الخميس، 12 يوليو 2012

عمائم الطرق السريعة - للكاتب الصومالي الصديق الدكتور محمد علي ديريه

إن الكرام إذا ما أيسروا ذكروا*من كان يألفهم في المنزل الخشن

تجتاحني حمى رمضان فأدعوا كل مساء : اللهم بلغنا رمضان.. اللهم بلغنا رمضان.

ولا ذكرت رمضان إلا وتبادر إلى ذهني صيف الخرطوم وحرها.. ووالله لو خيرت بين أجر الثلاثين يوما في الخبر بين أمي وأبي وجموع إخوتي وبين أجر صيام يوم قائظ في الخرطوم لترددت كثيرا.. مع يقيني الكامل بأن الله سبحانه لا يناله منها شيء سوى التقوى، وهذا ما لا أضمنه في كلتا الحالتين!..

ومازالت أمي تستلقي على ظهرها كلما فكرتها بقصة حلاق حارتنا بالقرب من سكن الجامعة، كان شيوعيا ضليعا في القانون امتهن الحلاقة بعد أن قضى في السجن بضع سنين قلبت فيها الدنيا لحزبه ظهر المجن، وكانت الأمور إليهم فصارت عليهم وآلت الحال إلى ما قال أبو الطيب:

وعاد في طلب المطلوب تاركه***إنا لنغفل والأيام في الطلب

الشاهد أنه كان غليظا مع كل الشباب القادمين من السعودية.. فكلما حلق لأحدهم همس في أذنه قائلا: والله ودخلنا الجنة يا ناس السودان.. وقعدتوا برا يا ناس السعودية!

وعندما يستنكر صاحبنا الملتزم يبتسم أمجد قائلا: أيدخل أهل السعودية الجنة بصيامهم تحت المكيفات.. ويذوق أهل السودان جهنم مرتين؟!

إن ربك لغني عن هذا!

وقريب من هذا طرفة الكويتي الذي قرر الإستثمار في –دنقلا- حاضرة شمال السودان وإحدى أسخن بقاع البسيطة..

صادف أن حل عليهم في رمضان.. وعندما تشرق الشمس ينزل الدنقلاويون إلى النيل أو إلى مزارع البلح والبرتقال الوادعة على كتف النيل.

بينما يتمدد صاحبنا المعود بجوار النهر الخالد حتى يرتفع آذان المغرب ويفاجأ قبل الإفطار بدعائهم:
- ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم.. فيضحك قائلا:
- والله اللي تقبل مني.. يتقبل منكم.. قال تقبل قال!

والطرفة عند القوم حاضرة.. فلا يمكنك مقاومة صيف الخرطوم الجائر إلا بالابتسامة ومسبباتها من النكت والطرائف وما انتسب إليهما..

أما طباعهم فإني عاشرتهم خمس سنين فما رأيت إلا سماحة النفس وطيب الخاطر وانبساط الراح، على تواضع ورثوه من السادة الصوفية فلا تكاد تميز رجلا بهيئته أو بثيابه.. وإنما المنزل هو المقياس الإجتماعي للمواطن السوداني!

ومعيب عندهم في رمضان أن يفطر الرجل لوحده مع آل بيته، بل يجمع كل بيت إفطاره ويفترشون وسط -الحلة- أو الحارة ويتقاسم الجميع البسمة قبل اللقمة وهذا ديدنهم على الدوام.

بل وأذهلني منظر صخور كبيرة تفترش طريق الخرطوم - مدني وهي جزيرة جميلة تبعد عن الخرطوم 200كم، ولم يكن الوقت وقت قطاع طرق.. إذ الشهر رمضان والزمان قبل الأذان..

وإذ بشيخين يقفان على طرفي الطريق مادين عمامة أحدهما بالطول سادين الطريق على كل الحافلات، وعندما نزل سائق الحافلة لإقناعهم فاجأنا شباب القرية بإنزالهم الركاب والتودد إلينا أن افطروا عندنا اليوم، ثم المبيت وبعدها تزال الصخور والعمائم!

ودواليك في كل طرق السودان السريعة والبطيئة.. إذ يمنع أهل القرى المشي حتى يؤدي القوم واجب الضيافة مقرونا بالمبيت الذي لا يتنازل عنه السودانيون أبدا.

وأذكر أن فقدنا صديقنا العراقي الذي أرسلناه ليأتي بالثلج من الدكان قبل الإفطار بدقائق، ولم يصلنا إلا بعد التراويح حيث اغتاله بعض كرماء الحارة من أصحاب عمائم الطرق السريعة أعلاه!

ولا يتم أُنسُ الزول حتى تنام عنده.. وعندما تصبح الصباح تجد "الزنوبة" أو "الإسفنجة" تحتك وكوب "الجبنة" بانتظارك.. وهي قهوة لا يحسنها إلا أهل شرق أفريقيا وأشبه ما تكون بالتركية عند سواهم، ثم يناولك الفرشاة والمعجون الخاصين بك، وهذا يوازي دهن العود عند السادة البدو إذ لا جلوس بعده.

وما زالت سحنتهم الإفريقية تشككني بجذورهم العربية، حتى زرت (الزيداب) وهي من قرى قبيلة الجعلية التي ينتمي لها المشير عمر البشير.. فذبح لنا القوم الخراف حتى خفنا على وارد المملكة من السواكني ذلك العام!

ثم زرت مزارع البرتقال والنخيل على ضفتي النيل، وكان أن غفل ولد مضيفنا القروي عن إحضار طعام الغداء.. فصرخ به والده:

- أسرع إلى أمك يا بن الغلفاء.. وأحضر الغداء للرجال.

ثم تبينت أنها شتيمة بليغة عندهم، ومؤخرا وجدتها في شعر امرئ القيس والمتقدمين، كنايةً عن فحش المرأة التي لم تختن وتطلعها الدائم إلى الرجال بشهوة، وهو ما كان يعيبه العرب على الفرس والروم والله تعالى أعلم.

وككل الأفارقة يموت السوداني وهو يتسائل:

- لماذا اختارني الله -بالزات- ليخلقني سودانيا.. ويرى في هذا دليل سخط لوحده، ويبعث مثل سيبويه وفي نفسه شئ من هذا التساؤل!

ولا أظن أن هناك بلدا يحتفي أهله بالغريب مثل السودانيين، كُتب في أعلى بطاقة الطالب الوافد: (والذين تبوؤوا الدار والإيمان من قبلهم يحبون من هاجر إليهم).. وبعض الدول العربية يستبدلون يحبون في الآية الكريمة ب -يرحلون- وشتان ما بين المفردتين!

وإذا علم العاقل بعض درجات الحرارة المعتمدة في الخرطوم لعذر القوم على كثرة الكسل والنوم، وهذا لعمري جزء من نضالهم للبقاء على قيد الحياة.

أما الحديث عن الفول -حبيب الشعب- ونكت المواصلات وقصص السكارى في الحافلات فهذا حديث يقطع به الطريق ويسلى به عن القلب المحزون.. وما زلت عند قولي:

- الخرطوم : مدينة تقرأ بالنهار.. وتسكر بالليل!

وعن القراءة حدث ولا حرج فكل حزب يملك جريدته الخاصة، وكل فريق رياضي، وكل نقابة، بل وأشك في أن كل فرد في طريقه لإصدار جريدته بعد عام!

والسوداني مستعد للنوم جائعا على ألا يغيب طفله عن مقاعد التعليم ساعة، ويحتفظ كل مواطن برأيه الخاص في كل شأن سياسي ابتداءً بإيقاف البشير وانتهاءً بخريطة الطريق.

وهذا لا يمنعني من حبهم ومن حفظ الجميل لهم، وتالله لقد قضيت عندهم أياما كنت أستثقلها في حينها، وأنا المشتاق إليها اليوم..

أصبحت مهووسا بالسمر الطوال.. في الإشارات أبادلهم التحايا، وأفتح لهم الطريق في التقاطعات، وعندما توفي الطيب صالح حزنت كثيرا وواسيت جماعة المسجد من السودانيين.

وفي المستشفى حيث أعمل: لا أملك قلبي، فوجع السوداني في قلبي مضاعف، وأنا الذي ذقت الملاريا عندهم حتى هذيت بالصومالية مع العربية وهذا شئ عجاب!

وكل هذا قد يهون: لكن من يستطيع أن يمحوا منظر الشيخين الممسكين بالعمامة من الطرفين حبا في الضيفان.. من ذاكرة أبي الدراري المتعبة حبا.. من يستطيع؟!..

اللهم بلغنا رمضان.. آمين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق