وطني يا آنستي لا يجذب السياح رغم ما منحه الله من هدايا الطبيعة الساحرة، ولا يغري المستثمرين رغم احتوائه على النفط والمعادن والثروات والأراضي الشاسعة، ليس نشيطا ثقافيا رغم أن أهله يتحدثون شعرا ونثرا.
مضت ثلاثة شهور منذ قدومي إلى روسيا، أمشي على شاطئ بحيرة بيكال (لؤلؤة سيبيريا) وأنا أحاول تدفئة نفسي بحشرها بين صفوف الطلاب، كنا في رحلة جامعية غرضها الاستمتاع باحتفالات أعياد الميلاد ورأس السنة، البرد جاد جدا في هذه البقعة المجنونة من الأرض، أتشبث بجوربيَّ السميكين وأحاول إيقاف أسناني عن الرقص في حين كانت (نتاليا) المرشدة السياحية للفرقة تسرد القصص عن بايكال، أعمق وأصفى وأقدم وأجمل بحيرة في العالم.
نتاليا فتاة عشرينية بوجه طفولي، كانت تتكلم بإنكليزية سريعة متقنة تتخللها بعض الكلمات الروسية، توزع ابتساماتها وصوتها الذي يستحق الإنصات وهي تقف على صخرة عالية وقد لفّت كتفيها بالصوف تاركة نصفها السفلي ليلسعه البرد أو ليلسعنا.
كانت شمس ذلك اليوم خائفة، تتوارى خلف غيم كثيف وتبعث بأشعة خافتة تتواطأ مع الثلج لتملأ الفراغ بضباب كثيف، فجأة انزلقت قدم نتاليا فأطلقت صرخة عالية، وقبل أن تتمّ صرختها كنت أتلقف رأسها الذي كاد أن يصطدم بالأرض الحجرية، لا أدري كيف حدث هذا في جزء من الثانية على الرغم من أنني لم أكن الأقرب إليها إلا أنني قفزت لإنقاذها في الوقت المناسب.
هل أنت بخير يا آنستي؟
سألتها فأجابت بإيماءة وابتسامة ساحرتين ولكن الألم كان بادياً على وجهها، تدخلت الممرضة التي تصاحبنا وقامت بتدليك ساقي نتاليا العاريتين، أرادت الممرضة الاتصال بمسؤول السلامة للمكتب السياحي لكن نتاليا أكدت أنها بخير، أمسكت بكفِّها الجدار المدبب فأعطيتها يدي للكف الأخرى فانتصبت بقامتها الفارهة وهي ترش عليَّ عطرها.
شكرتني نتاليا ثم استأنفت نشاطها وكأن شيئا لم يكن، وأنا ألملم ذبذبات صوتها من الأثير وأنسج منها موسيقاي الخاصة، كأني سمعتها تقول إن البحيرة تكونت من صخرة ضخمة سقطت من السماء، وكأنها روت أن عيسى عليه السلام زار البحيرة وحدد أن شمال البحيرة أرض مباركة وجنوبها أرض ملعونة وأن الذرة مازالت لا تنبت في الأرض الملعونة، ثم كأنها أضافت أنْ ليست هناك امرأة كالحاجة آمنة تطبخ عصيدة الذرة بالتقلية بطعم لا يقاوم! ولكن.. يبدو أن البرد قد عصف بتركيزي، لا أدرى كيف أتيت بإرادتي إلى هذا الموت البارد الذي حجب عني جمال كل شيء.
كانت البحيرة لوح من ثلج ممتد كمرآة أرضية، الأشجار بيضاء وسحب الأنفاس تحجب الرؤيا.
أفقت وأنا في غرفتي والممرضة تحاول أن تقيس حرارتي بوضع المحرار تحت إبطي، كيف وصلت إلى هنا؟ كنت ممدّدا والخدر ينسحب من رأسي ويتمشَّى إلى أقدامي.
اقتربت نتاليا مني ووضعت كفها على رأسي.
همد الله آسلاما
قالت وهي تبعث الدفء في عظامي فرُحت في غيبوبة أخرى.
لزمت غرفتي لأيام، وضعت قدمي داخل جوارب سميكة ورأسي داخل طاقية من الصوف وجسدي داخل كل ما جاد به موظفو الفندق من بطاطين.
تذكّرت والحمى تعصف برأسي، ما كنت قرأته للإيطالي كورتيسو ملبارته: (إن هناك أفكارا لا يمكن أن تذوب إلا في درجة حرارة عالية).
فتّشت عن أفكار يمكن أن تذيبها مثل هذه الحمى فلم أجد، ربما كانت أفكاري ذائبة أصلا وربما لم تكن لدي أفكار من الأساس. لديّ فقط تل من المناديل تعجز يداي أن تصلا بها إلى سلتها فأكوّمها بالقرب من رأسي.
لم أرد أن تراني هذه الروسية الآسرة وأنا في هذا القرف، يبدو أنها سهرت قربي لليلة كاملة وأنا أهذي، الحمد لله أنني وبلا شك كنت أهذي باللهجة السودانية التي لا تفهمها.
لن أنسى اليوم الذي حاولت فيه الوقوف للذهاب للحمام فشعرت بدوار، كانت نتاليا قد أذنت للممرضة بالذهاب ونامت مكانها جالسة، أحسّت بمحاولاتي الفاشلة للوقوف فمدت لي كفاً رقيقة بيضاء كالحليب، تأبّطت ذراعي وأنا أشفق على كتفها من خشونتي وثقلي أخاف أن أكسر ساعدها الرقيق الذي لفته حول صدري، لاحظت أن أطوالنا متقاربة، كم سيكون التوازي بيننا مثيراً لو احتضنتها، تمعنت في جسدها، لديها جغرافيا مدهشة التضاريس ومتعددة المناخات، كان ارتباكي عظيما بحيث لم يسعفني النطق وأظنها لاحظت ذلك وراق لها أن تضاعف ارتباكي وهي تلصق صدرها بصدري، تمنّيت ألا أصل إلى الحمام وألا أشفى، أحببت زكامي وحُمَّاي، ضعفي وحاجتي لاهتمامها، ولكنني حال خروجي من الحمام شكرتها وطمأنتها أنني بخير وطلبت منها أن تذهب لترتاح، أكدتْ عليّ ألا أتردد في الاتصال بها إن احتجت لشيء وتركتني حائراً، هائماً، أحتاج إليها احتياجا قاتلا ولا أجرؤ على الاتصال.
عندما تعافيت كنت قد انتزعت من نتاليا وعداً باصطحابي في رحلة صيفية إلى المكان نفسه، وما هي إلا شهور حتى كان الذي وعدتني به، فقد أدرجتْ اسمي ضمن قائمة الطلاب الذين لم تتح لهم فرصة زيارة سيبيريا بالشتاء.
من يرى سيبيريا في الشتاء وهي تمتد صحراء من ثلج قاسٍ لا يصدق أنها تستطيع أن تمنح الشمس والدفء والحياة، سيبيريا في الصيف ساحرة، تنسيك عمراً من الضجيج والعوادم والصحارى والجبال، وبيكال نقية حد الشفافية، ترى في قاعها انعكاس ما خبأته في قاعك.
• لو أستطيع حمل النيل إلى هنا لأغسله في هذا الصفاء، أغسله من التماسيح التي عكرت صفوه وألحقت الجهل والفقر والجريمة والمخدرات بأسماكه المسكينة، ولكن يبدو أن للنيل حنينه وللنخيل حنينه، بل وللأرض الخواء حنينها. همست لنفسي.
• وين سرخان كالد؟
سألت بعربية جيدة كانت مع ثلاث لغات أخرى رصيدها الذي جعل منها المرشدة السياحية الأفضل في تاريخ الجامعة.
• مندهش من جمال بيكال.
قلت بروسية ركيكة وأنا أبحلق كالمعتوه في زرقة عينيها حيناً وفي زرقة بيكال أحياناً، محاصر كطارق بن زياد.
• هل تعلم أن بيكال هي جوهرة روسيا؟ يسمونها قلب سيبيريا الأزرق، يبلغ عمرها خمسة وعشرون مليون سنة ويقال بوجود كهف يوجد فيه هيكل بوذا، أنا شخصيا لم أره ولكني لا أستبعد وجوده.
كانت تتكلم وهي تتحرك بخفة فراشة فلم أقاطع استرسالها الطفولي.
• يصب فيها ثلاثمئة وستة وثلاثون نهراً، وتتوسع كل عام بمقدار سنتيمترين.
• أما نحن فلدينا نهر يضيق كل عام بمقدار وطن.
• ريفر نايل؟ وكيف يضيق؟
تساءلت وهي تعطيني يدها لأسندها ونحن نمشي على منطقة منحدرة.
• أبداً، تردمه السلطات بالنفايات النووية تارة وبالسُكّر تارة أخرى.
قلت وأنا أحاول أن ألملم أنفاسي
• السُكّر؟
• أما النفايات النووية فنشرت مرض السرطان في شمال البلاد، وأما السكر فربما لخلق أزمة أو ربما ليعادل طعم المرارة في حلوق شاربي الوجع.
• كالد ما فخمت.
من الطبيعي ألا تفهمني، كيف لها أن تصدق أنه يمكن لحزب معارض أن يرمي بمخزون البلاد من السكر في الماء لخلق أزمة للحزب الحاكم غير آبه بالأزمة التي يخلقها للملايين.
• لا عليك.
همست لنفسي أن لا داعي للنكد ولكن كان لنتاليا شغف غريب في أن تسمع، طلبت مني أن أحكي لها عن السودان، ذلك البلد البعيد على حد قولها والذي تسمع عنه فقط من خلال نشرات الأخبار والصحف، فهو من قلائل الدول التي لا تعلم عنها الكثير رغم العدد الكبير للطلاب السودانيين بالجامعة.
ماذا أقول لها؟
هل أحكي لها عن الاضطهاد اللوني والنوعي والثقافي؟ هل أعترف لها بأن بلادي تنتقص من حقوق المرأة وتتبنى الإكراه وأنها لا تسمح للمرأة الحرة المتطورة الواثقة من ذاتها أن تسير سيرها الطبيعي في الحياة وأنها لا يمكن أن تتجول بملابسها هذه في شوارع الخرطوم؟
• وهل العري حق من حقوق المرأة يا بن ال…
صرخ بي صوت لطالما صرخ.
هل أقول إن وطني لم يستطع أن يتشبث بالوحدة فاستأصل قدميه وعاد يحبو؟ هل أحكي لها عن المليون ميل مربع المتقلبة المزاج بصحاريها وغاباتها وجبالها ووديانها؟ ولكن لماذا لا أحكي لها عن التسامح والتراحم وسماحة الأخلاق وشاي الصباح وعصيدة الحاجة آمنة؟
أتحدى روسيا واتحادها السوفييتي إن كان بها نفير من خمسين رجلا يهبّون لدفن جثمان أو ردم بيت ليتامى أثناء السيول أو مد يد العون في نقل أسرة لمنزل جديد أو فرح أو ترح.
أعادني حماس نتاليا الذي لا يعرف النضوب:
• يللا كالد اهكي
• بلادي يا سيدتي هي الجسر بين العروبة والزنوجة.
• لكن أنت لونك مش أسود.
قاطعتني بطفولة محببة.
• لأنني من بلد النقائض، كم أحلم أن يفتح قلبه لكل الشرايين أبيضها وأسودها، ويخرج من الظل إلى بؤرة الضوء التي يستحق، يخرج بكل أعرافه وأعراقه، سحنه وثقافاته، إثنياته ومناخاته ليطلي خارطة العالم بقوس قزح، لي يا نتاليا وطنٌ قارة اختار أن يتقلص، أن يتحرّر من الانفتاح والجاذبية ويختار الزهد.
ها أنت كأغلب الناس، تسمعين لفظة سودان فتقفز الأسود والأفيال إلى رأسك، أو في أحسن الأحوال يرسم ذهنك صورة لمجتمع رعوي زراعي بسيط أو بعبارة أوضح متخلف.
بلادي، يا سيدتي الكريمة لم تكن أبدا بلادا جائعة قبل اليوم، كانت سلّة غذاء العالم وكان الناس يأتون إليها لطلب الرزق، المزارع تغطيها مد البصر والطواحين تدفعها الرياح الباردة فوق أشجار النخيل وقطعان الأغنام والأبقار والإبل ترعى ولا تخاف الذئاب.
ربما أحسّت بأنني أبالغ فنظرت إليّ نظرة عدلتُ بعدها الصورة:
أقصد أن أقول إن خبراء الزراعة يقولون إنه لو تمت زراعة السودان والأرجنتين بالصورة الصحيحة لكانا سلة غذاء العالم، لولا الحرب، لكن الحرب لم تمنع الخرطوم من أن تقرأ عندما كانت القاهرة تكتب وبيروت تطبع، هل ظلمنا أنفسنا أم الإعلام العربي هو الذي ظلمنا؟
راقتني نظرة التركيز التي بعينيها فاسترسلت
• نحن نقع تحت ظل القاهرة، هل قرأت عن القاهرة؟
أدري أن سؤالي كان مستفزاً لكنني ربما أردت فاصلا أغربل فيه الكلام كيلا أصحّح فكرتها عن السودان بمبالغة مضادة.
• ومن لا يعرف القاهرة، العاصمة الدبلوماسية والإعلامية والثقافية والفكرية التي تغزو العالم بتاريخها وحاضرها.
قالت بإنكليزية متماسكة وهي ترسم على ملامحها غضبا جادّا.
القاهرة هي الشجرة التي أبقانا قربها الجغرافي في ظلها، لكن حوار الحضارات بين أهل الشجرة وأهل الظل لم يكن موفقاً، الظل يحمي للشجرة طينها وماءها وهي تغذي بعضها بعضاً، وكلما استطالت رمت بظلها للبعيد لأن جذرها لم يعد يحتاجه، والمشكلة أن العلاقة بين الشجرة والظل ظلت تحكمها العاطفة المتذبذبة بدلاً من أن تحكمها الاستراتيجية.
وطني يا آنستي لا يجذب السياح رغم ما منحه الله من هدايا الطبيعة الساحرة، ولا يغري المستثمرين رغم احتوائه على النفط والمعادن والثروات والأراضي الشاسعة، ليس نشيطا ثقافيا رغم أن أهله يتحدثون شعرا ونثرا، وليس وجهة للتعلم رغم أن معلميه علّموا الشرق كله، أطباؤه عالجوا الغير وظل هو سقيما، مهندسوه عمّروا الأرض وظلت أضلاعه متداخلة وزواياه تفر من بعضها لكي لا تجتمع تحت سقف واحد، لكن خامته النادرة ليست الأرض ولا الثروات. خامته الأفخم هي إنسانه الطيب، المعتز بنفسه، الذي يحترم الغير دون خنوع، ويعطي دون حساب، ويشرع أذرعه بمحبة وبساطة ليحتوي الآخرين. إنسانه الذي قال نزار قباني عنه إنه الولد الأصفى والأنقى والأطهر، وقال هتلر عنه “لو أعطيتني سلاحاً ألمانياً وجندياً سودانياً لجعلت أوروبا تزحف على ركبتيها”.
شعرت للحظة أنني ربما أثقلت على الصبية بحديث السياسة الممل، لكنها كانت تستمع إليَّ وكأنني أرتّل إنجيلاً.
تمنّيت أن تسعفني لغتي الإنكليزية لأترجم لها أغنية عن السودان، أو تسعفها لغتها العربية لتفهمها كما هي، فكثير من النصوص تفقد روحها إذا ما تُرجمت، لكن إحدى اللغتين لم تفعل. سألتني باستغراب:
• بلد له كل هذه الإمكانات، لماذا لا يكون غنياً، أين الخطأ في رأيك؟
• لا أدري، ربما قادنا الزهد إلى الكسل، وربما كان كل ما قلته محض حنين أو وصف لماضٍ سحيق.
لم نشعر بالوقت حتى غابت الشمس، كنت أتحرّك في المسافة بين وعيها ووعي من التقيت بهن قبلها من النساء، فتنقطع أنفاسي، لأول مرة تدهشني امرأة بانغماسها في حوار سياسي، ديني، فكري بهذا الشغف، كشفت فيه عن ثقافة ثرّة دلت على أنها تعرف عن الإسلام أكثر مما أعرف، قالت إنها مأسورة بالتصوف، لم تأخذ موقفاً عدائياً من دينٍ، تقول هي، إن العالم قد أساء فهمه.