الأربعاء، 3 سبتمبر 2014

قراءات سودانية - بقلم: د. مجدي الحاج - المقالة رقم: 9 قصة استشهاد جدي وبانوراما معركة "أبو حمد" بين السودانيين والإنجليز

حقيقة البيعة:
لقد كان جدي الحاج السنوسابي محمد سنوسي بحق واحدا من الأبطال الشعبيين في السودان وفق تقديري الشخصي، فقد كان له بصمة واضحة في حياة مجتمع أبو حمد وجزيرة مقرات الذي عاش فيه، وتفاعل بمعطياته، مؤثرا ومتأثرا، ومتناغما مع دقائق بيئته المحلية، فهو بمواقفه المضيئة، وتجلياته المشرقة في تاريخ السودان الحديث، يستحق بجدارة أن نجعل منه محطة مترفة للتوقف والإستدراك المستبصر، ومرجعا تاريخيا فذا، لأنه ممن نال الشهادة بصدق كما نحسب ولا نزكي على الله أحدا، ولا نبالغ إذا قلنا إنه كان وما زال رمزا حيا للمؤمن المناضل المنافح، الغيور على دينه وعقيدته، العاشق لتراب أرضه، والذائد عن حياض وطنه، وعلامة بارزة للقيم والمثل العليا التي ترسخ في نفوس الأبناء ميراثا يعضون عليه بالنواجذ، خلفه لهم الآباء الصالحون حتى يورث للأحفاد جيلا من بعد جيل، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ما دام هذا متحليا بزي التقوى ومتدثرا بدثار الإيمان، قال تعالى: "ذرية بعضها من بعض والله سميع عليم".
فقد كان رحمه الله عز و جل واعيا تمام الوعي لمضامين بشارات النصر والتمكين المبثوثة في كتاب الله العزيز، وسنة نبيه الكريم صلى الله عليه وآله وسلم، عندما نادى المنادي للجهاد المقدس، لذلك كان من أوائل المنضمين إلى قوافل العزة والإباء، والتي جسدتها في تلك الفترة قيادة محمد أحمد المهدي، الذي بدأ بنشر دعوته، والتبشير برسالته، وأيا كان رأي جدنا الحاج السنوسابي - ولا أقول رأينا نحن - فيها، فإنه قد رأى فيها تجسيدا حيا لمضامين الجهاد والكفاح الإسلامي، والوقوف في صف المنعة والإباء الإنسانيين ضد كل ما  يخالفهما، وضد كل من يحاول أن يعكر صفوهما، أو يشتت شملهما، فهب من مكانه منتفضا كالهزبر المستثار، مفارقا محط الراحة والنعيم، ومحبة الأهل والأولاد، وطاعة الإماء والعبيد، ليقطع الفيافي والقفار، ليعاين الدعوة الجديدة التي بدأت بوادرها تظهر في الآفاق، وشهرتها تطبق في كل ناحية، فما الغضاضة أو القصور أو العيب في أن يختبرها بنفسه، وأن يعرف مضمونها وحقيقتها بجلاء، فإن وافقت بعضا من هواه ولا نقول كله، فليكن من أنصارها ومن خيرة مؤيديها، وإن اتفق معها في أجزاء واختلف معها في أخرى، فإنه من الحنكة بمكان حتى يعذرها فيما اختلف معها فيه، ويتعاون معها التعاون المأمور به، قال تعالى: "وتعاونوا على البر و التقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان"، فسار بمن معه من الأهل والأتباع حتى لقي محمد أحمد المهدي في مناطق انتشاره الأولى في ولاية النيل الأبيض حاليا، بالقرب من جزيرة "لبب" النيلية، والتي تعد معقلا لأنصار المهدي وإلى هذا العصر، وقد كانت هناك وفود عريضة من قبيلة الرباطاب الميامين، يحدها نفس الشعور معه، فلقيه براوية حفيده الحاج الذي سمي باسمه في منطقة "شبشة"، وهي من أعمال ولاية النيل الأبيض الحالية، فبايعه بعد أن أصبح متوثقا لحقيقة دعوته، وأنها دعوة لإقامة الكتاب والسنة والجهاد ضد أعداء الأمة، وعذره فيما زاد وهل هو حقا مهدي آخر الزمان المنتظر، أم أنه مجرد ادعاء أو توهم، إلى غير ذلك من التفاصيل.
وربما يكون التقاؤه مع محمد أحمد المهدي في النسب العباسي، من ضمن أسباب التناغم التاريخية بينهما، وهو سبب قوي قد لا يظهر للعيان من أول وهلة، فالمهدي كما يقال شريف حسني من جهة ثلاثة أجداد، وشريف عباسي من جهة الجد الرابع، وهذا استنتاج قد يكون صحيحا، فالأدلة على ذلك مستساغة جدا ومقبولة، فقد اعتد به المهدي أيما اعتداد، خصوصا لما عرف من أصله الكريم، وأرومته الزكية، ومحتده الطيب، وشهامته الوافرة، فقد كان رحمه الله عز و جل فارسا صنديدا ذو دراية بميادين القتال وأرض الحروب، إذن فهو نبيل من نبلاء زمانه، وشريف من أشراف عصره، تستجمع فيه خصال القيادة، وأمارات الريادة بكل أركانها، كيف لا وهو سليل الخلفاء الأماجد، وحفيد الأشراف الأكابر، بشرف العلم وخلافة اليقين إن لم يكن بالخلافة المعهودة، فعقد له المهدي لواء الأشراف العباسيين بيديه الصابرتين، فأصبح حاملا لراية العبابسة منذ ذلك اليوم وإلى أن استشهد رحمه الله عز وجل.
وقد كان بغض النظر عن اتفاقه أو اختلافه مع دعوة المهدي، يعرف أن التوحد ضرورة لازمة، وحقيقة قائمة، إذا ما حوصر الوطن، وأرهقت الأمة من قبل العدو الخارجي، وبذلك فهو يعي تماما الدرس التاريخي الذي خلفه لنا الخليفة المهدي الراشد، وباب مدينة العلم الإمام علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، حينما قال: "والله لو فعلها هرقل، لوضعت يدي في يد معاوية"، متناسيا خلافه معه، وغافرا حسد بني أمية لبني هاشم وكيدهم لهم، اللهم ما أشبه اليوم بالبارحة، والحاضر بالماضي، لكن قليل هم من  يتفكرون أو يبصرون، وإن كانت العيون في حدة نظرها كعيني زرقاء اليمامة، أو ربما أشد حدة، ولكن الصواب كل الصواب قد لا يجانب إذا تأول متأول قوله تعالى: "فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور"، على أمثال هؤلاء الجناة وأشبهاهم، الذين يغص بهم حلق أمة الإسلام، أمة الخيرية، فلا هو قادر على التبيين، ولا هو قادر على لفظ ما علق به من أوشال، ولا هو متمكن من تنفس الصعداء على أسوأ تقدير.  
وقد كان الحاج السنوسابي مواكبا تماما لما يجري من حوله، ومتابعا لما يدور في فلك الأحداث في محيطه، القريب منه والبعيد على حد سواء، إذ أنه كان يمتهن التجارة، تلك المهنة الشريفة التي نعتها الإمام الشافعي عندما قال: "جعل تسعة أعشار الرزق في التجارة"، إذ كانت تجارته الرابحة قائمة بين أسواق أبي حمد وجزيرة مقرات، وأسواق القرى الطيبة شمالهما وجنوبهما، فمثلا كانت له صلات تجارية واسعة عبر تجارة المراكب النيلية الشراعية مع تجار مدينة شندي وما جاورها، يأتيهم محملا بالتمور وما ندر من محاصيل منطقته، فيبيعهم ويشتري منهم، أو يقايضهم في أحيان كثيرة، متحديا بصلابة ورباطة جأش، معاكسة الهواء، ومخالفة التيار، وانحسار الفيضان المبارك، إذن فتاريخه تاريخ تجاري وزراعي بحت، وفي نفس الوقت فهو صاحب شخصية قيادية واسعة التأثير، لما لها من ماض عريق، وإرث مؤثل، خلفه الأجداد عبر مر العصور، وهي الآن تريد أن تمتهن مهنة من نوع خاص، ليس لها شبيه أو مثيل، حقلها هو الديوان الإلهي،إنها  الجهاد في سبيل الله عز وجل، بالنفس والمال.
وقد كان من تيسير الأقدار السعيدة، أن له قرابة في منطقة ود بري، حيث أن ذرية من أبناء محمد سنوسي، قد ابتعثت لدراسة القرآن الكريم في خلاواها وكتاتيبها المشهورة قديما، وهما الشيخ أحمد البدوي، والشيخ محمد صالح، وكان من عادة أهل السودان ككل، وخصوصا الفضلاء منهم، ابتعاث فلذات أكبادهم مهما عظمت الشقة، حتى يكتسبوا البركة بحفظهم للقرآن الكريم وتعلمهم له، وإن كان تعلمه أولى والخيرية فيه، لقول النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: "خيركم من تعلم القرآن وعلمه"، ولم يقل خيركم من حفظ القرآن وحفظه، وقد كانوا يختارون لذلك الجيد والممتاز من الشيوخ والمعلمين، ومن ثم فقد استقر هؤلاء الشيخان الجليلان في منطقة ود بري بحق الرحم القرآنية فإن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده، وقد كان جدنا الحاج السنوسابي بشمائله الكريمة، وخصائصه المتميزة، يزورهما صلة للرحم بين الحين والآخر، في رحلاته التجارية عبر المراكب النيلية، وكان أن صادف إحدى بنات عميه هناك، وهي آمنة بت أحمد البدوي، فتزوجها وأنجب منها الطيب وأحمد، وتزوج من أخرى في الرباطاب كان من ذريته منها محمد وعلي وغيرهما، ممن لا يسعفنا الحال هنا لذكره، ونسله منها موجود الآن في جزيرتي مقرات وكنجقيلي، ولهم جميعا نسل طيب مبارك ميمون، ومن شقيقات الحاج السنوسابي السهوة  والرسالة، وأخريات، وأقارب كثير ممن توفي برأسي مقرات وكجنقيلي، ومنهم من نال شرف الشهادة معه في أبي حمد.
إذن فقد كان جدنا الحاج السنوسابي وباختصار يبحث عن العزة في الجهاد، وذلك لأن رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، قد بين للمسلمين أسباب ذلتهم ودواعي هوانهم، فقال: "إذا تبايعتم بالعينة، وأمسكتم بأذناب البقر، وأصبحتم زارعين، وتركتم الجهاد، ضربت عليكم الذلة، ولن تعزوا حتى تعودوا إلى دينكم".
لماذا أبو حمد؟!:
كانت قيادة السير هيربرت كتشنر، القائد العام للقوات الإنجليزية الغازية، قد وضعت البعد الجغرافي لأبو حمد شمالي السودان في خلدها العسكري، إذ أنها تتمتع بامتيازات واضحة جدا بالنسبة لها، فهي قريبة من معسكرها الرئيسي في مروي، ومن قبل فقد أقام بها غوردون باشا، بعض التحصينات الحربية، وهي أيضا ليست بذات أهمية تذكر بالنسبة للدفاعات المهدوية، التي بدأ التخلخل المهلك بالسريان في عروقها المتعبة، كنتيجة حتمية لعدد من الأخطاء القاتلة التي ارتكبت في عهد خليفة محمد أحمد المهدي عبد الله التعايشي، وعليه فإنه من الممكن بكل سهولة - كما صورت تدابير الغزاة - إرسال فصيل صغير من الهجانة المدربين للإستيلاء عليها، إلا أن الواقع كان مختلفا تمام الإختلاف، فقرر مهندسوا خط السكة الحديدية جعلها المحطة التالية لهم في الأراضي السودانية - بعد مدينة وادي حلفا -، لأن الطريق المؤدي لها صحراوي ووعر، كما أنه شديد القسوة، وليس به أي آبار أو تحصينات يمكن أن يستفيد منها المجاهدون من أنصار المهدوية، لقطع الطريق على عمال السكة الحديدية، وبالتالي قطع الطريق أيضا على القوات الغازية، إذن فقد كان لا بد من سقوطها في قبضة الإنجليز وأشياعهم قبل كل شيء، وبأسرع فرصة ممكنة، وهذا ما كان يرمي إليه سردار السوء كتشنر.
 كما أن الإنجليز الأوباش كانوا يسعون سعيا حثيثا من أجل الإستفادة من خاصية الرياح الشمالية القادمة من مصر والشمال الإفريقي عبر صحراء العتمور والتي يساعد هبوبها في تحريك نقليات أسلحتهم ومعداتهم بعد الوصول إلى أبو حمد حيث ينحني النيل إنحناءته المطلوبة بعد مروره بصورة مستعرضة من إتجاه الشرق إلى الغرب ناحية مروي فيصبح اتجاه مروره من الجنوب إلى الشمال حيث يعاكسه مسار الريح الشمال التي تبز قوتها قوة اندفاع مياه التيار النهري وبذلك يتملكون ناصية العوامل الجغرافية والبشرية كما كانوا يعتقدون لكن هيهات.
حقيقة الغزاة:
وكان أن تقدمت قوى البغي والعدوان، تجرجر أشياعها ممن ارتضى بيع دينه بثمن بخس، من وضعاء السودانيين، ومن أوباش المصريين، ومن غيرهم من الدهماء، يتبعهم في ذلك بعض ممن غرر به وهو مكره، إلا أن قلبه مطمئن بولائه للدين والوطن، قال تعالى: "إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، ويقود هذه الشرذمة الشقية شيطان الإنجليز الأعورالسردار كتشنر، المملوء حقدا، والمحنق غيظا، إذ جاء لهدفين أساسين، الأول حماية مصالح الإمبراطورية البريطانية العظمى، والثاني الإنتقام لمقتل الصل الأرقط غوردون، الذي طهرت المهدوية منه أرض السودان، بعد أن عاث فيها فسادا وتخريبا، ونكل بأهلها تقتيلا وتعذيبا، وبث فيها سمومه التبشيرية بالباطل، فها هو يقول في مذكراته الخاصة، التي تكشف بما لا يدع مجالا للشك عن لآمة طبعه، وحقارة أصله، وسوء سجاياه، وقبيح نواياه، والتي كتبت لها النجاة من الضياع لتكون لمن بعدها آية وحجة:
"من الغريب أن هناك صفات عديدة تجمع بيني وبين يوحنا الرابع، فهو مثلي متدين وشديد التعصب، وله رسالة في الحياة يحرص على أدائها، وهي تنصير كافة المسلمين".
أليس هذا وحده يعتبر كافيا ليكشف عن حقيقة المهام القذرة التي كان يقوم بها هذا الغوردون، الذي كرمته الخديوية العثمانية في مصر، ومنحته لقب باشا، ذلك اللقب الذي لا يمنح إلا للنبلاء والفرسان، كتعبير عن الإمتنان والشكر نظير خدماتهم المقدرة في سبيل الحكم، وكرسي العرش، وعلى كل فهل كانت الخديوية ممثلة في إسماعيل باشا قد كلفته بهذا النوع من المهام؟!، أم أنها لا تدري بحقيقة نواياه؟!، فانظر إلى خيانة أمراء الإسلام الذين ولاهم الله عز و جل أمر أكرم أمة!، فهذا الخديوي عضد خليفة المسلمين، يمكن من يريد السوء برعايا دولته، وهل من سوء يضاهي إضلالهم وإبعادهم عن جادة الحق، فإن كانت هذه نيته حقا فيا لها من طامة كبرى، ومأساة حقيقية، وإلا فهو جاهل جدا وساذج لدرجة التغرير به بمنتهى الإستخفاف، حتى يعلن خيانته ومروقه من الدين، ومفارقته للجماعة، اللهم إن الجواب لن يخرج من هذين الإحتمالين البائسين، وما أكثر من يشبهه من حكام المسلمين اليوم.
إلا أن الإستغراب والدهشة، لن يجدا لهما طريقا في نفوس المؤمنين، إذا علم أن ميتة كل من غوردون، ويوحنا الرابع إمبراطور الحبشة، قد تمت بنفس التفاصيل على يد المجاهدين من أنصار المهدوية، فقد مكرا مكرا كبارا تكاد تزول منه الجبال، و مكر الله عز و جل لعباده المؤمنين، وصدق عز من قائل: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين"، وقال أيضا: "ومكروا مكرا ومكرنا مكرا وهم لا يشعرون"، فهذا قتل في الخرطوم على يد المهدي نفسه، والثاني في المتمة الحبشية في معركة القلابات عام 1889م بقيادة محمود ود أرباب وقيل عبد الله التعايشي.
ويقصد بيوحنا الرابع الإمبراطور الإثيوبي يوهنس، الذي قتلته المهدوية في القلابات كما ذكرنا، علما أن أباطرة أثيوبيا من النصارى قد اشتهروا بقسوتهم اللامحدودة على المسلمين، وما نقموا منهم إلا أن قالوا ربنا الله، وكان آخرهم هيلا سيلاسي الذي نكل بالمسلمين أشد التنكيل.
ومن قبل فقد قتل كلب الإنجليز هكس في معركة شيكان الشهيرة، والحقيقة الواضحة أن غوردون قتل وهو لم يستطع تنصير كافة المسلمين، لكنه استطاع أن يبث بعض السموم من هنا وهناك ضد المسلمين، وذلك ببداية تأسيس حاجز الكراهية والبغض بين شمال السودان المسلم، وبين جنوبه الذي كان يمكن أن يكون مسلما، لولا أنه أصبح فريسة سهلة للمستخرب الإنجليزي النصراني، الذي خرب نفوس أهله الوادعين، وهدم فطرتها السوية بإبعادها عن دين الفطرة الحق، ألا وهو الإسلام، قال تعالى: "ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين"، فاستجاب بعض من هذه النفوس الحائرة، لأمر الدخيل الشرير فيما بعد، وتنصر، فكانت هذه أكبر مصيبة تحل عليها، إذ حرمت من نور الهداية لتبقى ضائعة في ظلام الجهل والخذلان.
ولأجل هذه الإحتمالات وغيرها، كان لا بد من التصدي لهذا الشر القادم بكل قوة، وهو ما اقتنع به أغلب المؤمنين في أرض السودان، والتزموا ببيعته مع محمد أحمد المهدي.
الزحف المشؤوم:
والآن فإنه لا بد لنا أن نتخيل سير الأحداث بأفظع سيناريو تراجيدي مؤثر، فقد تمت التحضيرات بسرية كاملة لإرسال فرقة عسكرية سريعة للإستيلاء على أبو حمد، إذ قدرت الإستخبارات الغازية، وجود ما يقارب ستمائة مجاهد محارب، يعسكرون في حامية أبي حمد السعيدة، ينتظرون إحدى الحسنيين، فإما حياة تسر الصديق       وتبهجه، وإما ممات يغيظ العدو ويسخطه، تحت إمرة محمد زين من الرباطاب، والحاج السنوسابي من العبابسة – وهو جدي الثالث لأبي -، إلا أنه و من منطلق الحنكة الحربية، والحصافة الإستراتيجية، واتباعا لسياسة أسوأ الإحتمالات، ومن أجل ضمان نتائج مؤكدة، فقد تقرر إرسال لواء كامل، يتكون من كل الأسلحة، وعلى رأس قيادته آركبالد هنتر في كتيبة سلاح الفرسان، وماكدونالد في لواء المشاة، تغطي جبنهم المؤصل مدفعية ثقيلة، استخدمت بكل قسوة ضد المدنيين العزل في أبو حمد، رغم أن عدد القوات الموضوعة تحت إمرة هنتر كان يبلغ ستة أضعاف عدد قوات المجاهدين في حامية أبي حمد العسكرية، إذ يبلغ حوالي ثلاثة آلاف وستمائة جندي منحوس، ولخطورة الوضع فقد أوقفت القيادة العليا جميع العمليات العسكرية في القطر السوداني حتى الإنتهاء من عملية أبو حمد، حتى أن خط السكة الحديدية قد أوقف تقدمه في قلب الصحراء الملتهب.
فبدأت قوات اللواء المنكود بالتجمع في قرية الكاسنجر، حيث دفن الشيخ السيد الشريف أبو العباس شرف الدين بن يعقوب، جد العبابسة السودانيين والذي ينتمي إليه جدي الثالث لأبي الحاج السنوسابي الذي استشهد في معركة "أبو حمد"، وكأنه ينظر بعين الأنفة والإباء، إلى هذه القوات البائسة، ويرمقها بطرف العنفوان الإيماني، إذ أنها ستغتال عما قريب حفيده وبعضا من ذريته في أبو حمد، إلا أن السرور الفائض، والسعادة المنعدمة النظير، والحبور المستشرف، والغبطة الفائقة، تملأ عليه ضريحه الطاهر، لأن يد العناية الإلهية قد اختارت أصفياء من نسله، لينالوا شرف الجهاد في سبيله بالنفس والمال، ومن ثم الفوز بجائزة الشهادة، فالمولى عز وجل يقول: "ويتخذ منكم شهداء"، وطبيعة الإتخاذ هذه تقتضي الإصطفاء والإجتباء بفضل منه وإكرام، وتبعد الكاسنجر عن مروي حيث قاعدة الغزاة الآثمين، بضعة أميال على يمين النهر أو الشاطيء الذي تقع عليه أبو حمد.
وقد بدأ هنتر ومن معه من الشياطين، مسيرتهم التدميرية في التاسع والعشرين من شهر يوليو من العام 1889م، لقطع المسافة بين الكاسنجر وأبو حمد، و التي تبلغ حوالي 146 ميلا، محاطين بسرية كاملة، حتى لا تصل أخبار الحملة إلى المجاهدين فيتمكنوا من طلب النجدة من المركز في أم درمان، فتصعب المهمة أكثر مما هي عليه، ويجعل القوات غير قادرة على الإستيلاء على المدينة، وبالرغم من السرية الشديدة المضروبة حولهم، وكافة الإحتياطات الصارمة، والتدابير العديدة، فقد وصلت أخبارها إلى المجاهدين، وقد لعبت تحركات الأعراب والبدو الرحل في الصحراء الذين يدينون لأبو حمد بالولاء، دورا كبيرا في ذلك، فووجهت الحملة بصعوبة فائقة، إلا أنه ونظرا لعدة أسباب وجيهة سيأتي ذكرها لاحقا، فقد فشلت محاولات طلب النجدة جميعها جزئيا، وقد ساعدت حامية بربر بالقليل من الإمدادات المتأخرة لنجدة أبو حمد، بحسب إمكانياتها العسكرية المتواضعة، وذلك بعد سقوطها المؤلم.
جنود لم ترى:
وكان من تيسير الأقدار السعيدة أن ساهمت عوامل الجغرافيا العنيفة، والظروف الطقسية المعتبرة، كثيرا في منع تقدم القوات الغازية بصورة فعالة، وتعطيل سرعتها المطلوبة، فقد اضطرت حرارة الجو وقساوته، وتأثيرات الشمس المحرقة، القائد هنتر إلى إتمام السير ليلا في أغلب مراحل مشوار الحملة المشؤوم، لكن هذا الحل الجزئي لم يمكنه من الإستفادة الكاملة من هذه الخطة، نسبة للسير في أراضي رخوة شديدة الوعورة على طول النيل في صحراء المناصير الغير مأهولة، والتي يطمس الظلام الدامس أهم معالمها الموحشة، والتي تزحف باستمرار نحو حافة النهر، إذ يتقطع هذا الأخير في أجزاء كثيرة، مما يكون شلالات صغيرة خطرة للغاية عند ظهور الصخور، ولم يكن من شاهد للحياة في تلك المنطقة، غير ظهور أشجار من النخيل الشامخ، أو بيوت من الطين الذي يرى ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، ويتمنى بحسرة ومرارة لو أنه لم يكن أصله ومادة تكوينه الخام، كان الجنود التعساء يعانون بحق من الرمال الناعمة، التي جعلت أقدامهم تغوص حتى الركبة في أحيان كثيرة داخلها، يضاف إلى ذلك إمتلاء أحذيتهم بالرمال والوحل، واكتوائهم بالحجارة البارزة التي تحتفظ بحرارة الشمس بالرغم من حلول الظلام، وهبوب الأنسام الباردة، ولعل بعضهم يخشع لأنها تذكر بالجحيم، وتشعر بصدقية وقوع العذاب، ونزول الوعيد، كما أن بعضا من الحشائش والشجيرات الشوكية، تصر على وخزهم بين الفينة والأخرى، لعلها تصيبهم بالألم، وتدميهم انتقاما للحق، لعلهم يرعوون ويثوبون إلى رشدهم، لكن هيهات.
وبالرغم من كل ذلك، فقد استمر طابور القوات الغازية يواصل سيره في خط طويل، وهو يصارع ويتلوى بألم، كأنه ثعبان يرقص من شدة الألم على الرمال الملتهبة، وكم من شقي منهم لقي حتفه جراء لدغة ثعبان أو عضة أفعى، أو قرصة عقرب، أو وخزة عنكبوت، وكثيرا ما أعوزهم التزود بالمياه النقية الباردة، والنيل على مرمى رمح أمامهم، ينفرهم من ذلك تمساح يمد رأسه باشمئزاز نحوهم، ويكشر عن أنيابه بشراسة، أو فرس نهر يرمقهم بغضب، أو قطيع من الضباع الثائرة والمحنقة، كأنها تبثهم لعنتها، بينما لا يقدرون على إضاعة طلقة واحدة في أي منها، حفاظا على ذخيرتهم العزيزة إلا في الباطل، وتوفيرا للعتاد المبذول في الظلم، وعليه فقد كان السير بطيئا ومتعبا للغاية، مما اضطر القائد المشؤوم إلى إيقاف التقدم عدة مرات، خاصة أن بعض أفراد كتيبته قد ضلوا أكثر من مرة من البقية،     ووصلوا في حالة يرثى لها من الإعياء، بعضهم قد ضربته الشمس بفأسها القاتل، وبعضهم الآخر حصبته الرياح العاصفة بذرات من الرمال المهتاجة، والبعض الآخر هدته نقليات المدفعية الثقيلة، التي سببت له انهيارا ضمنيا في المعنويات، لشدة شعوره بأزمة الإستعباد الخانقة، فاستهلكت الليالي كل ما تبقى لهم من قوة، وأرهقهم السرى والإدلاج، وكثيرا ما سقط الجنود ليلا من شدة الإنهاك وغطوا في نوم عميق، إلى أن يأتي من يوقظهم بلهجة أمر حادة، لا رحمة فيها ولا شفقة، وكل هذا وسواه كثير، يعد من جنود ربك الحق، وما يعلم جنود ربك إلا هو، وصدق الله العظيم عندما قال مخاطبا أهل بدر وهم المجاهدون في كل عصر وأوان:"وأيدكم بجنود لم تروها"، لكن الشيطان ما يزال يعدهم ويمنيهم وما يعدهم الشيطان إلا غرورا.
مقاومة الأبطال:
وفي الجانب الآخر، فقد ظلت قوات المجاهدين تراقب تقدم الغزاة عن كثب، وهي تنتظر اللحظة المناسبة حتى توجه لها ضربة موجعة، تخلد رحلتها المشؤومة في ذاكرة التاريخ المنصف، ليصبح فيما بعد مرجعا للعزة والإباء، وسفرا للمقاومة الباسلة، التي تستمد حياتها من الإيمان الصادق، ومن اليقين الحقيقي، وقد كانت العيون الموالية لهم، تغذيهم بالأخبار أولا بأول، كما كانت مجموعات من الأهالي تحاول تأخير تقدمهم بأي شكل من الأشكال،  وذلك بتثبيطهم، وإخلاء القرى العامرة في طريق طابورهم الغاشم، وردم الآبار وتغويرها، حتى لا يمكنهم الإستفادة منها، وهو تجاوب تلقائي مع المجريات لا علاقة له بالدولة ولا أوامر الحكام، وعليه فقد تمكن المجاهدون من جمع أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات المطلوبة حول قوات هنتر، فعرفوا عددها، وإمكانياتها التسلحية، ومقدار طموحها المعنوي، مما دفع الغزاة لتغيير مسارهم في كثير من الأحيان، وجعلهم يدركون أن قوات المجاهدين في حامية أبي حمد، قوات لا يمكن تجاهل أمرها، وأن تقديراتهم لم تكن مصيبة في أغلب الأحيان حولها، وكثيرا ما كانت طلائع المجاهدين تخاطر بشجاعة منقطعة النظير، وتحاول الإشتباك بالغزاة، رغم عدم التكافؤ الظاهري والباطني بين الجانبين، ماديا بالأسلحة والعتاد في جانب الغزاة، ومعنويا بالصبر والإيمان في جانب صناديد المقاومة من المجاهدين، وعند اقتراب الغزاة من الطريق المؤدية إلى أبي حمد، جاءتها مجموعة من الإطلاقات النارية من الشاطيء المقابل، وذلك لكي تعرف أن أمرها قد انفضح، وأنها مراقبة مراقبة لصيقة من قبل المجاهدين، الذين لم يعبؤوا بخيانة بعض قبائل الأعراب قرب أبو حمد، فقد انضم الشيخ عبد العظيم ومعه حوالي المئة وخمسين رجلا من قبيلة العبابدة على ظهور الجمال إلى القوات الغازية، وبالتالي فقد لعبوا دورا مفصليا في كشف عورات أبي حمد المكلومة التي لم تخذلهم في يوم من الأيام أو في لحظة من اللحظات، فساعد ذلك بطبيعة الحال في انهزام حاميتها الصابرة، وهكذا فإن أمة الإسلام لا تهزم إلا من قبل خيانة من يحسبون عليها الخيانة العظمى، وذلك بغض النظر عن الأسباب الحقيقية التي تدفعهم لمثل هذا الفعل الشنيع، فلا مبرر يسيغ خيانة الله عز وجل، وبيع دينه والتخلي عن الوطنية الحقة، وهذا فعلا ما أصاب المهدوية في أشد مقاتلها حساسية، إنه مقتل الثقة المتبادلة بينها وبين رعاياها.
 سقوط الحامية:
وبالرغم من جميع ما كان، فإن استحكامات المجاهدين الدفاعية كانت جيدة إلى حد بعيد، فقد تم حفر خندق حول القرية، يغطيها من الأمام، بينما شكلت التلال الطبيعية حائط الصد من الناحية الخلفية، وتمركز بعض من المجاهدين في الأبراج الحجرية التي أقامها كلب الإنجليز القذر غوردون قبل فترة في مقدمة أبي حمد، بينما تتناثر العديد من التجمعات الحجرية، وهي تبدو كالحراس الغلاظ الشداد حول البيوت الطينية، التي فتح المجاهدون فيها طاقات الكفاح لبنادقهم المتواضعة مبنى، والمتسامية معنى، إذ أنها فقط ما استطاعوا أن يعدوه من قوة في مجابهة طوفان أسلحة الأعداء المتطورة، وبالرغم من كل ذلك فقد كانت فاعلة أيما فاعلية، وقد كبدت القوات الغازية خسائر فادحة في الأرواح والعتاد، لأن من يستخدمونها كانوا أقوياء بالإيمان، وما رموا إذا رموا ولكن الله عز وجل وحده هو الذي رمى بقدرته، بينما تجد طلائع ميمونة من المجاهدين، في أزقة وحواري القرية الوادعة، وهم على أتم الإستعداد وأهبته للدفاع عن الأرض والعرض، وكعادة المؤمنين الصادقين عند الملمات، وعند حلول الرزايا والمصائب الجسام، فإن أول وآخر من يلجأوون إليه، ويبثونه وجدهم وأحزانهم، ويشكون ظلم الغير له، هو الله العادل الناصر، فتسارعت نساء القرية الصابرات، ومعهن أطفالهن الأبرياء، وشيوخها الأجلاء، ورجالها المتحفزين، إلى مساجد القرية الوادعة، وزواياها الطاهرة، عند أذان الفجر الأول، تجأر إلى الله عز وجل ضارعة وراجية أن يكفيهم شر أعدائهم، ويحميهم من كيدهم وأذاهم، ويضعونه بيقين في نحورهم، وقد كان، فقد استجاب لتضرعهم، وعبيء بدعائهم، فكان الشر نسبيا، والأضرار محدودة، إلا ما سبق في علم الله، ليقضي الله عز و جل أمرا كان مفعولا، فجفلت مجموعة من الإبل المحملة بالمؤن والذخائر، وحرنت عن الإستجابة لأمر حداتها المذهولين، حتى أشجار النخيل الطاهرة المكرمة أبت إلا أن تشارك المجاهدين النبلاء جهادهم المقدس، فلانت جذوعها الصلبة، حتى يتمكنوا من تسلقها لمراقبة تحركات الأعداء، الذين كانت نيرانهم الرعناء تستهدفهم بلا رحمة، فما يلبث الرجل منهم بعد أن يخبر إخوانه بموقع شراذم الغزاة واتجاه تحركهم، وبعد أن ينال من عزة نصرتهم للباطل الزائفة، حتى ترديه إطلاقة نارية جامحة، لتهب له حياة الخلود والكرامة في جنة عرضها السماوات والأرض، ليجد نفسه تحت ظلال نخيل الجنة على الأرائك يقابل إخوانه الذين سبقوه بالإيمان والشهادة، ولعل بعضهم لم ينسى قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة، أن يوصي بجنائن النخيل، التي كانت كل حياته، فمن تمرها العذب تغذى، وعلى ظلها السجسج ترعرع، ومن جريدها المرموق صنع متاعه، ومن جذوعها الفتية عرش بنيانه، فيا له من تناغم مشهود، وعند أول ظهور الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبداية ظهور الأشعة الذهبية للشمس الحانقة، التي لم تكن تريد الظهور في ذلك اليوم المقدور، عمت ساعة من الهدوء القاتل، أعطت الطرفين مندوحة من الوقت الكافي لالتقاط الأنفاس وتنفس الصعداء وتهدئة الضمير المضطرب، الذي تعبث به شياطين المخاوف وهواجس القلق من المصير المجهول كأنه ريشة طائر مذبوح تتقاذفها الأرياح يمنة ويسرة، فأعاد كل منهما تنظيم صفوفه، وباشر الإستعداد للإشتباكات التالية بكل عنفوان وقوة، خصوصا وأن أشعة النهار قد غطت الأفق الحزين، وأصبح كل فريق يرى ملامح الفريق الآخر بكل وضوح، فكانت المفاجأة المزعجة بالنسبة للمجاهدين، إذ رأوا أن من يتصدر صفوف الأعداء هم من أبناء جلدتهم من السودانيين، فأصابهم ذلك بحزن عميق، بالرغم من معرفتهم المسبقة بوجودهم في طوابير الحملة، إلا أنهم و لآخر لحظة لم يكونوا يتوقعون مقابلتهم في قتال وجها لوجه، فلا الشرع يسيغ لهم ذلك، ولا مكارم الأخلاق تسمح بمثل هذه الأمور، فما معنى أن يقتل الأخ أخاه لمصلحة عدو متنكر في ثياب الأصدقاء، وصدق الشاعر الطيب محمد سعيد العباسي حينما تحدث عن مثل هذا المعنى في قوله:
و من  قومي  سوى   قوم  أراهم        يعادون   العدو    كما    أعادي
و يعتنقون  دينا    وهو    ديني        وينطق   كلهم    ضادا   كضادي
ويجمع   بيننا    نسب   عريق        يوحد   بيننا   من    قبل    عاد
ولهذا الأمر أيضا مداليله العميقة، فالإنجليز على أية حال لم يكونوا يعملون لمصلحة الخديوية العثمانية في مصر والأستانة، بل جعلوها بمكرهم المخاتل تظن أنهم جاءوا فعلا لمساعدتها، من أجل ترتيب بيئتها الداخلية التي غيرتها الفوضى السياسية والإقتصادية العارمة في تلك الفترة، ومن أجل إخماد نيران الثورات والتمرد التي تشتعل بين الحين     والآخر، لكن الواقع كان مختلفا تماما، فهم يعملون لمصلحتهم فقط، وقد تنبهت أمتنا لذلك متأخرا بعد فوات الأوان.
وظل المجاهدون في كفاحهم، وجلادهم صباح ذلك اليوم وضحاه، و الأعداء لا يقدرون على اقتحام عرين الأسود، ومربض الليوث، وقد ساعدتهم شمس ذلك اليوم بوهجها القاتل، الذي سقط على عيون الأعداء كأنه الماء الحارق، فظلت صفوفهم تتراجع تارة بعد تارة، وطورا بعد طور، محاولة الإحتماء بالظلال اليحمومية، غير الباردة ولا الكريمة، وقد حرص الفرسان الميامين على تلافي مواجهة إخوتهم السودانيين إلا عند الضرورة الملحة، فاخترقوا صفوفهم بحثا عن الإنجليز الذين أحرقت الشمس جلدتهم البيضاء، وأصابت رمال الصحراء عيونهم الزرقاء بالقذى، وما إن يبدو جمعهم المنكود، حتى يجهزوا عليه مثخنين فيه قتلا وتنكيلا،  فيتراجعون أو قل يفرون حرصا على الحياة، فإن أحدهم يود لو يعمر ألف سنة وما هو بمزحزحه عن العذاب، فقتل المجاهدون _الخيالة والراجلين_ منهم مقتلة عظيمة، أظهرت كتاباتهم منها القليل، بينما أخفت الكثير، مواراة لعار الخذلان الذي أصابهم، فقد قتل في ذلك اليوم بحسب رواياتهم التي تحاول التقليل من شأن المجاهدين وانتصاراتهم، الرائد سيدني، والنقيب كلارنس، ومجموعة من المشاة الإنجليز، بالإضافة إلى عدد كبير من الخونة السودانيين، والمرتزقة المصريين، الذين غرر بهم بإرادتهم وبغير إرادتهم، وجرح كثير من البقية المنكودة، فتراجعوا القهقرى، وعند احتدام الوطيس، ورجوح كفة المجاهدين، أمر قائد الحملة أتباعه المشؤومين بفتح نيران المدفعية الثقيلة, بعد أن أعيتهم الحيلة مع صمود أهالي أبي حمد الشرفاء، الذين تحصنوا بالإيمان، وتخندقوا بالصبر، وتسلحوا بالثبات، ولله در الشاعر الكبير عمر البنا حينما قال:
الحرب  صبر  واللقاء  ثبات        والموت  في  شأن  الإله  حياة
فأمر القائد هنتر، والمقدم ماكدونالد، كتائبهما بمعالجة الموقف بالمدفعية الثقلية والدانات البارودية الفتاكة، لما رأوا من شراسة المقاومة الباسلة للأهالي الأبطال ومن معهم من المجاهدين، ففتحت مدافع المكسيم وبطاريات الكروب، نيرانها الهمجية بصورة عشوائية لا تميز بين الصغير والكبير، والمحارب والأعزل، فهدمت الكثير من البيوت فوق رؤوس روادها الآمنين، ومزقت أجساد الناس بلا رحمة إلى أشلاء متناثرة، غطت الأفق المملوء بالقتام، والمائج بلون الدماء القانية، التي تفوح منها رائحة المسك والغفران، فكون المشهد لوحة بليغة الجمال، مغزاها ومضمونها جنة عرضها السماوات والأرض، فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، وفي وصف أمثال هؤلاء الأفذاذ، جادت قريحتنا ببنت شفة سقيمة تجرر أسمالها البالية في استحياء علها توفيهم بعضا مما يستحقون:
جند   الحقيقة    كلهم   مستبسل           والله   بالفعل   الجميل   يجازي
خاضوا   غمار   الموت  دون  تردد           والخيل    توردهم    بلا   مهماز
غلب  إذا  حمي  الوطيس   كأنهم           موج   من   النكبات   فوق مرازي
لا  يحملون  الخوف  في  جنباتهم           حتى   كأن   الموت   منهم  هازي
لله     والأوطان    فوق    كفوفهم           قد    قدموا    الأرواح    بالإعزاز
هم   كالأسود   إذا  استفزت  مرة           والحر    ليس     يقر    باستفزاز
يا   ثورة   التغيير   لا    تتهيبي           من   كافر   أو   ملحد  أو  نازي
وتقدمي        بإرادة        جبارة            لا  شيء  يعدل   قدرها   ويوازي
قد   كنت  للأعداء   خير  منافح            وهزمتهم   في   صدر    كل  براز
ناجزتهم   بثبات   قلب    مؤمن             ودحرتهم   بالضرب   في  الأجواز
واجتزت  بالصبر   الممر  حواجزا            قهرت   بفضل   عزيمة   المجتاز
أحرزت   للأوطان  خير   مكاسب           والفضل   كل  الفضل  في الإحراز
بشراك   يا  وطن  الكفاح    بثورة           وعدت   فمات   الوعد   بالإنجاز
قد  وحدتك   فخاب   ظن  عدوها           والفضل  كل  الفضل  في  الإحراز
ومن أهم قواد الإنجليز في المعركة قائد يعرف باسم السير آركبالد أو آرشبولد هنتر، وفقا للترجمات المختلفة، وهو أشهر ضابط برتبة جنرال التي تعادل عقيد في الجيش المصري، حيث كلف بقيادة الحملة، وقد نال هذه السمعة لجرأته وإقدامه، فقد سبق أن خدم جيش الخديوي أثناء حملة النيل عام 1884ـ1885م، وتقلد كل المناصب متدرجا من رتبة نقيب حتى و صل إلى قائد عام، وقد نال هذه الرتبة الممتازة لأنه جرح أكثر من مرة، وهو على مقدمة الألوية التي يقودها، وعليه فقد اكتسب احترام رؤسائه وإعجاب زملائه في القتال أثناء حرب النهر في كل من مصر والسودان، ومن العجيب أنه رغم قسوته، أصبح معبود الجنود، لقد كان بالفعل أهم عناصر حملة السردار بروحه المرحة وقيادته الحكيمة، التي عرفته برجل المهمات القتالية الصعبة، والكلام منقول عن ترجمة لكتاب حرب النهر لمؤلفه ونستون تشرشل الذي كان مراسلا صحفيا في بداية حياته، زار السودان لتغطية أخبار الحملة الغازية فيه، وهو نفسه الذي أمر بفتح نيران المدفعية الثقيلة على الأبرياء العزل، وقد كانت هذه المدفعية تتكون من بطارية الميدان رقم 2 المكونة من الآتي:
1ـ 6 مدافع كروب.
2ـ 2 مدفع مكسيم.
3ـ 1 قاردنر.
4ـ 1 نوردين فيلد.     
وبالرغم من نية المجاهدين الصريحة، قبل وصول الحملة إلى أبي حمد، في مهاجمة خط السكة الحديدية، لعرقلة جهود الغزاة، إلا أنهم أحجموا نسبيا عن ذلك، فهم لم يتلقوا الأوامر بذلك من قيادتهم العليا في أم درمان، وإن كانوا لا يوافقونها في كثير من متطلباتها، التي زعزعت ثقة أهل السودان فيها بشدة، إلا أن الوقت ليس مناسبا البتة لتصفية الحسابات الثانوية معها، بل إن هناك حسابات أهم يجب أن تصفى مع العدو الخارجي، كما أن الروح المعنوية قد انهارت نسبيا لبعض الجنود، بعد هزيمة جيش عبد الرحمن النجومي، في معركة توشكي، ونظرا لبعد المسافة بين المركز في وسط البلاد، وبين أبي حمد في شمالها، فقد تأخرت القرارت الحاسمة التي تحتاج لإشراف الحكومة ومباركتها، وهو ما لم يكن، لكن المقاومة الباسلة لم ولن تنتكس رايتها، أو تنكسر شوكتها، أو تلين قناتها، ما دامت قلوب المجاهدين تنبض باليقين.
لحظة الإصطفاء:
استمرت منافحة المجاهدين البواسل في أبي حمد، فترة ليست بالقصيرة، مقارنة مع إمكانياتهم التسلحية الضعيفة في مواجهة الغزاة، وقد لعب التكتيك المبارك لبعض الأهالي المجاهدين، دورا كبيرا في تطويل فترة الصمود، ومدها إلى لحظة الأجل المحتوم، ففي حادثة طريفة، ونادرة غريبة، أن الحمير الداجنة قد استخدمت بذكاء في مقاومة الغزاة، وذلك بعد أن أشار بعض من ذوي الخبرة والرأي، بالتمويه على جيش الغزاة عن طريق الحمير، وذلك بربط مجموعة من الفوانيس الموقدة في أعناقها ليلا، وجعلها تسير باتجاه الغزاة، حتى يعتقدوا من على البعد، بأنها المجاهدون السواري جاؤوا لمهاجمتهم ليلا، وبالفعل فقد انطلت عليهم هذه الحيلة الذكية جدا، فبدأوا في إفراغ ذخيرتهم العزيزة فيها، فكان أن تكبدوا جراء ذلك خسائر فادحة، وعايشوا شعورا مقيتا بالإستهزاء عند معرفتهم بأمر هذه الحيلة، بينما ابتهج المجاهدون المؤمنون، وفرحوا بنصر الله، مساء ذلك اليوم المشهود، الذي رفع روحهم المعنوية إلى حد بعيد، وهذا إن نم عن شيء فإنه ينم عن استراتيجية المقاومة الذكية التي اتبعها المجاهدون في ذلك الزمان، إلا أن الكثرة غلبت الشجاعة، وليقضي الله أمرا كان مفعولا، ومن اللطائف ما ذكر من أن بعض هذه الحمير المستخدمة في هذه الحيلة الذكية جدا، قد نفرت من إطلاقات الغزاة النارية، وجفلت بعيدا عن العمران، وشردت، واستوطنت فيما يعرف بوادي الحمير على مسافة من أبي حمد كما ذكر لي.
فكان أن شن الغزاة هجوما مباغتا على حامية المجاهدين في أبي حمد، في فجر السابع من أغسطس عام 1890م، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة بعد أن ووجهوا بمقاومة عنيفة منقطعة النظير، أنبأت عن فروسية نادرة، كانت نتيجة حتمية لإيمان راسخ، وعقيدة ثابتة، فقتل ما يزيد على ثلاثمائة مجاهد، في ذلك اليوم الجليل، الذي أراده الله عز و جل ليكون يوم فداء وتضحية، وليكون يوم اتخاذ واصطفاء واختيار، لهذه الأرواح الطاهرة التي حلقت بشهادتها حتى دخلت حواصل الطير الخضر في الجنة، وقد كان الحاج السنوسابي واحدا من زمرة هؤلاء المصطفين والمختارين، والذي ثبت حاملا للراية، ومحافظا على اللواء، الذي أصبح التذكار الوحيد من أب المجاهدين السودانيين محمد أحمد المهدي، فقد تواتر عنه أنه لم يمكن منها الأعداء حتى من بعد ما أحكموا عليه الخناق، بل ألقاها في ماء النيل الفردوسي، ففاضت في ذلك اليوم روحه الطاهرة مع رفقائها من الأرواح الأخرى، واستوفت حقها كاملا مكملا في الجنة بإذن الله عز وجل، عارجة إلى بارئها في رضاء تام، وذاهبة إلى ضيافته في حبور عظيم، فرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ينتظر أرواح هؤلاء المجاهدين بشوق عظيم، فهل ظفروا بمبتغاهم، نعم بكل تأكيد، فقد كان الظفر حظهم، والفوز نصيبهم، فلتبق للأرض أجسادهم مثخنة بدماء الكرامة، ومطرزة بجراح العز والإباء، فكلها تبرأ بإذن الله عز وجل، عند فوزهم بمستقبلهم عند بارئهم، فلتتلاحق على طريقهم مواكب الشهداء، وتمشي قوافل المجاهدين، وليتتابع الزحف العنيد صادعا بالحق، هادما لعروش الطغاة، مزلزلا لصروح الظالمين، وملقيا في قلوب الذين كفروا الرعب، فإن رواد الجاهلية المعاصرين من غزاة إنجليز وغيرهم، لا يخشون إلا الإسلام على زعامتهم، ويدركون أن انتصاره يعني انكشاف أمرهم، وانفضاح مكرهم، وبالتالي زوالهم عن مسرح الخداع، وحلبة التضليل إلى الأبد.
وبعد كل هذا، فقد ظلت قصص هؤلاء المناضلين الأبطال، والمجاهدين الأفذاذ، تتناقلها الألسن بكل فخر واعتزاز من قبل أبناء أبي حمد وغيرهم، وصدق الله العظيم حينما قال في محكم تنزيله: "ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون o فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون o يستبشرون بنعمة من الله و فضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين o الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم o الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل o"، فهذه الآيات الكريمة يمكن أن تتأول في حقهم كأحسن ما يمكن أن تتأول، وفي حق كل مجاهد صابر نصر الله عز وجل، وانتصر للحق، فنصره الله تعالى وأيده  برضائه وحنانيته، فالقرآن الكريم معجزة الله الخالدة، وهو صالح لكل زمان ومكان، وذلك ببساطة، وبدون تعقيدات، لأنه دستور حياة، وقانون كوني، وناموس لا يقهر.
وقد تواتر إلينا أن جدنا الحاج السنوسابي، قد دفن في مناطق المناصير بعيدا عن أبي حمد، بعدما ألقي جثمانه الطاهر، كغيره من الجثامين الطاهرة الأخرى في النيل الخالد، لأن الأنجاس الإنجليز، قد ارتأوا أن أفضل وسيلة لإعلان نبأ انتصارهم المزعوم، لقائدهم المشؤوم السردار كتشنر، في معسكره في مروي، هو هذه الوسيلة الغير إنسانية، والغير لائقة البتة للتعامل مع حرمة الجسد الإنساني، ناهيك عن ما يمكن أن تسببه أعداد كبيرة من الجثث الملقاة في الماء من ضرر بيئي بين، فكان أن طفى ما وصل منها إلى مروي على سطح النهر، حتى علم كتشنر، أن خط السكة الحديدية قد تأمن، وأن حامية أخرى للمجاهدين الأبرار قد سقطت في الطريق إلى أم درمان لاحتلال السودان، لكن يد القدرة الإلهية قد شاءت أن تنجو بعض من جثث هؤلاء الشهداء الأطهار، لتخبر عن لؤم الغزاة الأشرار، وقساوتهم لمن لم يكن حاضرا للمشهد من بدايته، فقد ألقى النيل ببعضها في ضفتيه، وكان أن ألقي جسد الحاج السنوسابي، في منطقة من مناطق المناصير شمالي أبي حمد، حيث تم التعرف على جسده الشريف، المربوط بعمامة مفتولة مع أحد أبناء عمومته، عن طريق بزته الفاخرة، وسمته المتميز، وعن طريق خنجره الذي  طبع عليه اسمه، وهي واحدة من علامات الفروسية في ذلك الزمان، ولطالما تمنى أن يمعن بهذا الخنجر في أحشاء أعداء الدين، وأعداء الأمة والوطن، وأعداء الإنسانية ككل، ولله در الشاعر الفلسطيني الدكتور عبد الغني أحمد التميمي، الذي قال في مقطع جميل من قصيدة طويلة عنوانها: "رسالة مطولة من فلسطين إلى السودان"، ألقاها في قاعة الصداقة في مدينة الخرطوم، التي ارتجت أرجاؤها بتكبير الجمهور المنفعل والمتجاوب مع إلقائه المعبر لهذه القصيدة الرائعة وذلك في ظروف استثنائية كانت كوات الجنة مفتوحة فيها في الثغور السودانية:
أقولها صريحة:
يا أيها السودان...
كأنهم لم يقرأوا...
تاريخك الطويل...
كأنهم لم يسمعوا...
 نشيد نهر النيل...
يقول:
منبعي و رافدي...
وكل قطرة تصب في مواردي...
شواطئي...
مضايقي...
مصائدي...
وكل كائن ونبتة...
تعيش في الضفاف والسهول...
بل كل ذرة تقول:
ليحكموا الهجوم...
لن يظفروا بقطرة...
بشعرة...
بصخرة...
أو قشة تعوم...
مائي على أمثالهم سموم...
أنشودة ألفها النيل العظيم...
قصيدة على المدى تنشدها الخرطوم...
وبالتالي فقد حق لجدي الحاج السنوسابي بعد كل هذا، وهو وهو والفضل لله وحده، أن ينشد بألم، وأن يصرخ بتحسر:
ولو  أني   بليت   بهاشمي     خؤولته     بني    عبد المدان
لهان  علي  ما  ألقى  و لكن      هلموا   وانظروا  بمن  ابتلاني
فقد ابتلي بهنتر كلب الإنجليز النجس، وأتباعه القذرين، وقد تواتر إلينا أيضا أن الحاج السنوسابي، دافع باستماتة غريبة، عن صغار من أبناء المجاهدين، كانوا يصحبونهم في المعركة، حتى أمنهم، وأمرهم بالرجوع إلى العمران، ثم عاد لمواصلة القتال، وما ذلك إلا لكي يبقوا حاملين لأسماء آبائهم المجاهدين، وساعين للثأر لهم فيما بعد، وقد كان له ما أراد، وظهرت منهم ذرية طيبة مباركة ميمونة، ستثأر لهم بالحق أيما ثأر، وتحث الخطى في طريق الجهاد الذي سلكه آباؤها من قبل، والحمد لله، فنحن نحسب أنه قد غفر له مع أول قطرة نزلت من دمه الطاهر، لأنه مات مدافعا بقضه وقضيضه، عن كرامة الإنسان وعزة الأوطان، فطوبى له من بطل مجاهد، ومن شهيد فاضل.
وقد تواتر لي أن أكثر الموتى والشهداء في هذه المعركة الغير متكافئة كانوا من النساء والأطفال والشيوخ العزل، لأن القوات الغازية قد استخدمت الذخيرة الحية والقذائف المدفعية دون رحمة أو هوادة كما ذكرنا، مما جعل الكثيرين منهم يهربون ابتغاء النجاة والسلامة، فهم لا ذنب لهم ولا جريرة، ولم يكن أمامهم من طريق مفتوحة سوى طريق صحراء العتمور المهلكة فسلكوه مضطرين، لعل قسوة هذه الصحراء وحرارتها ووحشتها تكون أكثر حنانا عليهم من الغزاة المجرمين، الذين خلت قلوبهم من قيمة الرحمة، وخصيصة الرأفة، فقد ذكر أكثر من ذاكر أن جنود الجيش الغازي قد تبع هؤلاء الفارين من بطشهم رغم هربهم واستسلامهم وأمعنوا فيهم ذبحا وتقتيلا حتى امتلأت الطرق والشوارع والقفار بجثث الشهداء والموتى، ومن لم تكن أسلحة الغزاة سببا لموته المباشر وعلة له كانت قسوة الصحراء هي السبب والعلة، قال الشاعر:
من لم يمت بالسيف مات بغيره          تعددت الأسباب والموت واحدُ
وقد ذكر الرواة بعد فترة ليست بالقصيرة من انتهاء المعركة أنه قد تمت مشاهدة العديد من الهياكل العظمية البشرية لأعمار وأجناس مختلفة مع بقايا ملابس عليها آثار دماء وضرب في طريق العتمور المؤدي إلى منطقة سيدون، وهي هياكل قتلى المعركة وشهدائها دون شك وذلك لكثرتها ووجود هياكل بعض الدواب كالجمال والخيول معها.
  وقد تواتر أيضا أن أحد المجاهدين من الرباطاب ممن شارك في موقعة أبي حمد، تظاهر بالموت مع الميتين من الشهداء الأفاضل، بعدما أثخنته جراح الغدر والطغيان، ولعله كان فاقدا للوعي، عندما ألقيت جثته مع الجثث الملقاة في عرض النيل، فتمكن من السباحة للضفة الأخرى بعيدا عن الأعداء، ولما أن نجا أشار إليهم ملوحا بيده هازئا منهم، فسددوا عليه إطلاقة نارية أصابت راحة يده التي كان يلوح بها، فأصبحت هذه علامة مميزة له فيما بعد، والأمر الواضح والجلي أنه لم يكن من ضمن الفارين من الزحف المولين للأدبار، فالله سبحانه وتعالى قد خفف على عباده الصالحين عندما جعل الواحد من المؤمنين باثنين من الكافرين، ولكن قديما قالوا إن الكثرة غلبت الشجاعة، ولأبي الطيب المتنبي بيت شهير في هذا المعنى يقول فيه:
الرأي قبل شجاعة الشجعان        هو  أول  وهي  المقام  الثاني

وبمثل ذلك قد فصل علماء الشرع، وأهل الشريعة، كما أن هذا المجاهد أصبح شاهد عيان للفظائع التي ارتكبها الإنجليز القذرين، وأشياعهم الأوباش، في حق المجاهدين الصامدين، وليقضي الله عز وجل أمرا كان مفعولا، وهو وحده من له الأمر من قبل ومن بعد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق