابتدأ، فقوساهما النونيين يجسدان نذيرًا وإعلانًا لميلاد عشق لا يستطيع أيُّ عاشق للجمال تجاوزه مهما تحرَّى ذلك.

أما صوتها فهو مزيج من النغمات والألحان التي تثير الأشجان وتهزُّ الأوصال، حتى كأنها سيمفونية من سيمفونيات بيتهوفن أو موزارت يغلب عليها إيقاع العزف المنفرد المتناغم على وقع ناي حزين أو قيثارٍ مفعم بآمال الشباب وطموحاتهم، ويتحدث بنجوى هامسة تتوحد فيها العصافير العاشقة والهائمة.

قبل أن ألتقيها، كانت أصوات جميع النساء عندي متشابهة ولا اختلاف فيها والآن فقد أصبحت مجرد رجع لذلك الصدى الخرافي وكأنه قادم من موسيقى الفردوس وأنغام الملكوت، فقد شُدَّت أوتارها على أكف الملائكة وانتظمت حبالها الصوتية على ضفة الفرح وهي تتغنَّى وتتحدث بأعذب الكلام وأرقه وأصدقه، فكله حِكم وانتباهات، ومع هذا فهو لا يخلو من بعض القفشات الرزينة التي تتحلَّى بخفة ظل ودماثة المنبت، وقد كانت "نوال" تحب النكات المدروسة والمبنية على أسس منطقية تعالج الواقع المريض وتخفف من آلامه ونزيف جراحه، فتضحك حتى الثمالة.

أما ضحكتها فهي مساحات ممتدة من فرح مخبأ بين ثنايا الأرواح، ومعتق كالخمر الحلال الذي يبعث النشوة والحبور في تلافيف الأفكار، فعندما تبتسم فهي تحرك وجناتها الحمراء وتشعل خدودها المتوردة بما يشبه عالم خيالٍي خالٍ تمامًا من الأحزان والآلام، هذا وغيره الكثير يعتريك بهزات من الفرح وارتعاشات من النشوة، ومما يجذب الإنتباه المطلق لها هو دقة ووضوح مخارج الألفاظ من ثغرها المترف، فهي واضحة وضوح الشمس في ناشطة النهار، وهذا ما اكتسبته جراء قراءاتها المتبحرة في أدب اللغتين العربية والإنجليزية على حدٍّ سواء.

لقد أعجزني أن أجد وصفًا لـ"نوال" أدق من وصف الملاك البشري، ولم أجد نعتًا أليق من تتويجها بنعت " شهرزاد الألفية الثانية" فلا أظن أن عطاء الأيَّام وبذل الزمان يجودان بامرأة متجددة في قامة "نوال"، فهي لا تعيد نفسها على المسامع أو تكرِّر ذاتها في الحوار بمثل ما قيل من قبل، فالتحدُّث معها يملآنك بالفهم العميق لأحداث الساعة وآخر المستجدات فيها محليًّا وإقليميًا وعالميًا، وما يقتضيه ذلك من تفكير وتفاعل وتأمل، ينضبط على إيقاع خطواتها الأنيقة الهادئة المموسقة كأنها شلال الفرح المتناغم مع كل الإيقاعات الداخلية في جسدها البللوري حتى كأنها فراشة عسجدية مزهوة بألوانها الجميلة الجذَّابة من عشق النَّسيم واعتناق السُّرور.

تلك هي "نوال" ذلك الملاك البشري الذي يتهادى في دعة وأناة كشلالات منسابة من ألوان قوس قزح وكرنفالات الفرح المنسي في موسم الحصاد الأوفى. 

فإذا أقبلت، أقبلت عليك خميلة بكل ما فيها حيث تفوح منها روائح الروح والريحان من عبير الفل وأريج الياسمين، وتعطر الأفق الممتد بعطور تدلل الجو مما ينبثق من دواخلها الشذية ويفوح نافذًا إلى خلايا الروح وأنسجتها الولهى بمحبتها، فتنتشي وتشل كل مخارج العصب الحي لديك بحيث لا يدركك مفر من أن تركن أو تستكين بالجلوس قربها، لأن لها جاذبية طاغية غير مفسر كنهها.


فهي باختصار مفرط ملاك سماويٌ تجسَّد في جسم بشري نزل من فردوسه المكين إلى إحداثيات الأرض المتعطشة لأمثاله، لكنه يصعد إلى السماء كل حينٍ بسلوكياته النبيلة، ومورثاته القويمة، فيحافظ على تلك المفاهيم القدسية التي نزلت معه من أعلى عليين، لأن مبعثها هو تلك الروح التواقة للسلام والمودة المبنية على حب الله وعدالته وعدم التفريق بين عباده إلا جراء ما اقترفته أيديهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق