قراءات سودانية – بقلم: د. مجدي الحاج – المقال رقم: 4
الذَّهب السُّوداني يرفد خزينة دولة الخلافة العبَّاسية
من الملاحظ أن علاقة السودان بدولة الخلافة العباسية أيام عنفوانها، وأيام سطوة مجدها، كانت علاقة وثيقة للغاية، فقد كان يعد من ضمن أقاليمها الواسعة، ولها عدة اتفاقيات مع حكامه المحليين، منها اتفاقية عبد الله بن الجهم مولى أمير المؤمنين صاحب جيش الغزاة عامل الأمير إلى إسحاق بن أمير المؤمنين الرشيد أيام المأمون عبد الله بن هارون الرشيد مع البجة، وقد استمرت هذه الإتفاقية مدة خمسة عشر عاما، ثم تغلبت على البجة بعد ذلك، عدة عوامل أهمها العامل الإقتصادي، فقد بدأ ملك البجة بطرد العرب من جميع المناجم والمدن في أرضه، ومنع دفع الخراج، ومن الواضح أن المعاهدة كانت في صالح العرب الذين نسوا أنهم لم يبعثوا جباة، وإنما بعثوا دعاة وحاملي رسالة، فقد جعلت الإتفاقية من البجة عبيدا لغيرهم، وهم الذين لم يألفوا الخضوع والخنوع، فقد فرضت عليهم أن يشتغلوا في حفر المناجم، وأن يدفعوا الضرائب عن أموالهم مرغمين وبدون مقابل.
وقد جاء في تاريخ الطبري، أن البجة خرجوا من بلادهم إلى مناجم الذهب والجواهر، فقتلوا عددا كبيرا من المسلمين ممن كان يعمل في المعادن، وسبوا عددا من نسائهم وذراريهم، وذكروا أن المعادن لهم وهي في بلادهم، وأنهم لا يأذنون للمسلمين دخولها، فانصرف المسلمون عنها خوفا على أنفسهم، وعلى ذراريهم، فانقطع بذلك ما كان يؤخذ للسلطان بحق الخمس، من الذهب والفضة، فقرر الخليفة العباسي المتوكل محاربة البجة، فولى أحد رجاله وهو محمد بن عبد الله المعروف بالقمي، نسبة إلى مدينة قم الفارسية، وولاه معادن تلك المعادن، وقد انتصر على البجة عام 241 هجرية، عندما جاءه مندوب ملك البجة طالبا الهدنة، وكان القمي قد غنم تاج الملك، فأعطاه الأمان ورد إليه بلاده التي دخلها على أن يؤدي ما عليه من المتأخرات من الخراج، وعاد القمي ومعه ملك البجة أولبابا إلى الخليفة المتوكل في مدينة سر من رأى أو سامراء حاليا في العراق، بعد أن استخلف ابنه فيعس على مملكته، وخلع عليه المتوكل حللا من الحرير، واعترف له بالسيطرة التامة على طريق ما بين مصر ومكة المكرمة من ناحية أرضه، ووضع المتوكل على رأس أولبابا عمامة سوداء، وهي شعار بني العباس، بدلا من التاج، ورجع أولبابا إلى بلاده معززا مكرما، ومحملا بالهدايا.
وكان من نصوص الإتفاقية التي عقدت أيام الخليفة المأمون ما يلي:
1ـ أداء الخراج في كل عام على ما كان عليه سلف البجة.
2ـ مراعاة ذمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وذمة أمير المؤمنين أعزه الله، وذمة جماعة المسلمين، فمن استحل شيئا من هذه الذمم، فقد أحل دمه كما يحل دم أهل الحرب وذراريهم، وذلك بإعانة المحاربين على أهل الإسلام، بمال، أو دله على عورة من عورات المسلمين، أو أثر لعزتهم.
3ـ دفع دية المقتول عمدا، أو سهوا، أو خطأ، حرا كان أو عبدا، من المسلمين وأهل الذمة، مضاعفة عشر مرات، وفي كل ما يصاب من المسلمين وأهل الذمة عشرة أضعاف.
4ـ إن دخل أحد من المسلمين بلاد البجة تاجرا، أو مقيما، أو مجتازا، أو حاجا، فهو آمن من قبلكم كأحدكم حتى يخرج من بلادكم.
5ـ على أن البجة إذا نزلوا بصعيد مصر، بتجارة أو مجتازين لا يظهروا سلاحا، ولا يدخلوا المدن والقرى، ولا يمنعوا أحدا من المسلمين الدخول في بلادهم والتجارة فيها برا أو بحرا، ولا يخيفوا السبيل، أو يقطعوا الطريق على أحد من المسلمين ولا أهل الذمة، ولا يسرقوا المسلم ولا الذمي مالا.
6ـ وألا يهدموا شيئا من المساجد التي بناها المسلمون في صبحة وهجر، وسائر بلادهم طولا وعرضا، فإن فعلوا ذلك فلا عهد لهم ولا ذمة.
وغير ذلك من البنود في هذه الإتفاقية المهمة، ذكرت هنا لتقرير الشبه الكبير بينها وبين واقع الدولة في السودان حاليا، متمثلة في الشمال المسلم والمستعرب، والجنوب الأفريقي اللاديني والمتنصر، حتى يشرق بصيص الأمل والتفاؤل في مستقبل السودان القادم بإذن الله عز وجل، فقد كان البجة في يوم من الأيام من ألد أعداء الدولة الإسلامية، وهم اليوم من أشد مناصريها، حتى أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: "لن تقوم الساعة حتى ينصركم ببيت المقدس رعاة الإبل من السودان"، وبالتأويل فإن هذا الحديث الشريف ينطبق تماما على البجة والعناصر المماثلة الممتزجة والمتداخلة معهم حاليا، هذا والله أعلم، فقط يراد تأكيد مبدأ نصر الله عز و جل لهذا الدين، وإظهاره عند صبر الدعاة ومجاهدتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق