في شقة مفروشة ومليئة بالأثاث الفاره في أحد الأحياء الخرطومية الراقية، كانت الحيوية تندلق اندلاقا بين شبحين، كان الأثاث مريحا للغاية والأرائك الجلدية تلتمع، والبسط الملونة ترقص فوق الأرضيات الخشبية العارية، كانت الإضاءة خافتة، كان نمرق الأريكة اللازوردية مترعا بالحنين، كان الشبحان ما يزالان يركضان ويهرولان، تارة يقفزان كالأرانب البرية، وتارة يكمنان كالفهد الصياد، كانت لغة الإلتصاق هي لغة التفاهم الوحيدة بينهما، عموما ما أجملك يا وطن.
كان الإندهاش سيد الموقف، كانت الأنوثة فائحة كبخور "التيمان" في مجمر لا يحسن إلا الإرتعاش، كانت العيون غير مستقرة كأنما ركبت أحداقها فوق زئبق، فيها شغف بكل شيء، الشباب وما أدراك ما الشباب!، كان الإلتصاق هو جنونه الوحيد، وبافتعال خبيث سيظل هذا الجنون مقبولا بعض الشيء!، ويح العاشق حين لا يرد يدا عن ثوبها وهو قادر، ويحه حين يحيا طليقا بين المراعي الغزيرة في عشب الإبطين، والجداول العذبة في سلسبيل الشفاه، في كثير من الأحيان يكون هذا هو سبب انجذاب الذكور إلى الإناث، كن ممعنا في تسمية الأشياء بمسمياتها، كانا شبحين فواحين، رائحة الشباب تفوح منهما بقوة، رائحة الحلم تملأ الأجواء، وعطر الحب يتجسد كسحاب السماء المكتنز، عبير المروج ينساب بين يديهما حينما يلوحان لبعضهما في فرحة، لماذا لا تستكين الأذرع حينما تتحدث؟!، لم يبدو العالم وكأنه طفل مشاكس بينهما حين يدللان العنفوان العظيم؟!.
كانا شبحين لا يجيدان غير لغة واحدة، في أساليبها بلاغة مفرطة، وفي ألفاظها سحر جذاب، كانا منهمكين في الحفر والبناء، كانا يضعان اللبنة تلو اللبنة، كان البناء يعلو ويعلو، كانت اللبنات تلتصق، والحس يشتعل، كان العطر يحترق، كان بخور التيمان ما يزال يفوح.
- بلعت حبوب منع الحمل حبيبتي؟ (سأل الشبح الأول هامسا في أذن الشبح الثاني برقة).
- أيوه حبيبي. (هكذا كانت إجابة الشبح الثاني في اقتضاب يسير وعنفوان محتدم).
كانت اللغة الوحيدة لا تزال تنظم في أبيات القصيدة، كانت القصيدة فواحة المطلع، كانت القافية عذبة كالشفاه، ومغرية كالقبل، وجريئة كالنهود، ومشتعلة كالحلمات، و..........، يحلو الأمر ويعذب حينما يجدر بنا إخفاؤه كناية، كان الشبحان لا يزالان في حبور.
لم يكونا وحدهما، كان ثالثهما الملعون، كان الملعون شبحا مختلفا هذه المرة، كان لا يعترف بغيره من الأشباح، كان الصوت يأتي بوضوح، لا يخرجنكما من الجنة كما أخرج أبويكما ينزع عنهما لباسيهما ليريهما ما ووري عنهما من سوءاتهما، كانت السوأة تبدو أوضح، وكانت فرحة الضلال ممعنة في التقاط الصور لهما، كما كان العشيق يلتقط الصور لمفاتن جسد عشيقته من كاميرا هاتفه الجوال متقدم الطراز.
كان العشيق مغرما بالتقاط الصور الفاضحة، واستغلال سذاجة البنات اللواتي لا يحسن شيئا غير الإستسلام للحب الأعمى، ومن ثم يجعلها مادة للتندر بين أصدقائه السوئيين مثله من نافخي الكير، بينما كان الحب يقودهن إلى موارد الهلاك، لكن هذا الهلاك الصاخب كان أحب عندهن من هدوء النجاة.
كانت العشيقة هكذا، كانت من النوع الذي ينقاد بسلاسة مفرطة للعواطف، لا تهمها العواقب، ولا تستخدم العقل في التفكير، كانت كخضراء الدمن لا تحسن شيئا غير تدليل جمالها.
كان يعرف تماما أنها تعشقه، مغرمة به إلى حد الجنون، استغل وسامته الشكلية، فغطى على قبحه الداخلي في ناظريها، هي نسيت أن الله عز وجل لا ينظر إلى الصور والأجسام، ولكن ينظر إلى القلوب والأعمال، أوهمها بأنه الزوج المنتظر، وأنه لن يكون إلا لها، سلمته نفسها بعقد زواج عرفي في أرض لا تعترف إلا بالأعراف الممتهنة.
إن هؤلاء يحبون العاجلة ويذرون وراءهم يوما ثقيلا.